الخميس نوفمبر 21, 2024

فَصْلٌ فِى الِاحْتِفَالِ بِالْمَوْلِدِ الشَّرِيفِ وَذِكْرِ أَدِلَّةِ جَوَازِهِ

   مِنَ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ الِاحْتِفَالُ بِمَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا الْعَمَلُ لَمْ يَكُنْ فِى عَهْدِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا فِيمَا يَلِيهِ إِنَّمَا أُحْدِثَ فِى أَوَائِلِ الْقَرْنِ السَّابِعِ لِلْهِجْرَةِ وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ مَلِكُ إِرْبِلَ وَكَانَ عَالِمًا تَقِيًّا شُجَاعًا يُقَالُ لَهُ الْمُظَفَّرُ. جَمَعَ لِهَذَا كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ الصَّادِقِينَ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْعُلَمَاءُ فِى مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مِنْهُمُ الْحَافِظُ أَحْمَدُ بنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِىُّ وَتِلْمِيذُهُ الْحَافِظُ السَّخَاوِىُّ وَكَذَلِكَ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ وَغَيْرُهُمْ.

   وَذَكَرَ الْحَافِظُ السَّخَاوِىُّ فِى فَتَاوِيهِ أَنَّ عَمَلَ الْمَوْلِدِ حَدَثَ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ ثُمَّ لا زَالَ أَهْلُ الإِسْلامِ مِنْ سَائِرِ الأَقْطَارِ فِى الْمُدُنِ الْكِبَارِ يَعْمَلُونَ الْمَوْلِدَ وَيَتَصَدَّقُونَ فِى لَيَالِيهِ بِأَنْوَاعِ الصَّدَقَاتِ وَيَعْتَنُونَ بِقِرَاءَةِ مَوْلِدِهِ الْكَرِيمِ وَيَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَرَكَاتِهِ كُلُّ فَضْلٍ عَمِيمٍ.

   وَلِلْحَافِظِ السُّيُوطِىِّ رِسَالَةٌ سَمَّاهَا حُسْنَ الْمَقْصِدِ فِى عَمَلِ الْمَوْلِدِ قَالَ «فَقَدْ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ عَمَلِ الْمَوْلِدِ النَّبَوِىِّ فِى شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ مَا حُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ وَهَلْ هُوَ مَحْمُودٌ أَوْ مَذْمُومٌ وَهَلْ يُثَابُ فَاعِلُهُ أَوْ لا وَالْجَوَابُ عِنْدِى أَنَّ أَصْلَ عَمَلِ الْمَوْلِدِ الَّذِى هُوَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ وَقِرَاءَةُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ وَرِوَايَةُ الأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِى مَبْدَإِ أَمْرِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا وَقَعَ فِى مَوْلِدِهِ مِنَ الآيَاتِ ثُمَّ يُمَدُّ لَهُمْ سِمَاطٌ [وَهُوَ شَىْءٌ يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ] يَأْكُلُونَهُ وَيَنْصَرِفُونَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ هُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ الَّتِى يُثَابُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ قَدْرِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ وَالِاسْتِبْشَارِ بِمَوْلِدِهِ الشَّرِيفِ. وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ فِعْلَ ذَلِكَ صَاحِبُ إِرْبِل الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ أَبُو سَعِيدٍ كَوْكَبْرِى بنُ زَيْنِ الدِّينِ عَلِىُّ بنُ بَكْتَكِين أَحَدُ الْمُلُوكِ الأَمْجَادِ وَالْكُبَرَاءِ الأَجْوَادِ وَكَانَ لَهُ ءَاثَارٌ حَسَنَةٌ وَهُوَ الَّذِى عَمَّرَ الْجَامِعَ الْمُظَفَّرِىَّ بِسَفْحِ قَاسْيُون» اهـ.

   قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِى تَارِيخِهِ «كَانَ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ الشَّرِيفَ يَعْنِى الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ فِى رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَيَحْتَفِلُ بِهِ احْتِفَالًا هَائِلًا وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا بَطَلًا عَاقِلًا عَالِمًا عَادِلًا رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ. قَالَ وَقَدْ صَنَّفَ لَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْخَطَّابِ ابْنُ دِحْيَةَ مُجَلَّدًا فِى الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ سَمَّاهُ التَّنْوِيرَ فِى مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ فَأَجَازَهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَقَدْ طَالَتْ مُدَّتُهُ فِى الْمُلْكِ إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْفِرَنْجِ بِمَدِينَةِ عَكَّا سَنَةَ ثَلاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ مَحْمُودَ السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ» اهـ.

وَيَذْكُرُ سِبْطُ ابْنِ الْجَوْزِىِّ فِى مِرْءَاةِ الزَّمَانِ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ عِنْدَهُ فِى الْمَوْلِدِ أَعْيَانُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ.

   وَقَالَ ابْنُ خَلِّكَان فِى تَرْجَمَةِ الْحَافِظِ ابْنِ دِحْيَةَ «كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ وَمَشَاهِيرِ الْفُضَلاءِ قَدِمَ مِنَ الْمَغْرِبِ فَدَخَلَ الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَاجْتَازَ بِإِرْبِلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّمِائَةٍ فَوَجَدَ مَلِكَهَا الْمُعَظَّمَ مُظَفَّرَ الدِّينِ بنَ زَيْنِ الدِّينِ يَعْتَنِى بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِىِّ فَعَمِلَ لَهُ كِتَابَ التَّنْوِيرِ فِى مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَقَرَأَهُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَأَجَازَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ» اهـ.

   قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ «وَقَدِ اسْتَخَرَجَ لَهُ أَىِ الْمَوْلِدِ إِمَامُ الْحُفَّاظِ أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بنُ حَجَرٍ أَصْلًا مِنَ السُّنَّةِ وَاسْتَخْرَجْتُ لَهُ أَنَا أَصْلًا ثَانِيًا… » اهـ.

   فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاحْتِفَالَ بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِىِّ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ فَلا وَجْهَ لإِنْكَارِهِ بَلْ هُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُسَمَّى سُنَّةً حَسَنَةً لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا شَمِلَهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ» وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ وَارِدًا فِى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ أَنَّ جَمَاعَةً أَدْقَعَ بِهِمُ الْفَقْرُ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَهُمْ يَلْبَسُونَ النِّمَارَ مُجْتَبِيهَا أَىْ خَارِقِى وَسَطِهَا [وَالنِّمَارُ ثَوْبٌ مُخَطَّطٌ مِنْ شِدَّةِ الْفَقْرِ خَرَقُوا وَسَطَهَا لِيَسْتُرُوا بِهَا عَوْرَاتِهِمْ] فَأَمَرَ الرَّسُولُ بِالصَّدَقَةِ فَاجْتَمَعَ لَهُمْ شَىْءٌ كَثِيرٌ فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ لِذَلِكَ فَقَالَ «مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ … » الْحَدِيثَ.

   وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ مُكَابِرٌ.