قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ… *} [سورة النور]
معنى هذه الآية أن الله تعالى هادي أهل السماوات والأرض لنور الإيمان، رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما في كتابه «الأسماء والصفات»[(457)]، وقال الحليمي الشافعي كما نقل عنه تلميذه الحافظ البيهقي في نفس الكتاب والصحيفة ما نصه: «وهو الهادي لا يعلم العباد إلا ما علمهم ولا يدركون إلا ما يسّر لهم إدراكه فالحواس والعقل فطرته وخلقه وعطيته»، فالله تعالى ليس نورًا بمعنى الضوء، بل هو الذي خلق النّور، قال تعالى: {…وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} أي خلق الظلمات والنور، فكيف يُمكن أن يكون نورا كخلقه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا. وحكم من يعتقد أن الله تعالى نور أي ضوء التكفير قطعا. وهذه الآية {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} أصرح دليل على أن الله ليس حجما كثيفا كالسماوات والأرض وليس حجما لطيفا كالظلمات والنور، فمن اعتقد أن الله حجم كثيف أو لطيف فقد شبّه الله بخلقه والآية شاهدة على ذلك. أكثر المشبهة يعتقدون أن الله حجم كثيف وبعضهم يعتقد أنه حجم لطيف حيث قالوا إنه نور يتلألأ، فهذه الآية وحدها تكفي للرد على الفريقين.
وهناك العديد من العقائد الكفرية كاعتقاد أنّ الله تعالى ذو لون أو ذو شكل فليحذر الإنسان من ذلك جهده على أي حال.
ويقول الله تعالى: {…مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقَيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} فقوله في ءاخر الآية {…يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} يفسر أول الآية، ويبين لنا أن الله تعالى عنى بقوله {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أنه أعطى الإيمان لأهل السماوات وهم الملائكة ولمن شاء من أهل الأرض من الإنس والجن. الإيمان هو نور الله هذا معنى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وبعضهم قال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي منير السماوات والأرض.
وأما الحديث الذي رواه مسلم وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نورٌ أنى أراه». فقد نقل الحافظ العراقي أن أحمد استنكره، ولو صحّ لكان معناه منعني نور مخلوق من رؤية الله بعيني رأسي، والتقدير فاعل لفعل محذوف. ومن فسّر هذا الحديث بالنور الذي هو ضد الظلمة فقد كذّب هذه الآية {…وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} .
قال الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره «تأويلات أهل السنة»[(458)]: «ألا ترى أنه قال في آخره {…يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} أنه لم يرد بالنور ما فهموا، {…وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ *} دل أنه ليس على ما فهموه به أنه نور كسائر الأنوار التي عاينوها ويشاهدونها وهم المشبهة، وعلى هذا يُخرّج تأويل ابن عباس» اهـ.
وقال الفقيه الحنفي الشيخ عبد الغني بن إسماعيل النابلسي في كتابه «أسرار الشريعة» ما نصه: «من اعتقد أن الله ضوءٌ ملأ السماوات والأرض فهو كافر وإن زعم أنه مسلم».اهـ
قال الله تعالى: {…الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا *} [سورة الفرقان] .
قال الإمام أبو منصور الماتريدي في كتابه «تأويلات أهل السنة»[(459)]: «وقوله {…فَاسْأَلْ بِهِ} ، قال بعضهم: بالله» اهـ.
قال المفسر أبو عبد الله القرطبي في «الجامع لأحكام القرءان»[(460)]: «قلت: قول الزجاج يخرّج على وجه حسن، وهو أن يكون الخبير غير الله، أي فاسأل عنه خبيرًا، أي عالما به، أي بصفاته وأسمائه» اهـ.
وقال ابن الجوزي في «زاد المسير»[(461)]: «وفي (الخبير) أربعة أقوال، أحدها أنه جبريل قاله ابن عباس، والثاني أنه الله، والمعنى (سلني فأنا الخبير) قاله مجاهد، والثالث أنه القرءان قاله شُمر، والرابع مُسلِمة أهل الكتاب» اهـ.
وليس معنى الآية كما زعم بعض الجهال من أنه إذا تعطلت سيارته يقول (فاسأل به خبيرا)، يريد بالخبير من يعرف كيف يُصلِحُها، هذا إيراد للآية في غير موضعها، فالخبير هنا ليس الخبير في إصلاح السيارات أو الأدوات الكهربائية ونحوها، أو الطبيب أو المهندس أو التاجر كما شاع بين بعض الجهال، فليُتَنَبَّه.
