الأحد ديسمبر 22, 2024

قال الله تعالى: {…لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ *} [سورة غافر]

قال المفسر القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن»[(566)]: «وعن النحاس: وأصح ما قيل فيه ما رواه أبو وائل عن ابن مسعود قال: يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله جل وعز عليها، فيؤمر منادٍ ينادي {…لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} «ثم قال: «والقول صحيحٌ عن ابن مسعودٍ وليس هو مما يؤخذ بالقياس ولا بالتأويل» اهـ.

وقد قال الفقيه المفسر فخر الدين الرازي في كتابه «التفسير الكبير»[(567)] في الرد على من قال إن الله تعالى يسأل {…لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فلا يجيبه وهو تعالى يجيب نفسه ويبين أنه باطل لا أصل له: «الأول: قال المفسرون إذا هلك كل من السموات ومن في الأرض فيقول الرب تعالى: {…لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ؟ يعني يوم القيامة فلا يجيبه أحد فهو تعالى يجيب نفسه فيقول {…لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ *} قال أهل الأصول هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه الأول: أنه تعالى بيّن أن هذا النداء إنما يحصل يوم التلاق ويوم البروز ويوم تجزى كل نفس بما كسبت، والناس في ذلك الوقت أحياء، فبطل قولهم إن الله تعالى إنما ينادي بهذا النداء حين هلك كل من في السموات والأرض والثاني: أن الكلام لا بد فيه من فائدة لأن الكلام إما أن يذكر حال حضور الغير، أو حال ما لا يحضر الغير، والأول: باطل ههنا لأن القوم قالوا إنه تعالى إنما يذكر هذا الكلام عند فناء الكل، والثاني: أيضًا باطل لأن الرجل إنما يحسن تكلمه حال كونه وحده إما لأنه يحفظ به شيئًا كالذي يكرر على الدرس وذلك على الله محال، أو لأجل أنه يحصل سرور بما يقوله وذلك أيضًا على الله محال، أو لأجل أن يعبد الله بذلك الذكر وذلك أيضًا على الله محال، فثبت أن قول من يقول إن الله تعالى يذكر هذا النداء حال هلاك جميع المخلوقات باطل لا أصل له» اهـ.

وقال أيضًا: «إن في يوم التلاق إذا حضر الأولون والآخرون وبرزوا نادى منادٍ {…لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}» انتهى كلام الرازي.

ومثل هذا الكلام ذكر محمد بن مصلح الدين مصطفى القَوجَوِيُ الحنفي في كتابه حاشية محيي الدين شيخ زاده على تفسير القاضي البيضاوي[(568)]: «من أنه إذا حضر الأولون والآخرون يوم التلاق وبرزوا لله جميعًا نادى منادٍ {…لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}» اهـ.

وقال القاضي أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى العمادي الحنفي في كتابه «إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المجلد السابع»[(569)]: «أي ينادي منادٍ لمن الملك اليوم» ثم قال: «لما روي أنه يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد في أرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط فأول ما يتكلم به أن ينادي منادٍ {…لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ *}» اهـ. قال معلقا أخرجه ابن المبارك في الزهد[(570)] وابن أبي الدنيا في الأهوال[(571)] عن ابن مسعودٍ موقوفًا اهـ.

فقد تبين واتضح أن القول الصحيح المعتمد الموافق لعقيدة المسلمين أن الملَكَ هو الذي ينادي في موقف القيامة بأمرٍ من الله والملَك نفسه يجيب وليس الله كما زعم أهل التشبيه والتجسيم الذين وصفوا الله بصفات حادثة واعتقدوا أن كلامه ككلام خلقه يتكلم بعد سكوت ويسكت بعد كلام وأن كلامه يتخلله انقطاع وهذا تشبيه لله بخلقه وتكذيب لقول الله تعالى: «فلا تضربوا لله الأمثال».

فلا حجة للمشبهة الصوتية في ما قيل من أن الله تعالى يقول بعد أن يقبض عزرائيلُ أرواح الخلق والملائكة فيقبض اللهُ روحَ عزرائيل {…لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيجيب نفسَه بنفسِه {…لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ *} ، لأنه حديث ضعيف رواه الطبراني.

