قال الله تعالى: {…تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ… *} [سورة المائدة]
معنى هذه الآية تعلم ما في سري ولا أعلم ما في غيبك، وليس المعنى أن الله له نفس بمعنى الروح، بل الله هو خالق الروح وخالق الجسد، الله ليس روحًا ولا جسدًا ولا هو روحٌ فقط ولا هو جسدٌ بلا روح، قال تعالى: {…إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ *} ما كان وما يكون وما لم يكن وما هو كائن.
قال القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرءان»[(175)]: أي تعلم ما في غَيبي ولا أعلم ما في غَيبك. وقيل: المعنى تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم. وقيل: تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تُخفيه» اهـ.
وقال القشيري في تفسيره[(176)]: {…تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} أي علمك محيطٌ بكل العلوم. {…وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي لا أطلع على غيبك إلا بقدر ما تُعَرِّفُني بإعلامك اهـ.
وفي حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي[(177)]: تعلم ما أخفيه في نفسي كما تعلم ما أعلنه، ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك اهـ.
وقال أبو حيان الأندلسي في تفسير البحر المحيط[(178)]: «قيل المعنى تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي». ثم قال: «وقد استدلت المجسمة بقوله تعالى: {…تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وقالوا النفس هي الشخص وذلك يقتضي كونه جسمًا تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا» اهـ.
ونرد على المجسمة الذي يُنكِرون التأويل ويقولون نأخذ بالظاهر، بقول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، فهل سيقولون بأن الله يلحقه الموت؟ تنزَّه الله.
قال أبو الفضل عبد الواحد التميمي في كتابه «اعتقاد الإمام المنَبَّل أبي عبد الله أحمد بن حنبل» ما نصه[(179)]: «وقرأ أحمد ابن حنبل {…وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وقال عز وجل {…كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقال {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي *} ، وليست كنفس العباد التي هي متحركة متعددة مترددة في أبدانهم» ثم قال «وأنكر – أي أحمد – على من يقول بالجسم وقال: إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على كل ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف، والله تعالى خارج عن ذلك كله – أي منزه عن ذلك – فلم يجز أن يسمى جسمًا لخروجه عن معنى الجسمية، ولم يجئ في الشرع فبطل» اهـ.
وقال أبو سليمان الخطابي في كتابه «أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري» في سياق ذكر حديث «لا شخص أغير من الله» ما نصه[(180)]: «قال أبو عبد الله: وقال عبيد الله بن عمرو، وعن عبد الملك: لا شخص أغير من الله. قلتُ: إطلاق الشخص في صفة الله تعالى غير جائز، وذلك لأن الشخص لا يكون إلا جسمًا مؤلَّفًا وإنما يُسمَّى شخصًا ما كان له شُخوصٌ وارتفاعٌ ومثل هذا النعت منفي عن الله سبحانه وخليق ألاّ تكون هذه اللفظة صحيحة وأن تكون تصحيفًا من الراوي» ثم قال «فدلَّت رواية أسماء وأبي هريرة قوله: لا شىء أغير من الله، على أن الشخص وَهمٌ وتصحيفٌ» اهـ. والغيرة بالمعنى المتعارف عليه بين الناس محالة على الله، لأن الله منزه عن كل صفات المخلوقين، ولكن معنى ما ورد في الحديث من نسبة الغيرة إلى الله على معنى أن الله يكره لعبده فعل المحرمات. ومعنى «الشىء» هنا، قال أبو حنيفة: أي «الموجود» كما في بعض رسائله، وكذلك قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط في تفسير الآية {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} .
وقال ملا علي القاري الحنفي في كتابه «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» بعد ذكر مذهب السلف والخلف، ما نصه[(181)]: «يعلم أن المذهبين متفقان على صرف تلك الظواهر كالمجيء والصورة والشخص والرجل والقدم واليد والوجه والغضب والرحمة والاستواء على العرش والكون في السماء وغير ذلك مما يُفهمه ظاهرها لما يلزم عليه من محالات قطعية البطلان تستلزم أشياء يُحكم بكفرها بالإجماع، فاضطر ذلك جميع الخلف والسلف إلى صرف اللفظ عن ظاهره» اهـ.
ـ[175] الجامع لأحكام القرءان (الجزء6/ص376).
ـ[176] في (المجلد الأول، الطبعة الأولى صحيفة 284).
ـ[177] (الطبعة الأولى 1997 دار الكتب العلـمية الجزء الثالث صحيفة 584).
ـ[178] تفسير البحر المحيط (دار الفكر الطبعة الثانية 1983 المجلد الرابع صحيفة 59).
ـ[179] اعتقاد الإمام المنَبَّل أبي عبد الله أحمد بن حنبل (طبع دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1422هـ ص44 و45).
ـ[180] أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري (المملكة العربية السعودية – جامعة أم القرى، الجزء الرابع ص2344 و2345).
ـ[181] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (طبعة دار إحياء التراث العربي – بيروت، الجزء الثاني ص136).