الأحد ديسمبر 22, 2024

قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ *} [سورة الذاريات]

قال عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما {…بِأَيْدٍ} أي بقدرة، وليس المقصودُ باليد هنا الجارحةَ التي لنا فإن الله منزه عن ذلك. فاليدُ تأتي بمعنى القدرة، والقدرةُ هي القوةُ.

قال الإمام أبو بكر ابن فورك تلميذُ تلميذِ الأشعري في كتابه «مجرد مقالات أبي الحسن الأشعري»[(611)] ناقلا عن أبي الحسن الأشعري قوله في تفسير الآية: «والسماء بنيناها بأييد»، قال: «أي بقوة» اهـ.

وقوله تعالى: {…وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ *} أي قادرون، وليس كما قال بعض العصريين حيث زعموا أن الكون في اتِّساعٍ دائم، فهذا كذبٌ مردود.

وتأتي اليد بمعنى العَهدِ كما في قوله تعالى: {…يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ… *} [سورة الفتح] ، أي عَهدُ الله فوقَ عُهودِهم أي ثَبَتَ ووجب عليهم عَهدُ الله، لأن معاهدَتَهم للرسول تحتَ شجرةِ الرضوان في الحديبية على ألاّ يَفِرُّوا معاهدةٌ لله تبارك وتعالى لأن الله تعالى هو الذي أَمَرَ نبيَّهُ بهذه المبايَعَة.

وأما قولُهُ تعالى: {…بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ… *} [سورة المائدة] ، فمعناهُ غنيٌّ واسِعُ الكَرَم.

فمن حمل إضافة الوجه أو اليد أو العين الوارد في القرآن أو الحديث في حق الله تعالى على الحقيقة كما فعل ابن تيمية وابن عثيمين في كتابه المسمى «فتاوى العقيدة» وبقية المجسمة المشبهة فقد كذب الله تعالى وكفر به لأن حقيقة اليد وحقيقة العين وحقيقة الوجه هذه الأعضاء والجوارح المؤلفة والمركبة في الإنس والجن والملائكة والبهائم ومن وصف الله بشىء من ذلك فقد جعله حادثًا عاجزا محتاجا لمن جعله على هذه الصفة والاحتياجية تنافي الألوهية والوجه والعين واليد إذا أضيفت إلى الله فلها معنى يليق بالله تعالى ليس بجسم ولا حجم ولا جارحة ولا هيأة ولا صورة ولا كيفية ولا كمية والحمد لله الذي وفق أهل السنة لمعرفة العقيدة الصحيحة.

قال الله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى *} [سورة النجم] .

معناه أن جبريلَ عليه السلام اقتربَ من سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم فتدلى إليه فكان ما بينهما من المسافة بمقدار ذراعيَن بل أقرب، وقد تدلَّى جبريلُ عليه السلام إلى محمد ودَنَا منه فَرَحًا به.

وليس الأمرُ كما يفتري بعضُ الناس أن الله تعالى دنا بذاته من محمدٍ فكان بين محمدٍ وبين الله كما بين الحاجِبِ والحاجِبِ أو قدرَ ذراعين، لأن إثباتَ المسافةِ لله تعالى إثباتٌ للمكانِ وهو من صفاتِ الخلق وهو كفر صريح، أما الخالقُ فهو موجودٌ بلا كيف ولا مكان، لا يكون بينه وبين خلقِهِ مسافة.