قال الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ… *} [سورة الفرقان] .
إن بعض الناس توهموا منها وهمًا لم يتلقوه بطريق التعلم والسماع من أهل المعرفة، فصدق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» رواه البخاري، فقد تصوروا أن معنى الآية أن الكافر الأصلي إن دخل في دين الإسلام والمؤمن المذنب إن تاب من ذنوبه تحولت سيئاتهم إلى حسنات أو أنهم يثابون بهذه السيئات حسنات ولا يقول بذلك ذو فهم، وهي دعوة خطيرة للاستكثار من المعاصي وردٌّ صريح لما دلت عليه النصوص المحكمة، وقد قال النسفي: «وردُّ النصوص كفر»، وهاك نقولا عن بعض العلماء في تفسير الآية:
روى علي بن أبي طلحة في صحيفته التي ضمنها تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن عباس: «هم المؤمنون كانوا قبل إيمانهم على السيئات فرغب الله بهم عن ذلك فحولهم إلى الحسنات «قوله فحولهم أي وفقهم» وقد ذكر هذه الرواية عن ابن عباس كثيرون منهم الطبري وابن كثير والفخر الرازي والسيوطي وغيرهم.
وقال الحسن البصري: «أبدلهم الله بالعمل السيِّئ العمل الصالح وأبدلهم بالشرك إخلاصًا وأبدلهم بالفجور إحصانًا وبالكفر إسلامًا» وهذا قول أبي العالية وقتادة وجماعة آخرين وهو تفسير حسن جدا.
وقال الآلوسي: «يبدل الله في الدنيا سيئاتهم حسنات» بأن يمحو سوابق معاصيهم ويثبت مكانها لواحق طاعاتهم كما يشير إلى ذلك كلام كثير من السلف».
وقال النسفي في تفسيره[(462)]: «فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات» أي يوفقهم للمحاسن بعد القبائح أو يمحوها بالتوبة ويثبت مكانها الحسنات، الإيمان والطاعة، ولم يرد أن السيئة بعينها حسنة ولكن المراد ما ذكرنا» اهـ.
وقال الفخر الرازي في «التفسير الكبير»[(463)]: «قال الزجاج: السيئة بعينها لا تصير حسنة، ولكن التأويل أن السيئة تُمحى وتكتب الحسنة مع التوبة» اهـ.
وقال أبو جعفر ابن جرير الطبري في «جامع البيان في تفسير القرءان»[(464)] وبعد سرد طويل: «وأولى التأويلين بالصواب تأويل من تأوله {…فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ} أعمالهم في الشرك {…فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} في الإسلام بنقلهم عما يسخط الله من الأعمال إلى ما يرضى، وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت على ما كانت عليه من القبح، وغير جائز تغير عين قد مضت بصفة إلى خلاف ما كانت عليه من صفتها في حال أخرى فيلزم إن فُعل ذلك كذلك أن يصير شرك الكافر الذي كان شركا في الكفر بعينه إيمانا يوم القيامة بالإسلام أو معاصيه كلها بأعيانها طاعة وذلك ما لا يقوله ذو حجا» اهـ.
وفي قوله تعالى: {…فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} إخبار عن فضل الله عليهم وتوفيقه إياهم أن نقلهم من حال الكفر والشرك إلى الإيمان والإسلام ومن حال المعصية إلى الطاعة، وأنه سبحانه يتفضل عليهم بإثابتهم على حسنة التوبة والإيمان ولواحق الطاعات.
تنبيه مهم جدا: لا يثبت «ما روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتين ناس يوم القيامة ودّوا أنهم استكثروا من السيئات قيل من هم؟ قال الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات». قال الآلوسي عن هذا الحديث: وفي كلام أبي العالية ما هو ظاهر في إنكار تمني الاستكثار من السيئات، فقد أخرج عبد بن حميد عنه أنه قيل له: إن أناسًا يزعمون أنهم يتمنون أن يستكثروا من الذنوب فقال: ولم ذلك؟ فقيل يتأولون هذه الآية: «فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات» وكان أبو العالية إذا أخبر بما لا يعلم قال: ءامنت بما أنزل الله في كتابه، فقال ذلك ثم تلا هذه الآية: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا» وهو يريد أن ما تلاه مناف لما زعموه من التمني بل لا يود أحد يوم القيامة أنه استكثر من السيئات لا يصير هذا.
