الأحد ديسمبر 22, 2024

قال الله تعالى: {…الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً… *} [سورة النساء]

هذه الآية معناها أنه كَمُلَ مُعظَم الدين، كما ذكر ذلك البغوي في تفسيره، والخازن في تفسيره، وابن حجر العسقلاني في فتح الباري وغيرهم، وليس معناها أنه لا يجوز للمجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يُحدِثوا ما يوافق الشرع كعمل المولد النبوي الشريف.

قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرءان»[(114)]: «وقال الجمهور: المراد معظم الفرائض والتحليل والتحريم، قالوا: وقد نزل بعد ذلك قرءان كثير، ونزلت آية الربا، ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك، وإنما كمل معظم الدين وأمر الحج اهـ.

قال الإمام بدر الدين الزركشي في «البرهان في علوم القرءان»[(115)]: «ثم ساق سنده من طرق إلى ابن عباس: آخر آية نزلت {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} » اهـ. وهذا دليل على أن عددا من الآيات نزلت بعد آية {…الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} .

قال أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري في كتابه «أسباب النزول»[(116)]: «عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} .

أما المجسمة الوهابية فيحتجون بهذه الآية ليُحَرِّموا الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وغيره من البدع الحسنة التي أحدثها علماء أتقياء من أهل الاجتهاد والفهم، كالاحتفال بذكرى فتح مكة، أو الإسراء والمعراج، أو النصف من شعبان، أو الطرق الصحيحة، أو الصلاة على النبي جهرا بعد الأذان، أو عمل المحاريب في المساجد، والقباب، والمآذن، وقراءة الفاتحة أو القرءان بعد عقد النكاح أو قبله، أو بعد الدعاء أو قبله، أو المسبحة، أو الذكر الجماعي جهرة في تشييع الجنازة، ولو لمنع غيبة الميت، والذكر المفرد بلفظ الجلالة «الله» فرادى أو جماعة، أو حِلَق الذكر، أو الاشتغال بالصلاة على النبي كألف مرة، أو عشرة آلاف مرة بإشارة شيخ مرشد صادق، أو وحده بغير إشارة شيخ الطريقة، وهذا ليس شركا كما زعم حسام العقاد الوهابي، في كتابه «حلقات ممنوعة» وهذا تجرؤٌ عجيب على تكفير الذاكرين الله كثيرا والمصلين على رسوله، أو غير ذلك من بدع الهدى والخير التي تدخل تحت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «ومن سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شىء» رواه مسلم، وهذه البدع الحسنة فيها خير وبركة لأنها موافقة لشريعة الله وتحث المسلمين على الإكثار من الخير وعمل الآخرة ويشملها قول الله عزّ وجل {…وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} ، ولا يجوز تحريمها كما فعلت الوهابية المتهورة، وقد بينّا معنى الآية الكريمة {…الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وليس فيها شىء مما ادعته الوهابية كذبا وافتراء من مثل ما ذكر مُفتيهم ابن باز وخَلَفه ابن عثيمين في كتاب ألَّفاه أسمياه «مسائل مهمة لعموم الأمة».

وفي كتاب آخر اسمه «البدع والمحدثات وما لا أصل له»[(117)] من فتاوى أئمة الوهابية المعاصرين (ابن باز – محمد ابن صالح العثيمين – عبد الله بن عبد الرحمـن الجبرين – صالح بن فوزان الفوزان واللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء) جمعه وأعده الوهابي حمود بن عبد الله المطر، يقولون محتجين بهذه الآية أن عمل المولد حرام وأنه تشبه باليهود والنصارى وأنه فساد عظيم ومنكر شنيع ومصادمة لقول الله تعالى وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والعياذ بالله من تحريفهم لمعنى آيات الله وأحاديث الرسول، فهم كما قال الله في ذمّ اليهود: «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض».

وبعد هؤلاء مفتي الوهابية المدعو عبد العزيز آل الشيخ في جريدة الشرق الأوسط يقول[(118)]: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» وإحداث مثل هذه الموالد فيها استدراك على الله وأن الدين لم يكمل حتى جاء في القرون المتأخرة من زاد فيه» اهـ.

