الأحد ديسمبر 22, 2024

سورة الفاتحة

قال الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}

قال الإمام الحافظ اللغوي تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي ما نصه: «العبادة أقصى غاية الخشوع والخضوع»، وذكر ذلك الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في شرح القاموس، وممّن فسّر العبادة بذلك أيضا الراغب الأصبهاني وهو لغويّ مشهور يُكثر النقل عنه صاحب شرح القاموس محمد مرتضى الزبيدي قال في تأليفه مفردات القرءان: «العبادة غاية التذلل».

قال الفخر الرازي في «التفسير الكبير»[(4)] ما نصه: «فاعلم أن العبادة عبارة عن الإتيان بالفعل المأمور به على سبيل التعظيم للآمر» اهـ.

ثم لو كان معنى العبادة مطلق الطاعة لمخلوق في أيّ شىء طاعة أو معصية لكان عمّال الحكام الجائرين كفّارا فهل يقول هؤلاء الذين يكفرون المتوسلين بالأنبياء والأولياء في هؤلاء العمال إنّهم مشركون، أليس هؤلاء أنفسهم يطيعون الحكّام في بعض المعاصي، فعلى مقتضى قولهم يكونون حكموا على أنفسهم بالكفر، وهؤلاء هم الوهابية أتباع محمد بن عبد الوهاب كفّروا أنفسهم وإن لم يشعروا. فهؤلاء الذين يكفّرون المستغيثين بالأولياء والأنبياء ليتعلموا معنى العبادة في لغة العرب قبل إطلاق ألسنتهم بالتكفير؛ وهذا معنى العبادة المرادة بقوله تعالى: {…لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *} وبقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . وهذه هي العبادة المختصة لله تعالى التي من صرفها لغيره صار مشركا، وليس معناها مجرّد النداء أو الاستغاثة أو الاستعانة أو الخوف أو الرّجاء كما زعمت الوهابية أن مجرّد نداء شخص ميت أو غائب شرك وكذلك استعانته به إلا بالحيّ الحاضر، حتى لو قال قائل «يا محمد» صار عندهم كافرًا، وكذا لو قال قائل «يا رسول الله المدد» صار كافرًا عندهم، وهؤلاء جاهلون بمعنى العبادة في لغة العرب، قال الليث وهو إمام من أئمة اللغة متقدّم: «ويقال للمشركين هم عبدة الطاغوت – أي الشيطان – ويقال للمسلمين عباد الله يعبدون الله، وقال الله عزّ وجلّ {…اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أي أطيعوا ربكم، وقوله الآية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} أي نطيع الطاعة التي يخضع معها» اهـ. وقال ابن الأثير: «والعبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع»، وفي المصباح المنير للفيومي أحد مشاهير اللغويين: «عبدت الله أعبده عبادة وهي الانقياد والخضوع»، وفي تاج العروس شرح القاموس للحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي: «والعِبادة بالكسر الطاعة».

فإن قال هؤلاء وأمثالهم أليس ورد في تفسير قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} أنّ عبادتهم لهم طاعتهم في ما حرّموا وحللوا من تلقاء أنفسهم.

فالجواب أنَّ ذلك داخل تحت هذا التعريف الانقياد والتذلل فإنهم انقادوا وتذلّلوا لهم في ذلك لأنهم كانوا يعتقدون أنَّهم يستحقون أن يطاعوا في ذلك حقيقة، وليس الذي حصل منهم مجرد أنهم أطاعوهم فإن المسلم قد يطيع من له عليه رئاسة في المعصية لكنه لا يطيعه على الوجه الذي أطاعته النصارى لأحبارهم ورهبانهم فلا يكونون عابدين لرؤسائهم كأولئك وكذلك مجرّد الطاعة لمخلوق في المعصية ليس عبادة له وإشراكا بالله؛ وإنما الطاعة التي يكفّر فاعلها هي الطاعة مع غاية التذلل والتعظيم وهذا مراد من قال من اللغويين «العبادة الطاعة» فكأنهم قالوا الطاعة المخصوصة.

