الأحد ديسمبر 22, 2024

قال الله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *} [سورة البقرة]

معنى الآية كلوا من الطيب الحلال وليس معناها ما يستلذّه الإنسان ولو كان حراما، وهذا ما ذكره ابن دقيقِ العيد في «شرح الأربعين النووية»[(41)]، وقال ابن رجب الحنبلي البغدادي من علماء القرن[(42)] الثامن الهجري في «جامع العلوم والحكم» في شرحه لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} ، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، «والمراد بهذا أن الرسل وأُمَمَهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال» اهـ.

وقال ابن حجر الهيتمي في كتابه «فتح المبين لشرح الأربعين» ما نصه[(43)]: «وهو الحلال الخالص من الشبهة، لأن الشرع طيّبَه لآكله وإن لم يستلذّه، وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه المُسْتَلَذّ أي شرعًا، وإلا فلذيذ الطعام غير المباح – أي الحرام – وبال وخسارة فيكون طعامًا ذا غُصَّة وعذابًا» اهـ.

وقال محمد بن عبد الله الجَرداني الدمياطي في كتابه «الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية» ما نصه[(44)]: «أي من حلال ما خلقناه نفعًا لكم. وسُمِّيَ الحلالُ طيبًا لأن الشارع طيَّبَه لآكله وإن لم يستلذّه والحرام، وإن التذَّ به آكلُهُ، يؤدي إلى العقاب فهو مضر. فقول الشافعي رضي الله تعالى عنه: «الطيب المستلذ». أراد به المستلذّ شرعًا لا حِسًّا. ألا ترى أن لحم الخنزير لذيذ وهو حرام إجماعًا، والصَّبِر – الدواء المر – لا لذة فيه وهو حلال إجماعًا» اهـ.

قال القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرءان» ما نصه[(45)]: «والطيبات هنا قد جَمَعَتَ الحلال واللذيذ» اهـ.

وقال الطبري في تفسيره «جامع البيان في تفسير القرءان» ما نصه[(46)]: «من حلاله الذي أبحناه لكم» اهـ.

فيتبيّن أن معنى «الطيبات» أي الحلال وليس معناها المستَلَذ ولو كان حرامًا، فهذا لم يقل به عالم معتبَر. فليُحذَر مما شاع بين الجهال من أنهم يحتجون بهذه الآية عند أكل المحرمات فإذا اعتُرِضَ عليهم وأُنكِرَ ذلك قالوا «قال الله تعالى: {…كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} »، وهذا معارضٌ لما ثبت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مُحَرِّم الحلال كمُستحِل الحرام، فما أحلَّه الشرعُ فهو الطيب المراد في هذه الآية الكريمة، وليذكر العاقل قول النبي صلى الله عليه وسلم «كل جسد نبت من حرام فالنار أولى به» . ويدخل في هذا التحريف ما انتشر في كثير من الدول والبلاد من أنهم يهجمون هجومًا على أكل اللحوم كالغنم والبقر والدجاج من غير التأكد من حِلِّها ويوردون هذه الآية في هذا الموضع. قال العلم الشامخ والجبل الراسخ القدوة الحجة الشيخ عبد الله الهرري في كتابه «صريح البيان في الرد على من خالف القرءان» ما نصه[(47)]: «حكم الأكل من اللحم الذي لم يذك ذكاة شرعية:

اعلم أن الذكاة الشرعية تكون بقطع مجرى الطعام والشراب ومجرى النفس بما له حدّ بشرط أن يكون الذابح مسلمًا أو يهوديًا أو نصرانيًا فإذا حصل هذا وكان المذبوح مأكولاً حلَّ الأكل منه لمن علم، وأمّا ما كان موته بما لا حدّ له كأن مات بسبب التردّي أو الغرق أو شىء يزهق الروح بثقله لا بحدّه فلا يحلّ أكله وأيضًا لا يحلّ أكل ما لم يعلم هل ذابحه هو ممن يصحّ تذكيته أم لا لأن أمر اللحم في هذا أشد من أمر الجبن والحلوى ونحوهما فإنه إذا شك شخص هل في الحلوى التي بين يديه أو الجبن الذي بين يديه فيها نجاسة جاز له الأكل منه مع الشك، وأمّا اللحم فلا يجوز الشروع في أكله مع الشك في ذكاته كما نصّ على ذلك الفقهاء كابن حجر الهيتمي والسيوطي من الشافعية والقرافي من المالكية وغيرهم. بل تحريم اللحم الذي لم يعلم طريق حله بأنه شُك في ذلك مجمع عليه.

