الأربعاء أبريل 24, 2024

وهي قواعد تتعلق بكيفية تعامل أهل العلم مع الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنهم لا يتلقونه لمجرد نسبته إليه بالتسليم لناقله، وإنما يحرصون على الكشف عن الشاذ والمنكر وغير ذلك صيانة للدين والعلم والأمة مما يظهر لهم بقواعد قعّدوها لهذا، ومن ذلك:

القاعدة الأولى: الحديث إذا خالف صريح العقل أو النص القرءاني أو الحديث المتواتر ولم يَقبل تأويلاً فهو باطل، ذكر ذلك الفقهاء والأصوليون في كتب أصول الفقه كتاج الدين السبكي في جمع الجوامع وغيره. فقد ذكر الحافظ الفقيه البغدادي في كتابه «الفقيه والمتفقِّه» ما نصه[(20)]: «وإذا روى الثقة المأمون خبرًا متّصل الإسناد رُدَّ بأمور: أحدها: أن يُخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يَرِدُ بمجوَّزات العقول وأمّا بخلاف العقول فلا، والثاني: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ، والثالث: أن يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له، لأنه لا يجوز أن يكون صحيحًا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه». انتهى.

القاعدة الثانية: أنه ليس كل حديث اتصل سنده بالعدول يحكم له بالصحة لاحتمال أن يشتمل على علة قادحة أو شذوذ في سند أو متن. ومن المعروف عند المشتغلين بعلم الحديث أن الحديث الصحيح هو الحديث الذي اتصل سنده بنقل العدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة. ومعرفة الشذوذ والعلل وتمييزها لا يكون إلا لمن تَبَحَّرَ في علم الحديث. ومع هذا فقد يخفى على حافظٍ قادحٌ يفطن له حافظ ءاخر. وهذا مما يعرفه المطلعون على علوم الحديث.

قال الزركشي في كتابه «تشنيف المسامع» ممزوجًا بالمتن ما نصه[(21)]: خبر الواحد العدل المتجرد من القرائن لا يفيد العلم عند الجمهور، وقيل يفيده مطلقًا، ونقله الباجي عن أحمد وابن خُوَيْز منداد، وحمله بعض المحققين على الخبر المشهور وهو الذي صحت له أسانيد متعددة سالمة عن الضعف والتعليل فإنه يفيد العلم النظري، لكن ليس لكل أحد بل بالنسبة إلى الحافظ المتَبحِّرِ، قال: لعل هذا هو مراد أحمد، ويجب العمل بخبر الواحد العدل في الفتوى والشهادة إجماعًا وكذا سائر الأمور الدينية» اهـ.

وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (458هـ) في كتابه «معرفة السنن والآثار»[(22)]: وقد يزل الصدوق فيما يكتبه، فيدخل له حديث في حديث، فيصير حديث روي بإسناد ضعيف مركبا على إسناد صحيح، وقد يزل القلم ويخطئ السمع، ويخون الحفظ، فيروي الشاذَّ من الحديث عن غير قصد ، فيعرفه أهل الصنعة الذين قيَّضهم الله لحفظ سنن رسوله صلى الله عليه وسلم على عباده، وهو كما قال يحيى بن معين: لولا الجهابذة لكثرت السُّتُّوقة والزيوف في رواية الشريعة، فمتى أحببت فهلم حتى أعزل لك منه نقد بيت المال، أما تحفظ قول شريح: إن للأثر جهابذة كجهابذة الوَرِق – أي الفضة -. أخبرنا بذلك أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا يحيى بن منصور القاضي قال: حدثنا محمد بن عمر ابن العلاء الجرجاني قال: حدثنا يحيى بن معين، فذكره في حكاية ذكرها. وقد روينا عن الأوزاعي أنه قال: كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما يعرض الدرهم الزيف، فما عرفوا منه أخذنا، وما أنكروا تركنا» وقال[(23)]: «ومنها: ما قد اختلفوا في ثبوته فمنهم من يضعفه بجرح ظهر له من بعض رواته خفي ذلك على غيره، أو لم يقف من حاله على ما يوجب قبول خبره، وقد وقف عليه غيره، أو المعنى الذي يجرحه به لا يراه غيره جرحا، أو وقف على انقطاعه أو انقطاع بعض ألفاظه، أو إدراج بعض رواته قول رواته في متنه، أو دخول إسناد حديث في حديث خفي ذلك على غيره. فهذا الذي يجب على أهل العلم بالحديث بعدهم أن ينظروا في اختلافهم ويجتهدوا في معرفة معانيهم في القبول والرد، ثم يختاروا من أقاويلهم أصحها. وبالله التوفيق» اهـ.

وفي كتاب «الأسماء والصفات»[(24)] للبيهقي نقلاً عن أبي سليمان الخطابي في سياق كلامه على ما ورد من الأصابع لله قال: «لا تثبت لله صفة إلا بالكتاب أو خبر مقطوع له بصحته يستند إلى أصل في الكتاب أو في السنة المقطوع على صحتها، وما بخلاف ذلك فالواجب التوقف عن إطلاق ذلك، ويتأول على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقوال أهل العلم من نفي التشبيه».

ثم قال: «وذكر الأصابع لم يوجد في شىء من الكتاب ولا من السنة التي شرطها في الثبوت ما وصفناه، وليس معنى اليد في الصفات بمعنى الجارحة حتى يتوهم بثبوتها ثبوت الأصابع بل هو توقيف شرعي أطلقنا الاسم فيه على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه» اهـ.

وهذه القواعد هي ما مشينا على هداها في أثناء تعرضنا لما أردنا التنبيه عليه مما في صحيحي البخاري ومسلم، معتمدين على كلام الحفاظ الذين توافرت فيهم آلات المعرفة التي تخولهم انتقاد كلام غيرهم من الحفاظ كالبخاري ومسلم، فلم نسلك بحمد الله طريقة التحكم والهوى بلا دليل أو حجة.

ـ[20] الفقيه والمتفقه (دار الكتب العلمية الطبعة الثانية 1400هـ، المجلد الأول الجزء الرابع ص132 – 133).

ـ[21] تشنيف المسامع (ص/164).

ـ[22] معرفة السنن والآثار (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1412هـ، المجلد الأول ص82).

ـ[23] معرفة السنن والآثار (ص/106).

ـ[24] الأسماء والصفات (ص/335 – 336).