فَصْلٌ فِى تَحْقِيقِ مَعْنَى الْبِدْعَةِ وَحُكْمِهَا
اعْلَمْ أَنَّ الْبِدْعَةَ لُغَةً مَا أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ يُقَالُ جِئْتُ بِأَمْرٍ بَدِيعٍ أَىْ مُحْدَثٍ عَجِيبٍ لَمْ يُعْرَفْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَفِى الشَّرْعِ الْمُحْدَثُ الَّذِى لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ وَلا جَاءَ فِى السُّنَّةِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِىِّ «لَيْسَتِ الْبِدْعَةُ وَالْمُحْدَثُ مَذْمُومَيْنِ لِلَّفْظِ بِدْعَةٍ وَمُحْدَثٍ وَلا مَعْنَيَيْهِمَا وَإِنَّمَا يُذَمُّ مِنَ الْبِدْعَةِ مَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ وَيُذَمُّ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ مَا دَعَا إِلَى الضَّلالَةِ» اهـ.
أَقْسَامُ الْبِدْعَةِ
وَالْبِدْعَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ
بِدْعَةُ ضَلالَةٍ وَهِىَ الْمُحْدَثَةُ الْمُخَالِفَةُ لِلْقُرْءَانِ وَالسُّنَّةِ.
وَبِدْعَةُ هُدًى وَهِىَ الْمُحْدَثَةُ الْمُوَافِقَةُ لِلْقُرْءَانِ وَالسُّنَّةِ.
وَهَذَا التَّقْسِيمُ مَفْهُومٌ مِنْ حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظٍ ءَاخَرَ وَهُوَ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» فَأَفْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ «مَا لَيْسَ مِنْهُ» أَنَّ الْمُحْدَثَ إِنَّمَا يَكُونُ رَدًّا أَىْ مَرْدُودًا إِذَا كَانَ عَلَى خِلافِ الشَّرِيعَةِ وَأَنَّ الْمُحْدَثَ الْمُوَافِقَ لِلشَّرِيعَةِ لَيْسَ مَرْدُودًا.
وَهُوَ مَفْهُومٌ أَيْضًا مِمَّا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِى صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ».
وَفِى صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ فِى كِتَابِ صَلاةِ التَّرَاوِيحِ مَا نَصُّهُ قَالَ ابْنُ شَهَابٍ «فَتُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ عَلَى ذَلِكَ» قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ «أَىْ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فِى التَّرَاوِيحِ» ثُمَّ قَالَ ابْنُ شَهَابٍ فِى تِتِمَّةِ كَلامِهِ «ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِى خِلافَةِ أَبِى بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ».
وَفِيهِ أَيْضًا تَتْمِيمًا لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ بنِ عبدِ الْقَارِىِّ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلَةً فِى رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّى الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَيُصَلِّى الرَّجُلُ فَيُصَلِّى بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ إِنِّى أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبِىِّ بنِ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ قَارِئِهِمْ قَالَ عُمَرُ «نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ» اهـ. وَفِى الْمُوَطَّإِ بِلَفْظِ «نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ».
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ «قَوْلُهُ قَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ فِى بَعْضِ الرِّوَايَاتِ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ بِزِيَادَةِ التَّاءِ وَالْبِدْعَةُ أَصْلُهَا مَا أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ وَتُطْلَقُ فِى الشَّرْعِ فِى مُقَابِلِ السُّنَّةِ فَتَكُونُ مَذْمُومَةً وَالتَّحْقِيقُ إِنْ كَانَتْ مِمَّا تَنْدَرِجُ تَحْتَ مُسْتَحْسَنٍ فِى الشَّرْعِ فَهِىَ حَسَنَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تَنْدَرِجُ تَحْتَ مُسْتَقْبَحٍ فِى الشَّرْعِ فَهِىَ مُسْتَقْبَحَةٌ وَإِلَّا فَهِىَ مِنْ قِسْمِ الْمُبَاحِ وَقَدْ تَنْقَسِمُ إِلَى الأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ» اهـ وَمُرَادُهُ بِالأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ الْفَرْضُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ وَالْمَكْرُوهُ وَالْحَرَامُ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِىُّ فِى صَحِيحِهِ عَنْ رِفَاعَةَ بنِ رَافِعٍ الزَّرْقِىِّ قَالَ كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّى وَرَاءَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ «مَنِ الْمُتَكَلِّم» قَالَ أَنَا قَالَ «رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ».
