قال الله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ… *} [سورة التوبة]
من البدع التي انتشرت قول القرضاوي في حلقة تلفزيونية على قناة الجزيرة (12/9/1999) إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد أحيانا ويخطئ في اجتهاده وقد استدل بحديث أن شخصا سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الشهادة فقال صلى الله عليه وسلم يغفر للشهيد كل ذنب ثم بعد أن تولى الرجل ناداه فقال له إلا الدين. فاعتبر القرضاوي أنّه أخطأ بالأولى ونبهه جبريل إلى ذلك فاستثنى.
الردّ: أنّ أفحم ما يجاب به القرضاوي وأمثاله هو قول الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى *} . وأما ما ادعاه القرضاوي فقد كان الكلام الأول بوحي والثاني بوحي وليس عن اجتهاد خاطئ كما ادعى القرضاوي وكذلك أخذه للفداء من أسارى بدر كان بتخيير من جبريل بين قتل الكفار وبين الفداء رواه ابن حبان، فلا حجة فيه لمن ادعوا أنّه مجوز الخطأ عليه صلى الله عليه وسلم في اجتهاده.
وأمّا ما جاء في قصة فداء أسرى بدر بالمال أنّ النبي عليه السلام قال في غد يوم الفداء (لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر) وكذلك قولهم بدعوى جواز الخطأ عليه في اجتهاده مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنمّا أقطع له قطعة من النار» رواه البخاري في صحيحه، فإنّه يقضي في مثل ذلك بناء على ما أوحي إليه من الشرع ليس اجتهادا منه والله لم يكلفه أن يطلع على الغيب ويحكم بمقتضاه فتبين أنه لا يجوز الخطأ عليه صلى الله عليه وسلم في الحكم الشرعي وأما الخطأ في غير التشريع فجائز عليه فإنه في الأمور الدنيوية مثل الذي ورد في تأبير النخل كذلك لا يجوز عليه الخطأ في إخباره بأن كذا فيه شفاء كقوله عليه السلام لرجل استطلق بطن أخيه (اسقه عسلا) فإن تجويز الخطأ عليه في مثل ذلك فيه نسبة ما يضر الأمة إليه صلى الله عليه وسلم والحاصل أن كل ما احتج به القائل بجواز الخطأ عليه في الأحكام الشرعية يدل على أنهم ليسوا على فهم بل عقولهم معكوسة وأفهامهم مطموسة وفي قول هؤلاء إيهام للجهال للشك في ما يقوله رسول الله هل هو موافق للحقّ أم لا، وهذا فيه سوق الناس إلى الإلحاد، قال بدر الدين الزركشي في كتابه «تشنيف المسامع»[(219)]: «إذا جوّزنا الاجتهاد على النبي صلى الله عليه وسلم فالصواب أنه لا يخطىء اجتهاده، وهذا هو الحق» اهـ. هذا وقد قال العلامة ابن أمير الحاج في كتابه التقرير والتحبير ما نصه: «وقيل بامتناعه أي جواز الخطأ على اجتهاده نقله في الكشف وغيره عن أكثر العلماء وقال الإمام الرازي والصفي الهندي إنّه الحق وجزم به الحليمي والبيضاوي وذكر السبكي أنّه الصواب وأنّ الشافعي نصّ عليه في مواضع من الأم لأنّه أولى بالعصمة من الخطأ من الإجماع لأنّ عصمته – أي الإجماع – عن الخطأ لنسبته إليه أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وللزوم جواز الأمر باتباع الخطأ لأننا مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} إلى غير ذلك» اهـ.
وقال أيضا ما نصه: «وقيل كان له الاجتهاد في الأمور الدنيوية والحروب دون الأحكام الشرعية حكاه في شرح البديع وقيل كان له الاجتهاد في الحروب فقط وهو محكيّ عن القاضي والجبائي لقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} فعوتب على الإذن لما ظهر نفاقهم في التخلف عن غزوة تبوك ولا يكون العتاب في ما صدر عن وحي فيكون عن اجتهاد لامتناع الإذن فيه تشهيا ودفعه السبكي بأن غير واحد قال إنّه صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في الإذن وعدمه فما ارتكب إلا صوابا فإن الله تعالى يقول {…فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من شرهم أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا وأنّه لا حرج عليه في ما فعل ولا خطأ.