قال الحافظ البيهقي في كتابه «الأسماء والصفات»[(612)]: «عن مسروق قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى *} قالت رضي الله عنها: كان جبريل عليه السلام يأتي محمدًا صلى الله عليه وسلم في صورة الرجل فأتاه هذه المرة قد ملأ ما بين الخافقين. رواه البخاري في الصحيح عن محمد بن يوسف. ورواه مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير، كلاهما عن أبي أسامة». ويقول[(613)]: «عن مسروق قال: سألت عائشة رضي الله عنها في قول الله عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *} {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ *} فقالت: أنا أول هذه الأمة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: جبريل رأيته بالأفق المبين». ويقول[(614)]: «قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى في تقدير قوله {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى *} على ما تأوله عبد الله بن مسعود وعائشة رضي الله عنهما من رؤيته صلى الله عليه وسلم جبريلَ عليه السلام في صورته التي خُلق عليها، والدنو منه عند المقام الذي رُفع إليه وأقيم فيه قوله المعنى في جبريل عليه السلام تدلى من مقامه الذي جُعل له في الأفق الأعلى فاستوى أي وقف وقفة ثم دنا فتدلى أي نزل حتى كان بينه وبين المصعد الذي رُفع إليه محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى في ما يراه الرائي ويقدره». ويقول[(615)]: «وروت عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ما دل على أن قوله {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى *} المراد به جبريل عليه الصلاة والسلام في صورته التي خُلق عليها». ويقول[(616)]: «قال أبو سليمان: والمكان لا يُضاف إلى الله» اهـ.

قال إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني الشافعي في كتابه «الشامل في أصول الدين»[(617)]: «ليس في هذه الآية تصريح بذكر الإلـه وإضافة القرب إليه، فلِمَ ادّعيتم أنه سبحانه وتعالى هو المعني بمضمون الآية؟ ولِمَ وصفتم ربَّكم بالحد والمقدار بتوهم منكم وظن؟ ثم نقول: لعله صلى الله عليه وسلم قرب من درجة لم يبلغها إلا أرفع الخلائق وأعلاهم شأنًا. ثم نقول: الدنو يُحمل على القرب والطاعة – القرب المعنوي لأن القرب المكاني والحسي محال على الله تعالى -، وذكر {…قَابَ قَوْسَيْنِ} تأكيدًا له. وهو كما حُمل قوله – في الحديث القدسي -: إذا تقرب العبد إليَّ ذراعًا، تقربت منه باعًا، على القرب والطاعة والرأفة اهـ.

قال الحافظ البيهقي في كتابه «الأسماء والصفات»[(618)]: «استدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه – أي عن الله – بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شىء. وإذا لم يكن فوقه شىء ولا دونه شىء لم يكن في مكان» اهـ.

أما ما رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أنكم دَلَّيتُم رجُلا بحبلٍ إلى الأرض السفلى لهبط على الله» رواه الترمذي، هو حديث ضعيف، والحديث الضعيف لا يُحتَج به في العقائد والأحكام ولا حاجة لتأويله، ولكن تأوَّله بعض علماء الحديث على أن علم الله شامل لجميع الأقطار وأنه منزه عن المكان، فالشاهد هو في استدلال العلماء به على نفي المكان عن الله، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «معناه أن علم الله يشمل جميع الأقطار، فالتقدير لهبط على علم الله، والله سبحانه وتعالى تنزه عن الحلول في الأماكن، فالله سبحانه وتعالى كان قبل أن تحدث الأماكن» اهـ، نقله عنه تلميذه الحافظ السخاوي في كتابه «المقاصد الحسنة»[(619)]، وذكره أيضًا الحافظ المحدِّث المؤرخ محمد بن طولون الحنفي[(620)] وأقرَّه عليه.

وقال الحافظ البيهقي في كتابه «الأسماء والصفات»[(621)]: «والذي رُويَ في ءاخر هذا الحديث إشارةٌ إلى نفي المكان عن الله تعالى، وأن العبد أينما كان فهو في القرب والبعد من الله تعالى سواء – لأن الله لا يوصف بالقرب والبعد بالمسافة – وأنه الظاهر فيصح إدراكه بالأدلة، والباطن فلا يصح إدراكه بالكون في مكان» اهـ.