ومعنى الآية أنهم كما عبدوا المسيح بقولهم «هو الله أو هو ابنه» وهو بريء من ذلك، كذلك القرءان أخبرنا بأنهم اتخذوا أحبارهم أي علماءهم ورهبانهم أي الذين اتخذوا صوامع بعيدة عن الناس أربابا من دون الله أي عبدوهم من دون الله لأنهم اعتقدوا أنّه لهم حقّ التحليل والتحريم لأنَّ الذي يقول لشخص «اعترف عندي بذنوبك أنا أغفرها لك» فقد ادعى الألوهية لنفسه لأن ذلك لا يكون إلا لله، والله تعالى يقول {…وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} معناه لا أحد يستطيع أن يغفر الذنوب لمن عصى إلا الله لأن دعوى الربوبية لها وجوه من جملتها أن يعتقد الإنسان أنّ للعبد حقّ التحليل والتحريم أو مغفرة الذنوب أو الإيجاد لبعض الأشياء قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *} ، قال سيدنا علي رضي الله عنه في هذه الآية: إنها تعني أصحاب الصوامع النصارى الذين يظنون أنهم يحسنون العمل وهم ليس لهم في الآخرة إلا النار لكونهم عبدوا غير الله، أي تذللوا لغير الله غاية التذلل.

فلا مُتَمسَّك في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} للوهابية الذين فسروا العبادة بالخوف والرجاء والطاعة والمحبة لأنهم بذلك يُكفّرون كل البشر كما في كتابهم المسمى «فتح المجيد شرح كتاب التوحيد»[(5)] المتن لمحمد بن عبد الوهاب والشرح لحفيده المدعو عبد الرحمـن ابن حسن آل الشيخ وبموافقة ابن باز، وهذا دين جديد لم يقل به مسلم قط.

وهذا الوهابي المصري محمد حسّان يقول في كتابه المسمى «حقيقة التوحيد»[(6)] مستشهدا بكلام المتطرف الملحد سيد قطب من كتابه المسمى «في ظلال القرءان»[(7)] عن الآية {…فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} بعد قول محمد حسان أن الأنداد هم الشركاء ما نصه: «فقد تكون الأنداد في صورة أخرى خفيّة. قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في أي صورة وفي الخوف من غير الله في أي صورة».

وبهذا يكون الوهابي محمد حسّان قد كفَّر سيدنا موسى وسيدنا هارون عليهما السلام لأن محمد حسّان يقول بأن الأنداد الذي هو الشرك قد يكون في الخوف من غير الله في أي صورة، والله تعالى يقول حكاية عن سيدنا موسى عليه السلام {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} وقال تعالى: {…خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} وقال تعالى: {…فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ *} وقال تعالى حكاية عن هارون وموسى {…لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى *} ، وهذا الخوف هو الخوف الطبيعي، فكيف يقول الخوف من غير الله في أي صورة يكون من الشرك نعوذ بالله! وقد قال تعالى عن موسى عليه السلام {…وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا *} .

هذا الوهابي كفّر الصحابة أيضًا، فقد قال الله تعالى فيهم في سورة الأنفال {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *} .

قال الإمام المفسر محمد بن مسعود البغوي في شرحه لهذه الآية في كتابه تفسير البغوي ما نصه: «قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} يقول: واذكروا يا معشر المهاجرين إذ أنتم قليل في العدد مستضعفون في أرض مكة في ابتداء الإسلام {…تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} يذهب بكم الناس يعني كفار مكة. وقال عكرمة: كفار العرب. وقال وهب فارس والروم، {…فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} إلى المدينة {…فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} أي قواكم يوم بدر بالأنصار. وقال الكلبي: قواكم يوم بدر بالملائكة {…وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} يعني الغنائم أحلها لكم ولم يحلها لأحد قبلكم».