وأتباعهم يرددون كلامهم في كتبهم ومؤلَّفاتهم وفي وسائل الإعلام المتاحة لهم.

وهذا إمامهم ومرجعهم ومفتيهم المجسم ابن تيمية يفضحهم ويناقضهم ويناقض نفسه في كتابه المسمى «اقتضاء الصراط المستقيم»[(119)] يقول: «فتعظيم المولد واتخاذه موسمًا: قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس». اهـ

فيا لفضيحة أتباعه وأئمتهم، فهل سيتبرؤون منه ويحذرون منه أم سيسكتون على ذلك على مضض خوف انقطاع المال عنهم؟!

وهذا ابن كثير حبيب الوهابية وتلميذ المجسم ابن تيمية يقول في كتابه المسمى «البداية والنهاية»[(120)] في ترجمة الملك المظفر أبو سعيد كوكبري الذي كان أوَّل مَن أحدثَ عمل المولد: «ابن زين الدين علي ابن بكتكين أحد الأجواد والسادات الكبراء والملوك الأمجاد، له آثار حسنة وقد عمّر الجامع المظفري بسفح قاسيون، وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا، وكان مع ذلك شهمًا شجاعًا فاتكًا بطلا عاقلا عالما عادلا رحمه الله وأكرم مثواه، وقد صنف الشيخ أبو الخطاب بن دحية له مجلدًا في المولد النبوي سمّاه التنوير في مولد البشير النذير، فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك في زمان الدولة الصلاحية، وقد كان محاصرًا عكا وإلى هذه السنة، محمود السيرة والسريرة، قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، وقال: وكان يحضر عنده في الموالد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم ويعمل للصوفية سماعًا من الظهر إلى الفجر، ويرقص – الرقص الخفيف الذي ليس فيه تثنٍّ ولا تكسر كرقص الحبشة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث رواه أحمد أن الحبشة كانوا يزفنون (أي يرقصون رقصًا خفيفًا) في مسجد رسول الله – بنفسه معهم، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة. وكانت صدقاته في جميع القرب والطاعات على الحرمين وغيرهما، ويَسْتَفِكُّ من الفرنج في كل سنة خلقًا من الأسارى، حتى قيل إن جملة من استفكه من أيديهم ستون ألف أسير، قالت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب – وكان قد زوجها إياه أخوها صلاح الدين، لما كان معه على عكا – قالت: كان قميصه لا يساوي خمسة دراهم فعاتبته بذلك فقال: لبسي ثوبًا بخمسة وأتصدق بالباقي خير من أن ألبس ثوبًا مثمنًا وأدع الفقير المسكين، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وعلى دار الضيافة في كل سنة مائة ألف دينار. وعلى الحرمين والمياه بدرب الحجاز ثلاثين ألف دينار سوى صدقات السر، رحمه الله تعالى، وكانت وفاته بقلعة إربل، وأوصى أن يحمل إلى مكة فلم يتفق فدفن بمشهد علي» اهـ.

ما أوقح وأتعس الوهابي سعد بن علي الشهراني الذي قال في هذا الملك المظفر: «وفي ذلك يقول الشاعر:

كساعية للخير من كسب فرجها

 

لك الويل لا تزني ولا تتصدقي» اهـ

ذكر سعد بن علي الشهراني سخافته هذه في كتابه الذي ملأه بالتخريفات والتحريفات والتزويرات وسماه «فرقة الأحباش»[(121)].

معتمدا في ذلك على ما وجد في «معجم البلدان» من غير نقل بالطريق المعتمد المضبوط عن الثقات، فيا لفضيحته وغباوته حيث يشبه تصدّق هذا الملك على الفقراء وعلى الاحتفال بالمولد بالزانية التي تزني وتتصدق وهذا تناقض واضح مع ابن كثير الذي أثنى ثناء عظيما عاطرا على ملك إربل، وابن كثير هو تلميذ شيخهم ابن تيمية، وهذا دأبهم التعارض والتضارب والتناقض.