وهذه الآية: {…وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} تكفي حجة على المخالفين، وذلك دليل ءاخر على عدم صحة الحديث المروي أعلاه عن أبي هريرة رضي الله عنه لما فيه من التناقض مع الآية الكريمة وعلى عدم صحة ما يُنسب إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للصحابة «أنا أكثركم حسنات لأني أكثركم سيئات في الجاهلية» ففي الآية {…وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} ما يرُدُّه، ولا يجوز أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الصحابي كلاما معارضا لهذه الآية كهذا الحديث المزعوم «ودّوا أنهم استكثروا من السيئات».
ولا يُلتفت إلى إيراده في بعض الكتب فليس كل ما في الكتب صحيحًا، ولا تخفى القاعدة أن ما عارض المتواتر يُرَدُّ إن لم يقبل تأويلا كما قال بذلك الأصوليون.
وفي «حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي» للقاضي شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي[(465)]: «بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويُثبت مكانها لواحق طاعاتهم. وفي ص158 يقول عن الحديث الموضوع «ليأتين ناس يوم القيامة ودّوا أنهم استكثروا من السيئات قيل من هم يا رسول الله قال الذين بدل الله سيئاتهم حسنات»: «لم أره، وأمارة الوضع لائحة عليه، فتمني السيئات شىء سيّئ» اهـ.
ثم لا يخفى ما ورد في الشريعة من عظم جرم الإصرار على الذنوب وهو معنى الاستكثار من السيئات حتى تزيد على الحسنات، ولذلك نقل القرطبي في التذكرة عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال «الفقيه من لم يُقَنِّط الناس من رحمة الله ولم يرخص لهم في معصية الله عز وجل». وقال القرطبي في «الجامع لأحكام القرءان»[(466)]: «قال الحسن: قوم يقولون التبديل في الآخرة، وليس كذلك، إنما التبديل في الدنيا، يبدلهم الله إيمانًا من الشرك، وإخلاصًا من الشك، وإحصانًا من الفجور. وقال الزجاج: ليس بجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن بجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة».
وقال الحافظ السيوطي في «الدر المنثور» عن ابن عباس أنه قال[(467)]: «فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات» فأبدلهم الله بالكفر الإسلام، وبالمعصية الطاعة، وبالإنكار المعرفة، وبالجهالة العلم». وقال[(468)]: «عن الحسن قال: التبديل في الدنيا يبدل الله بالعمل السيّئ العمل الصالح وبالشرك إخلاصا وبالفجور عفافا ونحو ذلك. وعن مجاهد قال: الإيمان بعد الشرك».
وقال الرازي في تفسيره «مفاتيح الغيب»[(469)]: «قال الزجاج: السيئة بعينها لا تصير حسنة ولكن التأويل أن السيئة تُمحى بالتوبة وتُكتب الحسنة مع التوبة».
وقال الطبري في تفسيره[(470)]: «فأبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادةَ الله، وأبدلهم بقتالهم مع المشركين قتالا مع المسلمين للمشركين، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات. وعن ابن عباس قال: بالشرك إيمانا، وبالقتل إمساكا، وبالزنا إحصانًا».
وفي كتاب تفسير ابن زمنين[(471)]: «فأما التبديل في الدنيا فطاعة الله بعد عصيانه وذكر الله بعد نسيانه».
وفي كتاب «الكشف والبيان عن تفسير القرءان»[(472)]: «قال ابن عباس وابن جبير والضّحاك وابن زيد: يعني فأولئك يبدّلهم اللهُ بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام، فيبدّلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانا».
وفي كتاب الحاوي[(473)]: «قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة: إن التبديل إنما يكون في الدنيا، فيبدل الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام فيبدلهم بالشرك إيمانًا، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانًا، فكأنه تعالى يبشرهم بأنه يوفقهم لهذه الأعمال الصالحة فيستوجبوا بها الثواب. قال الزجاج: السيئة بعينها لا تصير حسنة، ولكن التأويل أن السيئة تُمحى وتكتب الحسنة مع التوبة والكافر يُحبط اللهُ عملَه ويثبت عليه السيئات». وقال[(474)]: «قال النحاس: من أحسن ما قيل فيه أنه يكتب موضع كافرٍ مؤمن، وموضع عاصٍ مطيع. قال مجاهد والضحّاك: أن يبدلهم الله من الشرك الإيمان وروي نحوه عن الحسن.