قال القشيري: ومن قال العفو لا يكون إلا عن ذنب فهو غير عارف بكلام العرب وإنما معنى (عفا الله عنك) لم يلزمك ذنبا كما عفا عن صدقة الخيل ولم يجب عليهم ذلك قط» اهـ.
هذا وقد قام رئيس جامعة الأزهر الدكتور عمر أحمد هاشم بالرد على القرضاوي في قوله إن النبي يجتهد ويخطئ والرد كان من خلال خطبة الجمعة في جامع الأزهر في القاهرة وذلك بتاريخ 7/10/1999 .
وأما رواية مسلم تلك الرواية التي انفرد بها فهي رواية معلولة لا يحتج بها، فيها مخالفة للأصول لأن ما وافق عليه الرسول أبا بكر مستحيل شرعا أن يكون سببا للعذاب فهذه الرواية خالفت القاعدة الدينية لأن الرسول خيّره جبريل بين أن يأخذ الفداء من الكفار وبين أن يقتلهم فاختار الفداء فكيف يترتب على أمر جاء به الإذن من الله عذاب في أمر وافق فيه الرسول فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل برأي أبي بكر ولا بد أن يقع عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقرّ عليه صوابا والله تعالى قرره عليه فقال وتأويل العتاب {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} .
وكان لك كرامة خصصت بها رخصة {لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} بهذه الخصوصية {…لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ} لحكم العزيمة على ما قال عمر.
والوجه الآخر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} قبل الإثخان وقد أثخنت يوم بدر فكان لك الأسرى كما كان لسائر الأنبياء عليهم السلام ولكن كان الحكم في الأسرى المن أو القتل دون المفاداة فلولا الكتاب السابق في إباحة الفداء لك لمسكم العذاب. والمخلص على ما ذكره الكرماني بحثا وهو أنه أيضا ترك الأولى ولو كان حكمه فيه خطأ لكان الأمر بالنقض مع أنه ليس فيه إلزام ذنب للنبي صلى الله عليه وسلم بل فيه بيان ما خُصّ به من بين سائر الأنبياء فكأنه قال ما كان هذا لنبي غيرك وتريدون الخطاب فيه لمن أراد منهم ذلك وليس المراد بالمريد النبي صلى الله عليه وسلم لعصمته ثم الحاصل من هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان له العمل برأيهم عند عدم النص فبرأيه أولى لأنه أقوى.
وكلهم اتفقوا أن العمل يجوز له بالرأي في الحروب وأمور الدنيا: وتلك القصة المردودة التي ساقها مسلم في صحيحه من أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: (ما ترون في هؤلاء الأسارى)؟ فقال أبو بكر: هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترى يا ابن الخطاب)، قال: قلت: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه وتمكنني من فلان نسيبا لعمر فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو، قلت: فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت: يا رسول الله أخبرني من أي شىء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء فقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة)، شجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عزّ وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} إلى قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} فأحل الله لهم الغنيمة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر فإذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشئ من رأيي فإنما أنا بشر» رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل، والمعنى مما يتعلق بغير الدين كالحرب.
ومن أقوى الردود على القرضاوي قوله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك غير رسول الله» وفي رواية «إلا النبي» . أخرجه الطبراني في الأوسط وحسنه الحافظ زين الدين العراقي في تخريجه أحاديث إحياء علوم الدين، وهذا صريح في أن الرسول لا يخطئ في اجتهاده كما يخطئ أفراد الأمة، ويستثنى من ذلك إجماع الأمة فإنه لا يكون خطأ لدليل حديث ءاخر «لا تجتمع أمتي على ضلالة» رواه الترمذي في سننه وغيره. فبعد هذين الحديثين لا يجوز الالتفات إلى القول إنه يجوز على الرسول الخطأ في اجتهاده في أمور الدين لكن لا يقر على ذلك بل ينبه، ويؤيد هذا نص الإمام الشافعي في (الأم) وأما القول الذي يجيز الخطأ على الرسول في اجتهاده فلم يقل به مجتهد إنما قال به بعض الشافعية والحنفية هؤلاء قالوا من رأيهم ولا يوجد مجتهد فيهم، ولا قيمة لكلام هؤلاء لأن كلامهم عارض الحديث وعارض كلام مجتهد فينبغي أن يضرب بكلامهم عرض الحائط.
ـ[219] تشنيف المسامع (مؤسسة قرطبة المكتبة المكية، الطبعة الأولى 1419هـ الجزء الرابع ص579).