الجمعة أكتوبر 18, 2024

فَصلٌ فِي بَيانِ حَقِّيّةِ تأويلِ الآياتِ المُتشابِهاتِ

أجمَعَتِ الأُمّةُ على أنّ في القرءانِ ءاياتٍ محكَماتٍ وءاياتٍ مُتشابهاتٍ، وهو ما يَدُلُّ عليه

صريحُ قولِه تعالى: ﱡﭐﲇﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ  ﲒ ﲓ [ءال عِمران: 7]، فالمحكَمات هي الّتي دِلالتها على المراد واضحة، والمتشابهةُ هي التي دِلالتها على المراد غيرُ واضحة، وقد ذمّ الله تعالى الذين يتّبعون ما تَشابَه منه ابتغاء الفتنة أي الزّيغ أي ابتغاء الإيقاع في الأمر المحظور وهو التشبيه، والذين في قلوبهم زيغ هم أهل الأهواء كالمعتزلة والوهّابية المجسّمةِ وأمثالهم.

وقد سمّى الله تعالى المحكمات أمَّ الكتاب أي أمَّ القرءان لأنّها الأصل الذي يُردُّ إليه المتشابهات، مثل قوله تعالى: ﱡﭐ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ [مريم: 65] أي مِثلًا أي ليس له مثيلٌ ولا شبيه.

ثمّ المتشابِه قسمان: أحدهما ما لا يَعلَمُه إلا الله كوَجْبة القيامة، والثاني يَعلَمُه الرّاسخون في العِلم كمعنى الاستواء المذكور في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ [الأعراف: 54] فإنّ الراسخِين فسّروه بالقَهر.

وقال علماء أهلِ السُّنّةِ إنّ كلّ ما ورد في القرءان الكريم أو في الحديث الشريف مما ظاهره يوهم التشبيه لله تعالى بخلقه فهو قطعًا ليس على الظاهر وإنّما له معنًى يليق بالله سبحانه وتعالى ثم سلكوا في ذلك مسلكين فغلب على السلف منهم تأويل هذه الآيات والأحاديث تأويلًا إجماليًّا بالإيمان بها واعتقاد أنّ لها معانيَ تليق بجلال الله وعظمته ليست من صفات المخلوقين بلا تعيين كآية: ﱡﭐﱿ ﲀ ﲁ ﲂ وحديث النّزول الذي فيه: «يَنْزِل ربُّنا تباركَ وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السّماءِ الدُّنيا حِينَ يَبقَى ثُلُثُ اللّيلِ الآخرُ فيقولُ: مَن يَدْعُونِي فأستَجِيبَ له، ومَن يَسألُنِي فأُعطِيَه، ومَن يَستغفِرُني فأغفِرَ له» بأنْ يقولوا بلا كيفٍ أو على ما يَلِيقُ بالله أي مِن غير أن يكون بهيئةٍ، مِن غيرِ أن يكون كالجلوسِ والاستقرارِ والجوارح والطُّول والعَرض والعُمق والمِساحة والحركة والسكون والانفعال ممّا هو صفة حادثة وهو كما قال الإمام الشّافعي رضي الله عنه: «ءامنتُ بما جاء عن الله على مُرادِ الله وبما جاءَ عن رسول الله على مُرادِ رسول الله» يعني رضي الله عنه لا على ما تذهب إليه الأوهام والظنون من المعاني الحسيّة الجسميّة التي لا تجوز في حقّ الله تعالى.

وأما الخَلَف فغلَب عليهم التأويل التفصيلي وذلك بتعيين معانٍ لهذه الآيات والأحاديث المتشابهة مما تقتضيه لغة العرب ويليق بجلال الله سبحانه وتعالى فقالوا في تفسير قوله تعالى: ﱡﭐ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ قهر العرش ومعنى قهر الله للعرش الذي هو أعظم المخلوقات أنّ العرش تحت تصرّف الله، هو خلَقَه وهو يحفظه، يحفظ عليه وجوده، ولولا حفظ الله تعالى له لَهَوى إلى الأسفل فتحطّم، فالله تعالى هو أوجده ثم هو حفظه وأبقاه. وفائدة تخصيص العرش بالذّكر أنّه أعظم مخلوقات الله تعالى حجمًا فيُعلم شمول ما دونه من باب الأولى. قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إنّ اللهَ خلَقَ العَرشَ إظهارًا لِقُدْرَتِه ولم يَتَّخِذْهُ مَكانًا لِذَاتِه».