وأما قوله {…وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} فليس فيها ما زعمته الوهابية من تكفير المستغيثين والمتوسلين بالأنبياء والأولياء والصالحين، وكما زعم محمد راتب النابلسي الدمشقي فقد اعتبر مطلق الاستعانة عبادة وهذا عين عقيدة الوهابية في كتابه المسمى «تأملات في الإسلام»[(8)] فقد قال فيه: «ورب العالمين هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا به» اهـ، وقال فيه أيضًا ما نصه[(9)]: «أي لا نعبد أحدًا غيرك ولا نستعين بكائن سواك» اهـ. فالمسلم لا يعتقد في الأنبياء والأولياء أنهم هم يخلقون له النفع بل اعتقاده أن الله هو يخلق له النفع عند توسله أو استغاثته أو استعانته بالأنبياء والأولياء لأن عقيدة المسلمين أن الضار والنافع على الحقيقة هو الله، والمسلم لا يطلب من نبي أو ولي ما لا يقدران عليه، وهذه الاستعانة في قوله تعالى: {…وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} هي الاستعانة الخاصة أي أننا نطلب منه سبحانه أن يخلق فينا العون والقدرة على فعل الأشياء. وهذا لا نطلبه من غيره سبحانه، ولا يدخل تحت هذا المعنى الاستغاثة والتوسل والاستعانة بالأولياء ولا ما يطلبه العباد بعضهم من بعض كقول الإنسان لإنسان آخر «أعني في إمساك فرسي هذه» أو «على حمل متاعي على الدابة»، وليس معناها أن المسلم إذا استعان بنبي أو ولي حي أو ميت يكون كافرًا وإلا لو كانت هذه الاستعانة أو هذه الاستغاثة شركًا كما زعمت الوهابية لما بقي، على قولهم، مسلم على وجه الأرض. ومما يرد كلامهم ما رواه الترمذي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» . فهل تزعم الوهابية أن الرسول صلى الله عليه وسلم حث الناس على أن يعبد بعضهم بعضًا بهذه الاستعانة؟! حاشا وكلا، وماذا تقول الوهابية في قول الله تعالى إخبارًا عن عبده الصالح ذي القرنين في قصة بناء السد بيننا وبين يأجوج ومأجوج {قَالُوا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا *قَالَ مَا مَكَّنْنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا *} [سورة الكهف] فهل تزعم الوهابية أن ذا القرنين عبد الناس الذين طلب منهم الإعانة؟!

ومن عجائب الوهابية أنهم يُكفّرون المسلمين سلفًا وخلفًا شرقًا وغربًا إذا توسلوا بالأنبياء والأولياء واستعانوا بهم مع الاعتقاد الصحيح أن الضار والنافع على الحقيقة هو الله، ولا يُكفّرون إمامهم وشيخهم ابن تيمية الحراني حيث قال في كتابه «مجموع الفتاوى»[(10)]: «إنه سبحانه يفعل ذلك بجنوده (وأعوانه) من الملائكة» فهل ستكفّره الوهابية لأنه قال «الملائكة أعوان الله» وحاشى لله وتنزه الله، أم يخافون الفضيحة وانقطاع المال؟

فَلْيُنْظَرْ كيف كفَّروا المسلمين لأنهم استغاثوا بالأنبياء والأولياء من غير أن يعتقدوا في قلوبهم ومن غير أن يقولوا بألسنتهم «إنهم أعوان الله»، فيكفرون المستغيثين بالأنبياء والأولياء، ولا يكفّرون إمامهم مع تصريحه بنسبة الأعوان إلى الله فيا لفضيحتهم.

ـ[4]     التفسير الكبير (1/19).

ـ[5]     فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص/179).

ـ[6]     انظر كتابه المسمى حقيقة التوحيد (ص/33 – 34).

ـ[7]     في ظلال القرءان (1/42).

ـ[8]     تأملات في الإسلام (24).

ـ[9]     تأملات في الإسلام (30).

ـ[10]    مجموع الفتاوى (5/507).