وفي كتاب «الهداية إلى بلوغ النهاية»[(475)]: «قال ابن عباس معناه: كانوا قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك، فحولهم إلى الحسنات، فأبدلهم الله مكان السيئات حسنات. أي مكان عمل السيئات عمل الحسنات. وعن ابن عباس أنه قال: يبدل بكل مكان سيئة عملها حسنة يعملها في الدنيا».
وفي كتاب «الأنوار الساطعات لآيات جامعات»[(476)]: «عن ابن عباس قال: هم المؤمنون كانوا قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك، فحولهم إلى الحسنات، فأبدلهم الله مكان السيئات حسنات. وقال الحسن البصري: أبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصا، وأبدلهم بالفجور إحصانا، وبالكفر إسلاما، وهذا قول أبي العالية، وقتادة، وجماعة ءاخرين».
وفي كتاب تفسير الشيخ المراغي[(477)]: «لكن مَن رجع عن هذه الآثام مع إيمانه وعمل الصالحات فأولئك يمحو الله سوابق معاصيه بالتوبة ويثبت له لواحق طاعته. والخلاصة، أنه يعفو عن عقابه، ويتفضل بثوابه، والله واسع المغفرة لعباده، فيثيب من أناب إليه بجزيل الثواب، ويبعد عنه شديد العقاب».
وفي تفسير القشيري المسمى لطائف الإشارات للقشيري النيسابوري[(478)]: «ويقال يبدل الله سيئاتهم حسنات فيغفر لهم ويثيبهم على توبتهم» اهـ. أي بعد إسلامهم.
وفي تفسير الخازن لعلاء الدين بن محمد بن إبراهيم البغدادي الشهير بالخازن[(479)]: «قال ابن عباس: يبدّلهم اللهُ بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام، فيبدّلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانا».
وفي تفسير الخطيب الشربيني المسمى السراج المنير للشيخ محمد بن أحمد الخطيب الشربيني[(480)]: «قال ابن عباس ومجاهد: هذا التبديل في الدنيا فيبدّل اللهُ تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام، فيبدّلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا إحصانا وعفة، فكأنه تعالى يبشرهم بتوفيقهم لهذه الأعمال الصالحة فيُثبِتُ له الثواب. وقال الزجاج: إن السيئة بعينها لا تصير حسنة فالتأويل أن السيئة تُمحى بالتوبة، وتُكتب مع التوبة حسنة».
فتبين من مجموع هذه الأدلة والنقول أن ما افتراه عمرو خالد المصري وبعض المعاصرين في هذا الزمان من أدعياء المشيخة والعلم في سوريا ولبنان ومصر وتركيا من أن المسلم العاصي إذا تاب عين معاصيه تنقلب حسنات، هو قول ساقط مردود لا يُعبَأ به ولا بقائله، وهو تكذيب للإسلام وتشجيع للفسقة على الإكثار من الزنا واللواط والقتل والغصب وأكل أموال الناس بالباطل، ثم يقولون «نتوب فتنقلب معاصينا حسنات»، ولا يقول بهذا ذو لُبٍّ وتحصيل.
قال الله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ… *} [سورة القصص] .
إن الله تعالى يهدي من يشاء من عباده إلى طاعته، ويعصمه أي يحفظه عن معاصيه، ويعافيه في دينه ونفسه فضلا منه تعالى لا لأنه ملزم بذلك، ويضلّ من يشاء من عباده، ويخذله أي يترك حفظه ونصرته ويبتليه في نفسه ودينه عدلا منه تعالى لا ظلما وجورا، فعلم بذلك بطلان مذهب المعتزلة وهو قولهم: إنه ملزم بما هو الأصلح للعباد. لأن مذهب أهل الحق أهل السنة والجماعة أن الله له أن يتصرف فيهم كيف يشاء، لأن العالم ملكه وهو المالك الحقيقي له، فله أن يتصرف في مملوكه كيفما يريد. ومن أدلة أهل الحق قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ… *} ، هذه الآية نزلت في أبي طالب لما مات كافرا وكان الرسول صلى الله عليه وسلم دخل عليه في مرض وفاته، فعرض عليه الإسلام فأبى أن يقول: لا إلـه إلا الله، بل قال: إني على ملّة عبد المطلب.
فمعنى الآية: إنك يا محمد لا تهدي من أحببت الاهتداء له وهو عمّه لأنه كان يحب له أن يهتدي وإن كان لا يحبّ شخصه لكفره، وإنما الله تعالى يهدي من شاء له أن يهتدي وإن كان لا يحبّ شخصه لكفره، وإنما الله تعالى يهدي من شاء في الأزل له أن يهتدي، فالضمير في {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ… *} عائد إلى الله.