يقال لهم: أليس الله تعالى كان موجودا قبل هذه الحروف فهي محدثة أحدثها هو، فكيف يتصف الله بشىء محدث. بل قولهم فيه نسبة الحدوث إلى ذات الله لأن ما يتصف بالحادث فهو حادث وإنما تأويل ما ورد في القرءان من هذه الألفاظ أنها عبارة عن كلامه الأزلي الأبدي. فالكلام الأزلي يُعبَّرُ عنه باللفظ الماضي وبلفظ المضارع وبلفظ الأمر، فكلام الله القائم بذاته غير مجتزأ ولا متبعض كما أن حياته صفة قائمة بذاته أي ثابتة له لا تتجزأ ولا يتخللها انقطاع.

وأحسن منه من حيث الإسناد ما رواه أبو بكر عبد الله بن أبي داود في كتابه «البعث» قال[(572)]: «حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سُليم بن أخضر عن التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ينادي مناد بين يدي الصيحة يا أيها الناس أتتكم الساعة – ومدّ بها التيمي صوته – قال فيسمعه الأحياء والأموات وينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا ثم ينادي مناد لمن الملك اليوم لله الواحد القهار» . (وإضافة النزول إلى الله ليس على حقيقته ولا على ظاهره بل هو متأولٌ عند جميع أهل السنة والجماعة وقد قال الإمام مالك: «نزول رحمة لا نزول نُقلة» رواه الزرقاني في شرحه على موطأ مالك، لأن الله موجود بلا مكان منزه عن الحركة والسكون والانتقال) أخرج هذا الحديث الديلمي في فردوس الأخبار وعزاه السيوطي لابن أبي الدنيا في البعث مرفوعا ولعبد بن حميد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه في المستدرك وأبي نعيم في الحلية عن ابن عباس موقوفا عليه. وهذا سالم من نسبة النطق بالصوت إلى الله وهو عقيدة أهل التنزيه والإثبات، يثبتون لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له نبيه مع تجنب حمل النصوص على ظواهر المتشابه، بل يعتقدون للمتشابه معاني تليق بالله ليس فيها إثبات صفة حادثة لله كما أنهم ينزهون ذاته عن الحجمية والجسمية فينبغي ألاّ يلتفت إلى ما يذكر في كثير من التفاسير من أن الله تعالى هو الذي يقول بعد فناء الخلق كلهم سوى الجن والملائكة مجيبا لنفسه لمن الملك اليوم لله الواحد القهار فإنه يتبادر إلى ذهن المطالع لهذا الكلام أن الله ينطق بالصوت في ذلك الوقت وهذا مما لا يجوز اعتقاده وهو تشبيه وكفر.

ويجب الحذر مما قاله «الدكتور وهبة الزحيلي السوري» في كتابه المسمى «الموسوعة القرءانية الميسرة»[(573)]: «ويقول الله حينئذٍ: لِمَنِ المُلك المطلق يوم القيامة؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب الله سبحانه نفسه قائلا: لله الواحد الأحد، القهار لخَلْقه». ويقول ما نصه[(574)]: «فلما أتى النار، نودي بصوت: ياموسى، إني أنا الله ربك» اهـ. والعياذ بالله تعالى من هذا الكفر.

قال أبو حنيفة رضي الله عنه: «ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر» ونسبة الصوت إلى الله أو أنه يتكلم بكلام حادث أو بحروف أو أنه تحدث له صفة لم تكن في الأزل فهو تكذيب للقرآن الكريم قال الله تعالى: «ليس كمثله شىء، وكم تكون فرحت الوهابية المجسمة بكلام الزحيلي هذا لأنه عين عقيدتهم وليس من عقيدة أهل السنة والجماعة الأشاعرة والماتريدية في شىء.

ـ[566]       الجامع لأحكام القرآن في المجلد الخامس عشر ص300، دار المعرفة الطبعة الثانية).

ـ[567]       التفسير الكبير (المجلد الرابع عشر في الجزء السابع والعشرين ص41، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى).

ـ[568]       حاشية محيي الدين شيخ زاده على تفسير القاضي البيضاوي (في الجزء السابع ص307 دار الكتب العلمية الطبعة الأولى).

ـ[569]       إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (المجلد السابع ص230 دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى).

ـ[570]       الزهد (2/115).

ـ[571]       الأهوال (1/146).

ـ[572]       البعث (ص/26).

ـ[573]       لموسوعة القرءانية الميسرة (دار الفكر – دمشق سوريا ودار الفكر المعاصر – بيروت لبنان، الطبعة الثالثة 1429هـ ص469).

ـ[574]       الموسوعة القرءانية الميسرة (ص/313).