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِى الْفَتْحِ فِى شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ «وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إِحْدَاثِ ذِكْرٍ فِى الصَّلاةِ غَيْرِ مَأْثُورٍ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِلْمَأْثُورِ» اهـ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِى التَّشَهُّدِ «وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ» وَيَقُولُ «أَنَا زِدْتُهَا» اهـ.
وَقَالَ النَّوَوِىُّ فِى كِتَابِ تَهْذِيبِ الأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ مَا نَصُّهُ «الْبِدْعَةُ بِكَسْرِ الْبَاءِ فِى الشَّرْعِ هِىَ إِحْدَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَءَالِهِ وَسَلَّمَ وَهِىَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى حَسَنَةٍ وَقَبِيحَةٍ. قَالَ الإِمَامُ الشَّيْخُ الْمُجْمَعُ عَلَى إِمَامَتِهِ وَجَلالَتِهِ وَتَمَكُّنِهِ فِى أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَبَرَاعَتِهِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بنُ عَبْدِ السَّلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِىَ عَنْهُ فِى ءَاخِرِ كِتَابِ الْقَوَاعِدِ الْبِدْعَةُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى وَاجِبَةٍ وَمُحَرَّمَةٍ وَمَنْدُوبَةٍ وَمَكْرُوهَةٍ وَمُبَاحَةٍ، قَالَ وَالطَّرِيقُ فِى ذَلِكَ أَنْ تُعْرَضَ الْبِدْعَةُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ فَإِنْ دَخَلَتْ فِى قَوَاعِدِ الإِيجَابِ فَهِىَ وَاجِبَةٌ [قَاعِدَةٌ مَا لا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ] أَوْ فِى قَوَاعِدِ التَّحْرِيمِ فَمُحَرَّمَةٌ أَوِ النَّدْبِ فَمَنْدُوبَةٌ أَوِ الْمَكْرُوهِ فَمَكْرُوهَةٌ أَوِ الْمُبَاحِ فَمُبَاحَةٌ» انْتَهَى كَلامُ النَّوَوِىِّ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِى رَدِّ الْمُحْتَارِ مَا نَصُّهُ «فَقَدْ تَكُونُ الْبِدْعَةُ وَاجِبَةً كَنَصْبِ الأَدِلَّةِ لِلرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ وَتَعَلُّمِ النَّحْوِ الْمُفْهِمِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَنْدُوبَةً كَإِحْدَاثِ نَحْوِ رِبَاطٍ [وَهُوَ الَّذِى يُبْنَى لِلْفُقَرَاءِ] وَمَدْرَسَةٍ وَكُلِّ إِحْسَانٍ لَمْ يَكُنْ فِى الصَّدْرِ الأَوَّلِ وَمَكْرُوهَةً كَزَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَمُبَاحَةً كَالتَّوَسُّعِ بِلَذِيذِ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالثِّيَابِ» اهـ. وَكَذَلِكَ الأَكْلُ بِالْمَلاعِقِ فَإِنَّهُ فِى أَيَّامِ الصَّحَابَةِ مَا كَانُوا يَأْكُلُونَ بِهَا وَكَانُوا يَأْكُلُونَ عَلَى الأَرْضِ مَا كَانُوا يَأْكُلُونَ قَاعِدِينَ عَلَى الْكَرَاسِى وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ.