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره «جامع البيان في تفسير القرءان»، طبع دار الجيل، المجلد العاشر الجزء20 ص58: «القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ *} يقول تعالى ذِكرُه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم إنك يا محمد لا تهدي من أحببت هدايته ولكن الله يهدي من يشاء أن يهديه من خلقه بتوفيقه للإيمان به وبرسوله» اهـ.
وقال المفسر البغوي في تفسيره المسمى «معالم التنزيل»[(481)]: «قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، أي أحببتَ هدايتَه» اهـ.
فتبيّن أن معنى هذه الآية الكريمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الاهتداء لعمه الكافر بأن يُسلِمَ ويخرُجَ من كُفره، وليس معناها أنه يحبه لكفره بل هو يكرهه لأنه كافر، قال الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ *} ، فإن كان الله لا يحبُّهم فكيف للرسول أن يحبَّهم، ثم إن عمَّه لما مات على الكفر، النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ عليه بدليل ما سيأتي من الأحاديث، فالحق أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب له الاهتداء وليس كما ادعى بعض الجهلة في هذا العصر من أنه كان يحبه لشخصه أو لمجرد قرابته لكفره، فهذا مستحيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقلّ الإسلام شهادة ألاّ إلـه إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأقل الإيمان التصديق القلبي بمعنى الشهادتين.
فالإسلام والإيمان متلازمان فلا يصح كل منهما بدون الآخر، فالنطق بالشهادتين لا يُقبل عند الله دون التصديق بالقلب، والتصديق القلبي لا يقبل عند الله بدون النطق، قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه كما نقل الفقيه ملا علي القاري الحنفي في شرح الفقه الأكبر ما نصه: «فهما كالظهر مع البطن».
وقال النووي في شرح صحيح ما نصه[(482)]: «من صدّق بقلبه ولم ينطق بلسانه فهو كافر مخلّد في النار بالإجماع»، وخالف بعضهم وهو قول شاذ مردود لا يُعمَلُ به، وهو مخالف لللإجماع فقال: من صدّق بقلبه ولم ينطق بلسانه فهو مؤمن عند الله إذا لم يُعرض عليه النطق بالشهادتين فيأبى كأبي طالب فقد عرض عليه الرسول أن يقول لا إلـه إلا الله فأبى، رواه البخاري في صحيحه. فلم يختلف اثنان من العلماء في كفر الآبي الممتنع.
وقد روى أبو داود في سننه في كتاب الجنائز والبيهقي في سننه[(483)] أن عليّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال (يا رسول الله إن عمّك الشيخ الضال قد مات، فقال عليه الصلاة والسلام: «اذهب فواره»)، وفي رواية (إن عمّك الشيخ الكافر)، فلذلك لم يختلفوا في كفر الآبي. هذا في غير من ولد في الإسلام فإنه لا يشترط لصحة إيمانه وإسلامه النطق بل يكفي الاعتقاد. وأما الكتاب المنسوب لأحمد بن زيني دحلان: (أسنى المطالب في نجاة أبي طالب) فهذا الكتاب لم يثبت عنه وعلى من أثبته فليأتِ بالمخطوطة.
قال الله تعالى: {…إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ… *} [سورة العنكبوت] .
قال الإمام المفسر محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرءان» ما نصه[(484)]: «قوله تعالى: {…وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي ذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم، قال معناه ابن مسعود وابن عباس وأبو الدرداء وأبو قرة وسلمان والحسن؛ وهو اختيار الطبري وروي مرفوعا من حديث موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قول الله عز وجل: {…وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قال: ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه» اهـ.
قال الإمام المفسر السلفي محمد بن جرير الطبري في تفسيره ما نصه[(485)]: «وقوله {…وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، عن مجاهد وعكرمة قالا: ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه» اهـ.
وقال الإمام الحافظ أبو الفرج عبد الرحمـن بن الجوزي في تفسيره «زاد المسير» عند شرحه لهذه الآية ما نصه[(486)]: «ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه، رواه ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه قال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد» اهـ.
نقول: وما رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكره السيوطي في الدر المنثور.