وليعلم أنّه يجب الحذر من هؤلاء الذين يجيزون على الله القعود على العرش والاستقرار عليه مفسّرين لقوله تعالى: ﱡﭐ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ الجلوس أو المحاذاة من فوق وهؤلاء هم الوهّابية وقبلهم أناسٌ كانوا يعتقدون ذلك ففسّروا الآية بالجلوس مدّعين أنّه لا يعقل موجود إلا في مكان وحجتهم داحضة لأنه ليس من شرط الوجود التحيّز في المكان، أليس الله كان موجودًا قبل المكان والزمان وكلِّ ما سواه بشهادة حديث «كان الله ولم يكن شىء غيره»؟!  فالمكان غيرُ الله والجهات والحجم غيرُ الله فإذا صحَّ وجوده تعالى شرعًا وعقلًا قبل المكان والجهات بلا مكان ولا جهة فكيف يستحيل على زعم هؤلاء وجوده تعالى بلا مكان بعد خلق المكان والجهات؟!

ومصيبة هؤلاء أنّهم قاسوا الخالق على المخلوق، قالوا: كما لا يُعقَل وجود إنسان أو مَلَك أو غيرِ ذلك من الأجسام بلا مكان يستحيل وجود الله بلا مكان، فهلكوا.

ومِن سِخافة عقولهم أنهم قالوا: إنّ جهة فوق تليق بالله وجهة تحت نقص على الله فلذلك لا نؤول الآيات والأحاديث التي تدلّ ظواهرها على أنّه في جهة فوق بل نؤول الآيات والأحاديث التي تدلّ ظواهرها على أنّه في جهة تحت، فالجواب: أنّ جهة فوق مَسكَن الملائكة، وكذلك مدار النّجوم والشمس والقمر جهة فوق وليس هؤلاء أفضل من الأنبياء الذين منشؤهم في جهة تحت وحياتهم في جهة تحت إلى أن يموتوا فيدفنوا فيها، والأنبياء أفضل من الملائكة لأنّ الله أمر الملائكة بالسجود لآدم تحيّةً فسجدوا له والمسجود له أفضل من السّاجد فبطل قولهم: إنّ جهة فوق كمال لله وجهة التحت نقص على الله، لأنّ الله لا يتشرّف بشىء من خلقه، فلا يتشرّف بالعرش، ولا بالسّماء ولا بالجهات، ومن زعم ذلك جعل الله محتاجًا لغيره والاحتياج مستحيل على الله بل التحيّز في جهة فوق أو غيرها نقص على الله لأنّه يلزم من التحيّز أن يكون له حدٌّ ومقدار والمقدار للمخلوق قال الله تعالى: ﱡﭐﱶ ﱷ ﱸ ﱹ  [الرَّعد: 8]، فالعرش له مقدار والذرّة لها مقدار وكذلك ما بينهما من الأحجام والأجسام المختلِفة.

ثمّ إنّ الملِك والسلطان قد يكونان يسكنان في بطن الوادي وحرّاسُهما يكونون في الأعالي، فهذا القياس الذي تعتبره الوهابية هو قياس فاسد لا يَلتفت إليه إلا من هو ضعيف العقل فاسد الفهم، فعقيدة الصوفية هي كما قال السيد أحمد الرفاعي الكبير قدَّس الله سرّه: «غايةُ المعرفة بالله الإيقانُ بوجوده تعالى بلا كيفٍ ولا مكان». وقال رضي الله عنه: «إيّاكم والتمسّكَ بظاهر ما تَشابَه من الكتاب والسنّة فإنّ ذلك مِن أصولِ الكُفر».

والفوقيّة بمعنى القهر دون المكانِ والجهة جاءَت في نحو قوله تعالى: ﱡﭐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ  [الأنعام: 18].