ففي الفتاوى الكبرى[(48)] لابن حجر الهيتمي: «وسئل نفع الله ببركاته عن شاة مذبوحة وجدت في محلة المسلمين ببلد كفّار وثنية، وليس فيهم مجوسي ولا يهودي ولا نصراني، فهل يحلّ أكل تلك الشاة المذبوحة التي وجدت في تلك المحلة أم لا؟ فأجاب بأنه حيث كان ببلد فيه مَن يحلّ ذبحه كمسلم أو يهودي أو نصراني ومَن لا يحلّ ذبحه كمجوسي أو وثني أو مرتد، ورئي بتلك البلد شياه مذبوحة مثلاً، وشكّ هل ذبحها مَن يحلّ ذبحه لم تحلّ للشك في الذبح المبيح والأصل عدمه» اهـ.

وفي الأشباه والنظائر للسيوطي ما نصّه[(49)]: «الفائدة الثانية قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: الشك على ثلاثة أضرب شك طرأ على أصل حرام، وشك طرأ على أصل مباح، وشك لا يعرف أصله، فالأول مثل أن يجد شاة في بلد فيها مسلمون ومجوس فلا يحلّ حتى يعلم أنها ذكاة مسلم أصلها حرام وشككنا في الذكاة المبيحة» اهـ.

وفي كتاب التاج والإِكليل لمختصر خليل في هامش كتاب مواهب الجليل شرح مختصر خليل[(50)] – باب الوضوء نقلاً عن شهاب الدين القرافي ما نصّه: «الفرق الرابع والأربعون بين الشك في السبب والشك في الشرط، وقد أشكل على جمع من الفضلاء قال: شرع الشّارع الأحكام وشرع لها أسبابًا وجعل من جملة ما شرعه من الأسباب الشك، وهو ثلاثة مجمع على اعتباره كمَن شك في الشاة المذكّاة والميتة وكمَن شكّ في الأجنبية وأخته من الرضاعة» اهـ.

أي أنَّ تحريم ما شُك فيه من اللحم مسألةٌ إجماعية، فلا التفات إلى ما يُخالفُ هذا الإِجماع من قول بعضِ أهلِ العصر المتعالمين، وهؤلاء ضرّوا النَّاسَ برأيهم المخالف للإِجماع في البلاد العربية وفي أوروبا وأمريكا ومَوّه بعضهم بإيراد حديث أخرجه البخاري في صحيحه – في كتاب الذبائح والصيد والتسمية على الصيد في باب ذبيحة الأعراب – على غير وجهه، والحديث وردَ في ذبيحةِ أناس مسلمين قريبي عهد بكفر وذلك لقول عائشة: «يَا رَسولَ الله إنَّ أناسًا حديثي عهدٍ بكفرٍ يأتوننا بلحمان لا ندري أذُكِرَ اسم الله عليها أم لا، فقال: «سمّوا اللهَ أنتم وكلوا» ، ومعنى الحديث أن هذه اللحوم حلال لأنها مذكّاة بأيدي مسلمين ولو كانوا حديثي عهد بكفرٍ ولا يضرّكم أنكم لم تعلموا هل سمّى أولئك عند ذبحها أم لا وسمّوا أنتم عندَ أكلها أي ندبًا لا وجوبًا لأن التسمية سنّة عند الذبح فإن تركها الذابح حل الأكل من الذبيحة.

فمن أين مَوّه هؤلاء بإيراد هذا الحديث على غير وجهه فكأن هؤلاءِ قالوا إنَّ الرسولَ أحلَّ أكلَ ما لم يُعلم هل ذابحه مسلمٌ أم مجوسي أم بوذي أم غير ذلك بالاقتصار على التسمية عند الأكل، وهذا لم يقلهُ عالم مسلمٌ قطّ، فليتّقِ اللهَ هؤلاء المتهورون، وليعلموا أنَّ الإِنسان يُسألُ يوم القيامةِ عن أقوالِهِ وأفعالِهِ وعقائدِهِ» اهـ كلام الإمام الهرري.

ـ[41]    شرح الأربعين النوويّة (ص/87).

ـ[42]    جامع العلوم والحكم (ص/93).

ـ[43]    فتح المبين لشرح الأربعين (ص/138).

ـ[44]    الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النوويّة (ص/107).

ـ[45]    الجامع لأحكام القرءان (ص/408).

ـ[46]    جامع البيان في تفسير القرءان (ص/237).

ـ[47]    صريح البيان في الرد على من خالف القرءان (ص/279 – 280 – 281).

ـ[48]    الفتاوى الكبرى (1/45 – 46).

ـ[49]    الأشباه والنظائر (ص/74).

ـ[50]    مواهب الجليل شرح مختصر خليل (1/301).