وَقَالَ النَّوَوِىُّ فِى رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ فِى دُعَاءِ الْقُنُوتِ مَا نَصُّهُ «هَذَا هُوَ الْمَرْوِىُّ عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ قَبْلَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ وَبَعْدَهُ فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا قَضَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ قُلْتُ قَالَ أَصْحَابُنَا لا بَأْسَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِىُّ وَءَاخَرُونَ مُسْتَحَبَّةٌ» انْتَهَى كَلامُ النَّوَوِىِّ.
وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِىُّ بِإِسْنَادِهِ فِى مَنَاقِبِ الشَّافِعِىِّ عَنِ الشَّافِعِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «الْمُحْدَثَاتُ مِنَ الأُمُورِ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ أَثَرًا أَوْ إِجْمَاعًا فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الضَّلالَةُ وَالثَّانِيَةُ مَا أُحْدِثَ مِنَ الْخَيْرِ لا خِلافَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذَا وَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ» اهـ.
مِنَ الْبِدَعِ الْمُسْتَحَبَّةِ
قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ﴿وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد] فَهَذِهِ الآيَةُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ لِأَنَّ مَعْنَاهَا مَدْحُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ أُمَّةِ عِيسَى الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالإِيـمَانِ وَالتَّوْحِيدِ فَاللَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ رَأْفَةٍ وَرَحْمَةٍ وَلِأَنَّهُمُ ابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً وَالرَّهْبَانِيَّةُ هِىَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الشَّهَوَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ انْقَطَعُوا عَنِ الزِّوَاجِ رَغْبَةً فِى تَجَرُّدِهِمْ لِلْعِبَادَةِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ أَىْ نَحْنُ مَا فَرَضْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِنَّمَا هُمْ أَرَادُوا التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ فَاللَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُمْ عَلَى مَا ابْتَدَعُوا مِمَّا لَمْ يَنُصَّ لَهُمْ عَلَيْهِ فِى الإِنْجِيلِ وَلا قَالَ لَهُمُ الْمَسِيحُ بِنَصٍّ مِنْهُ إِنَّمَا هُمْ أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّجَرُّدَ بِتَرْكِ الِانْشِغَالِ بِالزِّوَاجِ وَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالأَهْلِ فَكَانُوا يَبْنُونَ الصَّوَامِعَ أَىْ بُيُوتًا خَفِيفَةً مِنْ طِينٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْمَوَاضِعِ الْمُنْعَزِلَةِ عَنِ الْبَلَدِ لِيَتَجَرَّدُوا لِلْعِبَادَةِ.
وَمِنْهَا إِحْدَاثُ خُبَيْبِ بنِ عَدِىٍّ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَمَا قُدِّمَ لِلْقَتْلِ كَمَا رَوَى ذَلِكَ الْبُخَارِىُّ فِى صَحِيحِهِ قَالَ مَا نَصُّهُ «حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ عُمَرِو بنِ أَبِى سُفْيَانَ الثَّقَفِىِّ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً عَيْنًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بنَ ثَابِتٍ وَهُوَ جَدُّ عَاصِمِ ابْنِ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَىٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ فَتَبِعُوهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَامٍ فَاقْتَصُّوا ءَاثَارَهُمْ حَتَّى أَتَوْا مَنْزِلًا نَزَلُوهُ فَوَجَدُوا فِيهِ نَوَى تَمْرٍ تَزَوَّدُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ فَتَبِعُوا ءَاثَارَهُمْ حَتَّى لَحِقُوهُمْ فَلَمَّا انْتَهَى عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ [فَدْفَدٌ مَفَازَةٌ مَوْضِعٌ مُهْلِكٌ أَرْضٌ فَلاةٌ] وَجَاءَ الْقَوْمُ فَأَحَاطُوا بِهِمْ فَقَالُوا لَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ إِنْ نَزَلْتُمْ إِلَيْنَا أَنْ لا نَقْتُلَ مِنْكُمْ رَجُلًا فَقَالَ عَاصِمٌ أَمَّا أَنَا فَلا أَنْزِلُ فِى ذِمَّةِ كَافِرٍ اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوا عَاصِمًا فِى سَبْعَةِ نَفَرٍ بِالنَّبْلِ وَبَقِىَ خُبَيْبٌ وَزَيْدٌ وَرَجُلٌ ءَاخَرُ فَأَعْطَوْهُمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ فَلَمَّا أَعْطَوْهُمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ نَزَلُوا إِلَيْهِمْ فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ حَلُّوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَرَبَطُوهُمْ بِهَا فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ الَّذِى مَعَهُمَا هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَجَرُّروهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَتَلُوهُ وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَزَيْدٍ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ فَاشْتَرَى خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بنِ عَامِرِ بنِ نَوْفَلٍ وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ فَمَكَثَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا حَتَّى إِذَا أَجْمَعُوا قَتْلَهُ اسْتَعَارَ مُوسَى مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْحَارِثِ لِيَسْتَحِدَّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ قَالَتْ فَغَفَلْتُ عَنْ صَبِىٍّ لِى فَدَرَجَ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَاهُ فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ فَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَ ذَاكَ مِنِّى وَفِى يَدِهِ الْمُوسَى فَقَالَ أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَانَتْ تَقُولُ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ ثَمَرَةٌ وَإِنَّهُ لَمُوَثَّقٌ فِى الْحَدِيدِ وَمَا كَانَ إِلَّا رِزْقًا رَزَقَهُ اللَّهُ، فَخَرَجُوا بِهِ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فَقَالَ دَعُونِى أُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَوْلا أَنْ تَرَوْا أَنَّ مَا بِى جَزَعٌ مِنَ الْمَوْتِ لَزِدْتُ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ هُوَ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ احْصِهِمْ عَدَدًا ثُمَّ قَالَ فَلَسْتُ أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا عَلَى أَىِّ شَقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِى
وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ عُقْبَةُ بنُ الْحَارِثِ فَقَتَلَهُ وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ إِلَى عَاصِمٍ لِيُؤْتَوْا بِشَىْءٍ مِنْ جَسَدِهِ يَعْرِفُونَهُ وَكَانَ عَاصِمٌ قَتَلَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَىْءٍ» اهـ.
وَمِنْهَا نَقْطُ الْمَصَاحِفِ وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ كَتَبُوا الْوَحْىَ الَّذِى أَمْلاهُ عَلَيْهِمُ الرَّسُولُ يَكْتُبُونَ الْبَاءَ وَالتَّاءَ وَنَحْوَهُمَا بِلا نَقْطٍ وَكَذَا عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ لَمَّا كَتَبَ سِتَّةَ مَصَاحِفَ وَأَرْسَلَ بِبَعْضِهَا إِلَى الآفَاقِ إِلَى الْبَصْرَةِ وَمَكَّةَ وَغَيْرِهِمَا وَاسْتَبْقَى عِنْدَهُ نُسْخَةً كَانَ غَيْرَ مَنْقُوطٍ وَإِنَّمَا أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمَصَاحِفَ رَجُلٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَالتَّقْوَى يُقَالُ لَهُ يَحْيَى بنُ يَعْمَرَ. رَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُدَ السَّجَسْتَانِىُّ فِى كِتَابِهِ الْمَصَاحِف قَالَ «حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِىُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ نَصْرِ بنِ مَالِكٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بنُ الْوَلِيدِ عَنْ هَارُونَ ابْنِ مُوسَى قَالَ «أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمَصَاحِفَ يَحْيَى بنُ يَعْمَرَ» اهـ. وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُكْتَبُ بِلا نَقْطٍ فَلَمَّا فَعَلَ هَذَا لَمْ يُنْكِرِ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ مَا أَمَرَ بِنَقْطِ الْمُصْحَفِ.
وَهَذِهِ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا عُثْمَانُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَفِى صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ مَا نَصُّهُ «حَدَّثَنَا ءَادَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيدٍ قَالَ «كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ» [وَالزَّوْرَاءُ مَكَانٌ بِالْمَدِينَةِ].