قال الحجة شيخ الإسلام الحافظ المحدث الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله، في كتابه «بغية الطالب لمعرفة العلم الديني الواجب»[(487)]: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أُخبِرُكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليكِكُم وأرفَعِها في درجاتكم وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والورِق وخيرٍ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم وتضربوا أعناقَهُم ويضربوا أعناقكم» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «ذِكرُ الله» أي الصلاة، ومعناه أن أفضل الواجبات بعد الإيمان بالله ورسوله الصلوات الخمس، والورِقُ أي الفضة. وحملُ هذا الحديث على الذكر المطلَقِ تحريفٌ للحديث. وأما قوله تعالى: {…إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ… *} [سورة العنكبوت] ، فليس معناه أن اشتغال المرء بالتسبيح والتحميد بلسانه ونحو ذلك من الأذكار أفضل من الصلوات الخمس بل المعنى أنَّ ذِكرَ الله لعبده أكبرُ من ذكرِ العبد ربَّه. وقد نبغت طائفة تنتسب للطريقة النقشبندية تفضل طريقتها على الصلوات الخمس حملا للذِكر الوارد في الآية على ما يفعلونه من ذكرهم الاسمَ المفردَ «الله» في قلوبهم عددًا معيّنًا، وحصل مثل ذلك في بعض الشاذلية وهذا ضد الدين وتكذيب لقواعده المنصوص عليها» اهـ.
وليس كما قال بعض ملاحدة هذا العصر من زنادقة المتصوفة كأمثال رجب ديب الدمشقي تلميذ أحمد كفتارو، فإنه حرَّف وزيَّف معنى هذه الآية وزعم أن مطلق الذكر كحضور حلقات الذكر أفضل من الصلوات الخمس، فقال والعياذ بالله «الصلاة في المرتبة الرابعة والذكر في المرتبة الأولى»، وهذا تكذيب لنصوص القرءان والسنة الثابتة وإجماع الأمة، وهو دين جديد اتَّبعه رجب ديب ومن كان على شاكلته من متصوفة الرِّجس الذين ضلَّوا وأضلَّوا، والتصوف الإسلامي الحقيقي بريء منهم.
ـ[457] الأسماء والصفات (طبعة المكتبة الأزهرية للتراث الطبعة الأولى ص84 – 85).
ـ[458] تأويلات أهل السنة (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1426هـ المجلد السابع ص564).
ـ[459] تأويلات أهل السنة (طبع دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1426هـ المجلد الثامن ص37).
ـ[460] الجامع لأحكام القرءان (المجلد الثالث عشر ص63).
ـ[461] زاد المسير (الجزء السادس الطبعة الرابعة 1407هـ طبع المكتب المسمى الإسلامي، ص98 – 99).
ـ[462] (دار الكتاب العربي 1402هـ الجزء الثالث ص176).
ـ[463] التفسير الكبير (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1311هـ، المجلد الثاني عشر الجزء24 ص98).
ـ[464] جامع البيان في تفسير القرءان (دار الجيل – بيروت، المجلد التاسع الجزء19 ص30).
ـ[465] حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي (ج7/ص157).
ـ[466] الجامع لأحكام القرءان» (ج13/ص78).
ـ[467] الدر المنثور (ج11/ص217).
ـ[468] الدر المنثور (ص/221).
ـ[469] مفاتيح الغيب (ج24/ص98).
ـ[470] تفسير الطبري 310 (دار هجر المجلد12 ج17 ص517).
ـ[471] تفسير ابن زمنين (1/483).
ـ[472] الكشف والبيان عن تفسير القرءان (7/150).
ـ[473] الحاوي (564/14).
ـ[474] الحاوي (ص/29).
ـ[475] الهداية إلى بلوغ النهاية (8/5260).
ـ[476] الأنوار الساطعات لآيات جامعات (1/444).
ـ[477] تفسير الشيخ المراغي (19/40).
ـ[478] لطائف الإشارات (2/394).
ـ[479] تفسير الخازن (3/319).
ـ[480] تفسير الخطيب الشربيني (3/36).
ـ[481] معالم التنزيل (طبع دار المعرفة الطبعة الثالثة 1413هـ، الجزء الثالث ص450).
ـ[482] شرح صحيح (1/149).
ـ[483] الجنائز (1/304).
ـ[484] الجامع لأحكام القرءان (/).
ـ[485] الطبري في تفسيره (طبعة دار الجيل – بيروت، المجلد العاشر الجزء20 ص100).
ـ[486] زاد المسير (6/274 – 275).
ـ[487] بغية الطالب لمعرفة العلم الديني الواجب (طبع شركة دار المشاريع،الطبعة السابعة 1426هـ الجزء الأول ص151).
الإشعارات