وكذلك استدل به أبو بكر بن العربي المالكي في شرحه على سنن الترمذي[(622)] على أن الله موجود بلا مكان، فقال ما نصه: «والمقصود من الخبر أن نسبة البارىء من الجهات إلى فوق كنسبته إلى تحت، إذ لا ينسب إلى الكون في واحدة منهما بذاته» اهـ. أي أن الله منزه عن الجهة فلا يسكن فوق العرش كما تقول المجسمة، ولا هو بجهة أسفل، لأن الله تعالى كان قبل الجهات الست، ومن استحال عليه الجهة استحال عليه المكان، فالله تعالى لا يحُل في شىء ولا يشبه شيئًا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.

ومن الأحاديث الدالة على تنزيه الله عن الجهة ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء».

قال الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي في شرحه لسنن النسائي[(623)]: «قال البدر ابن الصاحب في تذكرته: في الحديث إشارة إلى نفي الجهة عن الله تعالى».

ويدل أيضًا على ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ينبغي لعبدٍ أن يقول: إني خيرٌ من يونس بن متَّى» واللفظ للبخاري.

قال الحافظ المحدِّث الفقيه الحنفي مرتضى الزبيدي في «إتحاف السادة المتقين» ما نصه[(624)]: «ذَكر الإمام قاضي القضاة ناصر الدين بن المنَيِّر الاسكندري المالكي في كتابه «المنتقى في شرف المصطفى» لما تكلم على الجهة وقرر نفيها قال: ولهذا أشار مالك رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى» ، فقال مالك: إنما خص يونس للتنبيه على التنزيه لأنه صلى الله عليه وسلم رفع إلى العرش ويونس عليه السلام هبط إلى قاموس (قعر) البحر، ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحق جل جلاله نسبة واحدة، ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه السلام أقرب من يونس بن متى وأفضل ولَمَا نهى عن ذلك. ثم أخذ الإمام ناصر الدين يبدي أن الفضل بالمكانة لا بالمكان، هكذا نقله السبكي في رسالة الرد على ابن زفيل» اهـ. وابن زفيل هو ابن قيم الجوزية المبتدع تلميذ الفيلسوف المجسم ابن تيمية الذي قال مؤيدًا لعقيدة متأخري الفلاسفة إن الله لم يخلق نوع العالم، وهذا كفرٌ بإجماع المسلمين كما ذكر العلامة الشيخ بدر الدين الزركشي في كتابه «تشنيف المسامع».

وقال المفسّر أبو عبد الله القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرءان» ما نصه[(625)]: «قال أبو المعالي: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى» المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه وهو في قعر البحر في بطن الحوت، وهذا يدل على أن البارىء سبحانه وتعالى ليس في جهة» اهـ.

ومما يدل أيضًا على تنزيهه تعالى عن الجهة، ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك: «أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كَفَّيْه إلى السماء» اهـ. أي أن النبي جعل باطن كفَّيْه إلى جهة الأرض، وفي ذلك إشارة إلى أن الله عز وجل ليس متحيِّزًا في جهة العلو كما أنه ليس في جهة السُّفل.

وقد قال الحافظ العراقي في الأمالي: «أجمع السلف والخلف على كفر من أثبت الجهة لله» اهـ.

فتبين فساد قول من يقول «إن الله دنا بذاته من محمد لما كان ليلة المعراج في السماء، أو دنا منه بالحس والمسافة أو بالمكان أو صار بينهما كالحاجب من الحاجب أو كالذراعين، أو أنه وصل إلى مكان ينتهي إليه وجود الله، أو أُزيحت الستارة فدخل ورآه»، وكل ذلك تكذيب لله عز وجل لأنه نزه نفسه فقال (فلا تضربوا لله الأمثال) وقال (ليس كمثله شيء)، ومن شبه الله بشىء من خلقه فقد شتمه وكذّبه، ومن كذّب الله كفر بإجماع الأمة الإسلامية.

قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاََّّتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى *} [سورة النجم] .

إن مما يجب للأنبياء التبليغ، فكل الأنبياء مأمورون بالتبليغ، وقد دلَّ على ذلك قوله تعالى في سورة الحج {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ… *} .

فمعنى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى} في هذه الآية دعا قومه كما نص على ذلك القاضي عياض في كتاب الشفا، ومعنى {…أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي يزيد الشيطان على ما قالوه ما لم يقولوه ليوهمَ غيرَهم أن الأنبياء قالوا ذلك الكلامَ الفاسد، وليس معناهُ أن الشيطانَ يتكلَّمُ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.

إن كل نبيّ كان يقرأ على قومه ثم الشيطان يُلقي إلى الناس كلاما غير الذي يقرؤونه أي يزيد للناس من كلامه على ما قاله النبي ليوهم الناس أن النبي قال ذلك أي ليفتنهم، فينسخ الله ما يلقي الشيطان ويثبت ما يقرؤونه – أي الأنبياء – وذلك ابتلاء من الله تبارك وتعالى، وليس في أي كتاب معتبر أن الشيطان يلقي على ألسنة الأنبياء كلامًا وإلا لارتفعت الثقة في كلامهم ولقال الناس لعل هذا من إلقاء الشيطان فلذلك استحال حصول ذلك فلا أصل لما في كتاب «تفسير الجلالين» في الجزء الثاني ففيه غلط وكلام باطل، في تفسير سورة الحج عند قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ… *} [سورة الحج] .

يقول الكاتب: وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النجم بمجلس من قريش بعد {أَفَرَأَيْتُمُ اللاََّّتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى *} بإلقاء الشيطان على لسانه من غير علمه صلى الله عليه وسلم: «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى» ففرحوا بذلك وكانوا بالقرب منه مع المسلمين، وقالوا ما ذكر ءالهتنا بخير قبل اليوم فجاء جبريل وقال له: هذا ليس من القرءان فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله الآية تسلية له {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} .

الرد:

هذه الرواية غير صحيحة، وحصول قراءة شىء غير القرءان على ظن أنه قرءان مستحيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو معصوم من ذلك، فقد قال الفخرُ الرازي في «التفسير الكبير»[(626)]: «يكفر من اعتقد أن الشيطان أجرى كلاما على لسان النبي صلى الله عليه وسلم هو مدح الأوثان الثلاثة اللات والعزى ومناة، بهذه العبارة: «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى» إذ يستحيل أن يمكّن اللهُ الشيطانَ من أن يُجري على لسان نبيه مدحَ الأوثان».

وإيضاح هذه القضية أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم كان يقرأُ ذات يومٍ سورةَ النجمِ فلما بلغَ {أَفَرَأَيْتُمُ اللاََّّتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى *} انتهز الشيطانُ وقفةَ رسولِ صلى الله عليه وسلم وسَكْـتَـتَـهُ فأسمعَ الشيطانُ المشركينَ الذينَ كانوا بقرب النبي مُـوهمًا لهم أنه صوت النبي هذه الجملة: «تلكَ الغرانيقُ العُلى وإن شفاعتهن لتُرتجى» ففرحَ المشركون وقالوا ما ذكرَ محمدٌ ءالهـتنا قبل اليوم بخير، فأنزل الله لتكذيبهم هذه الآية التي في سورة الحج: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ… *} أي يكشفُ الله ما يقوله الشيطانُ ويُبينُ أنه ليس من الأنبياء، وذلك ابتلاءٌ من الله وامتحانٌ ليتميّزَ من يتبعُ ومن لا يتبعُ، فيهلك هذا ويسعد هذا.

قال النسفي في تفسيره ما نصه[(627)]: ولأنه تعالى قال في صفة المنزل عليه – أي على النبي صلى الله عليه وسلم – (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).

وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *} فلما بطلت هذه الوجوه – حيث ذكر احتمالات وردّها – لم يبق إلا وجه واحد وهو أنه عليه السلام سكت عند قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى *} فتكلم الشيطان بهذه الكلمات متصلا بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم فوقع عند بعضهم – من المشركين – أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي تكلم بها فيكون هذا إلقاء في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم_وكان الشيطان يتكلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويُسمَعُ كلامه، فقد رُوي أنه نادى يوم أحد ألا إن محمدا قد قتل، وقال يوم بدر: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم».اهـ.

وقال المحدث عبد الله الغماري في كتابه «بدع التفاسير»[(628)] عن القصة المكذوبة التي يزعمون فيها أن الشيطان تكلم على لسان النبي بغير علمه، ما نصه: «فهذه القصة وتسمى قصة الغرانيق باطلة»، وقال: «وأول نكارة في تلك القصة: تسلط الشيطان على النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء شىء على لسانه وهو لا يعلم، مع أن من البديهيات العقلية عصمة النبي من الشيطان، فكيف تمكن منه في هذه الحادثة؟!»،ثم قال «ثم كيف خفي عليه الفرق بين إلقاء الملك وإلقاء الشيطان؟! ولئن جاز الاشتباه عليه في هذه الحادثة، جاز الاشتباه في غيرها، فترتفع الثقة بالوحي ثم كيف خفي تناقض الكلامين! إذ (الأخرى) صفة ذم، وكلام الشيطان المقحم مدح، وهل يجوز في عقل أن يمتزج كلامان متناقضان على لسان أفصح العرب وأعلمهم بكلام الله تعالى، ثم لا يشعر بتنافيهما!! ثم بعد هذا كله كيف يسلّي الله نبيه بأن جميع الرسل تمكن الشيطان أن يُلقي على لسانهم ما لم يوحَ إليهم وما معنى العصمة الواجبة في حقهم عقلا؟!» اهـ.

وقال الشيخ محمد بن درويش الحوت في كتابه «أسنى المطالب»[(629)]: «فهذه القصة – أي قصة الغرانيق – كذب مفترى كما ذكر هذا غير واحد ولا عبرة بمن قوَّاها وأوَّلَها إذ لا حاجة لذلك»،ثم قال «وليس فيه ذكر قصة الغرانيق أصلا»، وقال[(630)]: «وقول ابن عباس رضي الله عنه في تفسيره أن (تمنى) معناه تلا وقرأ» اهـ.

ـ[611]       مجرد مقالات أبي الحسن الأشعري (دار المشرق ص44).

ـ[612]       الأسماء والصفات (الطبعة الأولى 1985 دار الكتاب العربي، الجزء الثاني ص179).

ـ[613]       الأسماء والصفات (ص/181).

ـ[614]   و[(835)] الأسماء والصفات (ص/187).

ـ[615]       الأسماء والصفات (ص/188).

ـ[616]       الشامل في أصول الدين (الطبعة الأولى 1999، دار الكتب العلمية صحيفة 329).

ـ[617]       الأسماء والصفات ص400).

ـ[618]       المقاصد الحسنة (رقم86/ص342).

ـ[619]       الشذرة في الأحاديث المشتهرة (2/72).

ـ[620]       الأسماء والصفات (ص/400).

ـ[621]       عارضة الأحوذي (12/184).

ـ[622]       سنن النسائي (1/576).

ـ[623]       إتحاف السادة المتقين» (2/105).

ـ[624]       الجامع لأحكام القرءان (11/333 – 334)، و(15/124).

ـ[625]       التفسير الكبير (المجلد الثاني عشر الجزء23 من ص44 إلى ص47).

ـ[626]       تفسير النسفي (3/107).

ـ[627]       بدع التفاسير (مكتبة القاهرة، الطبعة الثالثة 1426هـ ص74).

ـ[628]       أسنى المطالب (دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية 1403هـ ص209).

ـ[629]       أسنى المطالب (ص/210).

ـ[630]       المسمى معالم التنزيل (طبع دار المعرفة، الطبعة الثالثة 1413هـ الجزء الرابع ص254).