وقد ردّ على هذا الكتاب وحذّر منه تحذيرا كبيرا عدة علماء وشخصيات مهمة ومؤسسات رسمية كمديرية أوقاف القاهرة ورئيس المجلس الأعلى لعموم المشيخة الطرق الصوفية الشيخ حسن الشناوي المصري وبينّوا أن هذا الكتاب هو ضدّ عقيدة أهل السنة والجماعة الأشاعرة والماتريدية، فيجب الحذر منه والتحذير.

وإليكم ما نقله الذهبي حبيب الوهابية وتلميذ إمامها المتناقض المجسم ابن تيمية في كتابه المسمى «تاريخ الإسلام»[(122)] في ترجمة الملك المظفر أبو سعيد كوكبري الذي كان أوَّل مَن أحدثَ عمل المولد: «السلطان الملك المعظَّم، مظفَّر الدين، أبو سعيد، ابن صاحب إربل الأمير زين الدين أبي الحسن علي كوجك التركماني. وكوجك: لفظ أعجمي معناه لطيف القدّ. كان شجاعًا، شهمًا». ثم قال: «فقدم الموصل، وبها الملك سيف الدين غازي بن مودود، فأقطعه حرّان، فأقام بها مدّة، ثم اتّصل بخدمة السلطان صلاح الدين، وأنفق عليه، وتمكّن منه، وزاد في إقطاعه الرّها سنة ثمانٍ وسبعين، وزوّجه بأخته ربيعة خاتون». ثم قال: «وشهد مظفّر الدين مع السّلطان صلاح الدين مواقف كثيرة أبان فيها عن نجدةٍ وقوةٍ، وثبت يوم حطّين، وبيّن. ثم وفد أخوه زين الدين يوسف على صلاح الدين نجدة، وخدمةً من إربل، فمرض في العسكر على عكّا وتوفي في رمضان سنة ستٍّ وثمانين. فاستنزل صلاح الدين مظفر الدين عن حرّان والرّها ففعل، وأعطاه إربل وشهرزور فسار إليها وقدمها في آخر السنة. ذكره القاضي شمس الدين وأثنى عليه، وقال: لم يكن شىء أحبّ إليه من الصدقة، وكان له كلّ يوم قناطير مقنطرة من الخبز يفرّقها، ويكسو في السنة خلقًا ويعطيهم الدينار والدّنانير. وبنى أربع خوانق للزّمنى والعميان، وملأها بهم، وكان يأتيهم بنفسه كل خميس واثنين، ويدخل إلى كل واحد في بيته، ويسأله عن حاله، ويتفقّده بشيء، وينتقل إلى الآخر حتّى يدور على جميعهم، وهو يباسطهم – يمزح معهم -. وبنى دارًا للنساء الأرامل، ودارًا للضعفاء الأيتام، ودارًا للملاقيط رتّب بها جماعة من المراضع. وكان يدخل البيمارستان. ويقف على كل مريض ويسأله عن حاله. وكان له دارٌ مضيف يدخل إليها كلّ قادم من فقير أو فقيه، فيها الغداء والعشاء، وإذا عزم على السفر أعطوه ما يليق به.

