الأحد ديسمبر 22, 2024

قال الله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا… *} [سورة الأنفال]

قول الله تعالى: {…وَعَلِمَ} ليس راجعًا لقوله تعالى: {الآنَ} ، بل المعنى أنه تعالى خَفَّفَ عنكم الآن لأنه عَلِمَ بعلمه السَّابق في الأزل أنه يكون فيكم ضعف.

هذه الآية معناها أنه نُسِخَ ما كان واجبًا عليهم من مقاومةِ واحدٍ من المسلمين لأضعافٍ كثيرةٍ من الكفَّار بإيجابِ مقاومةِ واحدٍ لاثنين من الكفَّار رحمةً بهم للضَّعفِ الذي فيهم.

والدليلُ العقليُّ على صفةِ العلمِ هو أنه تعالى لو لم يكن عالما لكان جاهلا والجهلُ نقصٌ والله منزَّهٌ عن النَّقص، وأما من حيث النَّقلُ فالنصوص كثيرة، منها قولُهُ تعالى: {…وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [سورة الحديد] .

قال الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره «تأويلات أهل السنة»[(213)]: «أمر – الله – بذلك مع علمه أن فيهم ضعفًا» اهـ.

وقول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ… *} [سورة محمد] .

هذه الآية لا تعني أن الله يتجدد له علم، وليس معنى ذلك أنه سوف يعلم المجاهدين بعد أن لم يكن عالما بهم بالامتحان والاختبار، ويكفر من يقول إن الله تعالى يكتسب علما جديدا، وهذا يستحيل على الله تعالى، بل معنى الآية حتى نُميّز أي حتى نُظهر للعباد المجاهدين منكم والصابرين من غيرهم، الله يبتلي عباده حتى يُظهِرَ ويُميّزَ لعباده من هو الصادق ومن هو غير الصادق، فالملائكة يعرفون أن هذا صادقٌ صابرٌ على طاعة الله وأن هذا ليس بصابرٍ، يَكشِفُ الله تعالى لهم ولمن شاء من خلقه مَن الذين يجاهدون في سبيل الله صابرين على المشقَّات، يُظهرهم لعباده من غيرهم الذين لا يصبرون، وهو عالم بعلمه الأزلي مَن هو الصَّابرُ ومَن هو غير الصَّابر كما نقل ذلك البخاري في صحيحه عن أبي عُبيدةَ مَعمرِ بن المثنَّى وهذا شبيهٌ بقوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ… *} [(214)] [سورة الأنفال] .

قال القاضي المفسر ابن عطية الأندلسي في كتابه «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» في شرحه لقول الله تعالى: {…حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ} ما نصه[(215)]: «وعِلمُ اللهِ بالمجاهدين قديم أزلي» اهـ.

وقال الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره «تأويلات أهل السنة» ما نصه[(216)]: «ويكون التغيّر في ذلك المعلوم لا في علمه تعالى، والله الموفق» اهـ. فلا يجوز اعتقادُ أن الله تعالى يتجدَّدُ له علمٌ لم يكن عَلِمَهُ في الأزل، بل يكفرُ من اعتقدَ ذلك.

وكذلك يكفر من يقول «الله لا يعلم بالشىء إلا بعد حصوله»، ويجب التحذير من قول بعض أدعياء التصوف ومن قول بعض المبتدعة من أهل الأهواء الزائغين عن الإسلام الذين كفروا وضلوا من أن الله لا يعلم ما سيفعل هذا الإنسان إلا بعد أن يفعله، وعلى زعمهم لم يعلم الله أن الكافر سيكفر إلا بعد أن يكفر، فهؤلاء من أشد الناس كفرًا.

قال الإمام الطحاوي في «العقيدة الطحاوية»: «وقد علِمَ الله تعالى في ما لم يزل عدد مَن يدخل الجنة وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يُزاد في ذلك العدد ولا يُنقَصُ منه، وكذلك أفعالُهُم في ما عَلِمَ منهم أن يفعلوه، وكلٌ مُيَسَّر لما خُلِقَ له» اهـ. قال الحافظ الحجة الشيخ عبد الله الهرري في «إظهار العقيدة السُّنية بشرح العقيدة الطحاوية» في شرحه لكلام الطحاوي، ما نصه[(217)]: «ويستحيل ألا يعلم ما يكون من مخلوقاته قبل وجودهم إذ ذاك جهل والجهل في حق القديم محال، فثبت سبق علمه في الأزل بما يكون من مخلوقاته» اهـ.

قال أبو بكر أحمد بن علي الجصَّاص الرازي المتوفى سنة 370هـ، في كتابه «أصول الجصَّاص المسمى الفصول في الأصول» ما نصه[(218)]: «ومن جوَّز النَّسخَ في اعتقاد معاني خبر الله تعالى وخبر الرسول عليه السلام فقد وصَفَ الله تعالى بالبداء، وأنه ظهر له في الثاني ما لم يكن علِمَه قبلُ، لأن البَداء، معناه الظُّهورُ، قال الله تعالى: {…لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ… *} [سورة المائدة] ، يعني إن تظهَر لكم، وقال تعالى: {…وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ… *} [سورة البقرة] ، ومن جوَّز البَداء على الله تعالى فهو خارجٌ عن ملة الإسلام» اهـ.

وهذا تكفيرٌ صريحٌ لكل من قال أو اعتقد أنّ الله يتجدد له علم، أو لا يعلم شيئًا إلا بعد حصوله، أو لا يعلمُ الصابرَ أنه صابرٌ إلا بعد صبرِه، أو أنه ظهر له شيءٌ كان خافيًا عليه، لأنه يكون قد نسب الجهل إلى الله، والله تعالى يقول {…وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ *} ، ويكون شبَّهَهُ بخلقِه، والإمام الطحاوي يقول: ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر.

ـ[213]       تأويلات أهل السنة (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1426هـ المجلد الخامس ص254).

ـ[214]       فتح الباري (8/510).

ـ[215]       المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى1413هـ الجزء الخامس ص121).

ـ[216]       تأويلات أهل السنة (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1426هـ المجلد التاسع ص283).

ـ[217]       إظهار العقيدة السُّنية بشرح العقيدة الطحاوية (دار المشاريع للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 1417هـ ص189).

ـ[218]       أصول الجصَّاص المسمى الفصول في الأصول (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1420هـ المجلد الأول ص358 و359).