قَالَ الْحَافِظُ فِى الْفَتْحِ مَا نَصُّهُ «وَلَهُ فِى رِوَايَةِ وَكِيعٍ عَنِ ابْنِ أَبِى ذِئْبٍ كَانَ الأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ أَذَانَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ قَوْلُهُ «أَذَانَيْنِ» يُرِيدُ الأَذَانَ وَالإِقَامَةَ، يَعْنِى تَغْلِيبًا أَوْ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِى الإِعْلامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِى أَبْوَابِ الأَذَانِ» اهـ.
ثُمَّ يَقُولُ قَوْلُهُ «زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ» فِى رِوَايَةِ وَكِيعٍ عَنِ ابْنِ أَبِى ذِئْبٍ فَأَمَرَ عُثْمَانُ بِالأَذَانِ الأَوَّلِ، وَنَحْوُهُ لِلشَّافِعِىِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَزِيدًا يُسَمَّى ثَالِثًا وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ جُعِلَ مُقَدَّمًا عَلَى الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ يُسَمَّى أَوَّلًا، وَلَفْظُ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ الآتِيَةِ بَعْدَ بَابَيْنِ «أَنَّ التَّأْذِينَ بِالثَّانِى أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ» وَتَسْمِيَتُهُ ثَانِيًا أَيْضًا مُتَوَجِّهٌ بِالنَّظَرِ إِلَى الأَذَانِ الْحَقِيقِىِّ لا الإِقَامَةِ اهـ.
وَسَيَأْتِى الْكَلامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِى فَصْلٍ خَاصٍّ.
وَمِنْهَا الْجَهْرُ بِالصَّلاةِ عَلَى النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الأَذَانِ وَحَدَثَ هَذَا بَعْدَ سَنَةِ سَبْعِمِائَةٍ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ لا يَجْهَرُونَ بِهَا.
وَمِنْهَا كِتَابَةُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ كِتَابَةِ اسْمِهِ وَلَمْ يَكْتُبِ النَّبِىُّ ذَلِكَ فِى رَسَائِلِهِ الَّتِى أَرْسَلَ بِهَا إِلَى الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ يَكْتُبُ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى فُلانٍ.
وَمِنْهَا الطُّرُقُ الَّتِى أَحْدَثَهَا بَعْضُ أَهْلِ اللَّهِ كَالرِّفَاعِيَّةِ وَالْقَادِرِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا وَهِىَ نَحْوُ أَرْبَعِينَ طَرِيقَةً فَهَذِهِ الطُّرُقُ أَصْلُهَا بِدَعٌ حَسَنَةٌ وَلَكِنْ شَذَّ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهَا وَهَذَا لا يَقْدَحُ فِى أَصْلِهَا.
بِدْعَةُ الضَّلالَةِ
وَهِىَ عَلَى نَوْعَيْنِ بِدْعَةٌ تَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الدِّينِ وَبِدْعَةٌ تَتَعَلَّقُ بِفُرُوعِهِ.
فَأَمَّا الْبِدْعَةُ الَّتِى تَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الدِّينِ فَهِىَ الَّتِى حَدَثَتْ فِى الْعَقَائِدِ وَهِىَ مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِى الْمُعْتَقَدِ وَأَمْثِلَتُهَا كَثِيرَةٌ مِنْهَا
وَأَمَّا الْبِدْعَةُ الَّتِى تَتَعَلَّقُ بِالْفُرُوعِ فَهِىَ الْمُنْقَسِمَةُ التَّقْسِيمَ الْمَذْكُورَ ءَانِفًا.
وَمِنَ الْبِدَعِ السَّيِّئَةِ الْعَمَلِيَّةِ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْعِرْبَاضِ بنِ سَارِيَةَ «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ» فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَفْظُهُ عَامٌّ وَمَعْنَاهُ مَخْصُوصٌ بِدَلِيلِ الأَحَادِيثِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا فَيُقَالُ إِنَّ مُرَادَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أُحْدِثَ عَلَى خِلافِ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الإِجْمَاعِ أَوِ الأَثَرِ.