وبنى مدرسة للشافعية والحنفية وكان يأتيها كل وقت، ويعمل بها سماطًا ثم يعمل سماعًا فإذا طاب، وخلع من ثيابه سيّر للجماعة شيئًا من الإنعام، ولم تكن له لذّةٌ سوى السّماع، فإنه كان لا يتعاطى المنكر، ولا يمكِّن من إدخاله البلد. وبنى للصوفية خانقاتين، فيهما خلقٌ كثير، ولهما أوقافٌ كثيرة، وكان ينزل إليهم ويعمل عندهم السّماعات. وكان يبعث أمناءه في العام مرتين بمبلغ يفَكّ به الأسرى، فإذا وصلوا إليه أعطى كل واحد شيئًا. ويقيم في كلّ سنة سبيلا للحجّ، ويبعث في العام بخمسة آلاف دينارٍ للمجاورين. وهو أول من أجرى الماء إلى عرفات، وعمل آبارًا بالحجاز، وبنى له هناك تربة. قال: وأمّا احتفاله بالمولد، فإنّ الوصف يقصر عن الإحاطة به، كان الناس يقصدونه من الموصل، وبغداد، وسنجار، والجزيرة، وغيرها خلائق من الفقهاء والصوفية والوعّاظ والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرّم إلى أوائل ربيع الأول ثم تنصب قباب خشب نحو العشرين، منها واحدة له، والباقي لأعيان دولته، وكل قبة أربع أو خمس طبقات ثم تزيّن في أوّل صفر، ويقعد فيها جوق المغاني والملاهي وأرباب الخيال__في لغة العرب يقال للقصائد «الأغاني» كما يقال للمنشد «أيها الحادي غن بالوادي»، والملاهي منها ما هو مباح كالضرب بالدف والطبل وما شابه ذلك، وليس المقصود آلات الموسيقى المحرمة ويبطل معاش الناس للفرجة. وكان ينزل كل يوم العصر، ويقف على قبّةٍ قبة، ويسمع غناءهم، ويتفرّج على خيالاتهم، ويبيت في الخانقاه يعمل السّماع، يركب عقيب الصّبح يتصيّد، ثم يرجع إلى القلعة قبل الظهر، هكذا يفعل إلى ليلة المولد، وكان يعمله سنةً في ثامن الشهر وسنة في ثاني عشرْ الشهر للاختلاف، فيخرج من الإبل والبقر والغنم شيئًا زائدًا عن الوصف مزفوفة بالطبول والمغاني إلى الميدان، ثم تنحر وتطبخ الألوان المختلفة». ثم قال الذهبي بعد كلام: «وقد جمع له أبو الخطّاب ابن دحية أخبار المولد، فأعطاه ألف دينار. وكان كريم الأخلاق، كثير التّواضع، مائلا إلى أهل السنة والجماعة، لا ينفق عنده سوى الفقهاء والمحدّثين، وكان قليل الإقبال على الشّعر وأهله. ولم ينقل أنه انكسر في مصافّ. ثم قال – أي القاضي شمس الدين -: وقد طوّلت ترجمته لما له علينا من الحقوق التي لا نقدر على القيام بشكره، ولم أذكر عنه شيئًا على سبيل المبالغة، بل كل ذلك مشاهدة وعيان». ثم قال الذهبي بعد كلام: «وقال: قال من حضر المولد مرة: عددت على السّماط مائة فرس قشلميش، وخمسة آلاف رأسٍ مشويٍ، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبديّة، وثلاثين ألف صحن حلواء» اهـ.

فتبين من مجموع الأدلة وعمل الأمة ونصوص ونقول الحفاظ والعلماء وأهل التفسير أن الآية الكريمة {…الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ليس فيها تحريم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ولا تحريم البدع الحسنة الموافقة لدين الله تعالى، وكتب علماء الأمة طافحة بذلك، فمن شاء فليرجع إليها والله الموفق للصواب.

ـ[114]       الجامع لأحكام القرءان» الجزء6 ص61 – 62).

ـ[115]       البرهان في علوم القرءان (منشورات المكتبة العصرية، الجزء1 في ص209).

ـ[116]       أسباب النزول (مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع ص14).

ـ[117]       البدع والمحدثات وما لا أصل له (طبعة دار ابن خزيمة الرياض الطبعة الثانية 1419هـ ص12 – 13 – 14).

ـ[118]       جريدة الشرق الأوسط (العدد 8576 بتاريخ الأربعاء 22/5/2002 صحيفة رقم22).

ـ[119]       اقتضاء الصراط المستقيم (دار المعرفة ص297).

ـ[120]       البداية والنهآية (دار الكتب العلمية الجزء13 ص139 – 140).

ـ[121]       فرقة الأحباش (المجلد الثاني دار عالم الفوائد الطبعة الأولى 1423هـ).

ـ[122]       تاريخ الإسلام (دار الكتب العلمية الجزء13 ص460 – 461 – 462).