قَالَ النَّوَوِىُّ فِى شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا نَصُّهُ «قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَالْمُرَادُ بِهِ غَالِبُ الْبِدَعِ» اهـ. ثُمَّ قَسَّمَ الْبِدْعَةَ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ وَاجِبَةٍ وَمَنْدُوبَةٍ وَمُحَرَّمَةٍ وَمَكْرُوهَةٍ وَمُبَاحَةٍ وَقَالَ «فَإِذَا عُرِفَ مَا ذَكَرْتُهُ عُلِمَ أَنَّ الْحَدِيثَ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ وَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ مِنَ الأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ قَوْلُ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى التَّرَاوِيحِ «نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ» وَلا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِ الْحَدِيثِ عَامًّا مَخْصُوصًا قَوْلُهُ «كُلَّ بِدْعَةٍ» مُؤَكَّدًا بِكُلِّ بَلْ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ مَعَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ﴾ [سُورَةَ الأَحْقَاف/25]» اهـ.
وَهَذَا التَّقْسِيمُ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بنُ عَبْدِ السَّلامِ فِى ءَاخِرِ كِتَابِ الْقَوَاعِدِ مَعَ شَىْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ فِى الْفَتْحِ وَسَلَّمَهُ.
فَصْلٌ فِى الِاحْتِفَالِ بِالْمَوْلِدِ الشَّرِيفِ وَذِكْرِ أَدِلَّةِ جَوَازِهِ
مِنَ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ الِاحْتِفَالُ بِمَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا الْعَمَلُ لَمْ يَكُنْ فِى عَهْدِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا فِيمَا يَلِيهِ إِنَّمَا أُحْدِثَ فِى أَوَائِلِ الْقَرْنِ السَّابِعِ لِلْهِجْرَةِ وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ مَلِكُ إِرْبِلَ وَكَانَ عَالِمًا تَقِيًّا شُجَاعًا يُقَالُ لَهُ الْمُظَفَّرُ. جَمَعَ لِهَذَا كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ الصَّادِقِينَ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْعُلَمَاءُ فِى مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مِنْهُمُ الْحَافِظُ أَحْمَدُ بنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِىُّ وَتِلْمِيذُهُ الْحَافِظُ السَّخَاوِىُّ وَكَذَلِكَ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ السَّخَاوِىُّ فِى فَتَاوِيهِ أَنَّ عَمَلَ الْمَوْلِدِ حَدَثَ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ ثُمَّ لا زَالَ أَهْلُ الإِسْلامِ مِنْ سَائِرِ الأَقْطَارِ فِى الْمُدُنِ الْكِبَارِ يَعْمَلُونَ الْمَوْلِدَ وَيَتَصَدَّقُونَ فِى لَيَالِيهِ بِأَنْوَاعِ الصَّدَقَاتِ وَيَعْتَنُونَ بِقِرَاءَةِ مَوْلِدِهِ الْكَرِيمِ وَيَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَرَكَاتِهِ كُلُّ فَضْلٍ عَمِيمٍ.
وَلِلْحَافِظِ السُّيُوطِىِّ رِسَالَةٌ سَمَّاهَا حُسْنَ الْمَقْصِدِ فِى عَمَلِ الْمَوْلِدِ قَالَ «فَقَدْ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ عَمَلِ الْمَوْلِدِ النَّبَوِىِّ فِى شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ مَا حُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ وَهَلْ هُوَ مَحْمُودٌ أَوْ مَذْمُومٌ وَهَلْ يُثَابُ فَاعِلُهُ أَوْ لا وَالْجَوَابُ عِنْدِى أَنَّ أَصْلَ عَمَلِ الْمَوْلِدِ الَّذِى هُوَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ وَقِرَاءَةُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ وَرِوَايَةُ الأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِى مَبْدَإِ أَمْرِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا وَقَعَ فِى مَوْلِدِهِ مِنَ الآيَاتِ ثُمَّ يُمَدُّ لَهُمْ سِمَاطٌ [وَهُوَ شَىْءٌ يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ] يَأْكُلُونَهُ وَيَنْصَرِفُونَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ هُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ الَّتِى يُثَابُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ قَدْرِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ وَالِاسْتِبْشَارِ بِمَوْلِدِهِ الشَّرِيفِ. وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ فِعْلَ ذَلِكَ صَاحِبُ إِرْبِل الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ أَبُو سَعِيدٍ كَوْكَبْرِى بنُ زَيْنِ الدِّينِ عَلِىُّ بنُ بَكْتَكِين أَحَدُ الْمُلُوكِ الأَمْجَادِ وَالْكُبَرَاءِ الأَجْوَادِ وَكَانَ لَهُ ءَاثَارٌ حَسَنَةٌ وَهُوَ الَّذِى عَمَّرَ الْجَامِعَ الْمُظَفَّرِىَّ بِسَفْحِ قَاسْيُون» اهـ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِى تَارِيخِهِ «كَانَ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ الشَّرِيفَ يَعْنِى الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ فِى رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَيَحْتَفِلُ بِهِ احْتِفَالًا هَائِلًا وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا بَطَلًا عَاقِلًا عَالِمًا عَادِلًا رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ. قَالَ وَقَدْ صَنَّفَ لَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْخَطَّابِ ابْنُ دِحْيَةَ مُجَلَّدًا فِى الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ سَمَّاهُ التَّنْوِيرَ فِى مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ فَأَجَازَهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَقَدْ طَالَتْ مُدَّتُهُ فِى الْمُلْكِ إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْفِرَنْجِ بِمَدِينَةِ عَكَّا سَنَةَ ثَلاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ مَحْمُودَ السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ» اهـ.
وَيَذْكُرُ سِبْطُ ابْنِ الْجَوْزِىِّ فِى مِرْءَاةِ الزَّمَانِ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ عِنْدَهُ فِى الْمَوْلِدِ أَعْيَانُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ خَلِّكَان فِى تَرْجَمَةِ الْحَافِظِ ابْنِ دِحْيَةَ «كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ وَمَشَاهِيرِ الْفُضَلاءِ قَدِمَ مِنَ الْمَغْرِبِ فَدَخَلَ الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَاجْتَازَ بِإِرْبِلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّمِائَةٍ فَوَجَدَ مَلِكَهَا الْمُعَظَّمَ مُظَفَّرَ الدِّينِ بنَ زَيْنِ الدِّينِ يَعْتَنِى بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِىِّ فَعَمِلَ لَهُ كِتَابَ التَّنْوِيرِ فِى مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَقَرَأَهُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَأَجَازَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ» اهـ.
قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ «وَقَدِ اسْتَخَرَجَ لَهُ أَىِ الْمَوْلِدِ إِمَامُ الْحُفَّاظِ أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بنُ حَجَرٍ أَصْلًا مِنَ السُّنَّةِ وَاسْتَخْرَجْتُ لَهُ أَنَا أَصْلًا ثَانِيًا… » اهـ.
فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاحْتِفَالَ بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِىِّ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ فَلا وَجْهَ لإِنْكَارِهِ بَلْ هُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُسَمَّى سُنَّةً حَسَنَةً لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا شَمِلَهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ» وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ وَارِدًا فِى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ أَنَّ جَمَاعَةً أَدْقَعَ بِهِمُ الْفَقْرُ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَهُمْ يَلْبَسُونَ النِّمَارَ مُجْتَبِيهَا أَىْ خَارِقِى وَسَطِهَا [وَالنِّمَارُ ثَوْبٌ مُخَطَّطٌ مِنْ شِدَّةِ الْفَقْرِ خَرَقُوا وَسَطَهَا لِيَسْتُرُوا بِهَا عَوْرَاتِهِمْ] فَأَمَرَ الرَّسُولُ بِالصَّدَقَةِ فَاجْتَمَعَ لَهُمْ شَىْءٌ كَثِيرٌ فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ لِذَلِكَ فَقَالَ «مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ … » الْحَدِيثَ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ مُكَابِرٌ.