وأما حديث النّزول السّابق الذكر فأحسن ما يقال في ذلك هو نزول المَلَكِ بأمر الله فينادي مبلّغًا عن الله تلك الكلمات: «مَن ذا الّذي يَدعُوني فأستجِيبَ له، مَن ذا الذي يستغفرني فأغفر له مَن ذا الذي يسألني فأُعطِيَه» فيمكثُ المَلَكُ في السّماء الدّنيا من الثُّلُثِ الأخير مِن اللَّيل إلى الفجر.

 وقال أهلُ السُّنَة في تأويل قوله تعالى: ﱡﭐ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ [فاطر: 10] إنّ الكلِم الطيّب كلا إله إلا الله والعملَ الصالح كلّ ذلك يَصَعد إلى محلّ كرامتِه وهو السّماء والمعنى أنّ الله تعالى يتقبّله، فالسّماء محلّ كرامة الله أي المكان الذي هو مشرّف عند الله لأنّها مسكن الملائكة وقِبلة دعاء الداعين كما أنّ الكعبة قِبلة المصَلّين.

وقالوا في تأويل قوله تعالى: ﱡﭐ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ  ﱮ [المُلك: 16] المراد بمن في السّماء الملائكة فإنّ الله يسلّطهم على الكفّار إذا أراد أن يُحِلَّ عليهم عقوبته في الدّنيا، ومثل ذلك حديث: «ارحَموا مَن في الأرض يَرحَمُكم مَن في السّماء» فإنَّ المراد به الملائكة كما ذكر الحافظ العراقي.

وقالوا في تفسير قوله عزّ وجل: ﱡﭐ ﱫ ﱬ ﱭ [البقرة: 19] وقوله سبحانه: ﱡﭐﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ [فُصِّلَت: 54] إنّ الله أحاط بكلِّ شىء علمًا، محيط علمًا بالكائنات التي تحدُث إلى ما لا نهاية له، حتى ما يحدث في الدّار الآخرة التي لا انقطاع لها، يعلم ذلك جملةً وتفصيلًا. وعلى معنى الإحاطة بالعلم فسّرت المعيّة الواردة في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ [الحديد: 4] أي عالِم بنا أينما كنّا.

وعلى معنى العلم أيضًا يُحمَل حديثُ: «أيّها النّاس إنّكم لا تَدعُون أصمَّ ولا غائبًا إنّما تَدعُون سميعًا قريبًا، والّذي تَدْعُونه أقرَبُ إلى أحدِكُم مِن عُنق راحلةِ أحَدِكم».

ومعنى قوله تعالى: ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ [القَصَص: 88] إلا مُلكَه أي إلا سُلطانه، فمُلكُ الله أزلي أبدِيّ لا يفنى وأمّا مُلك غيرِه فيَفنى، مُلك الملوك الكفار كنُمْرُوذَ وفرعون الذين أعطاهم الله تبارك وتعالى هذا الملك الذي هو غير أبدي يفنى ومُلك أحباب الله كسليمان وذي القرنين يفنى، أما مُلك الله فهو صفة من صفاته.

وقال بعضهم: ﱡﭐ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ إلا ما أريد به وجهه، أي الأعمال الصالحة تبقى. ويأتي الوجه بمعنى الذات كما في قوله تعالى: ﱡﭐ  ﱪ  ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ  [الرَّحمن: 27]، فالعالَم وما فيه يفنى والله باقٍ لا يفنى ولا يَبيد، كما يأتي بمعنى الطاعة كحديث: «أقربُ ما تكون المرأة إلى وجه الله إذا كانت في قَعر بيتها» أي أقرب ما تكون المرأة من طاعة الله إذا لزمت بيتها ولم تخرج منه لغير ضرورة.

أمّا قوله تعالى: ﱡﭐ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ [البقرة: 115] فمعناه فأينما توجِّهوا وجوهكم في صلاة النفل في السفر فثَمَّ قِبلة الله، أي فتلك الوِجهة التي توجهتم إليها هي قِبلة لكم.

وقالوا في تفسير قوله تعالى في سفينةِ نوح ﷺ: ﱡﭐ ﳔ ﳕ ﳖ  [هُود: 37] معناه الحفظُ والرعاية.

وقالوا في تفسير قوله تعالى: ﱡﭐ ﲿ ﳀ ﳁ  [الذّريات: 47] أي بقوّة، فاليدُ تأتي بمعنى القُدرة وهي القُوّة، وتأتي بمعنَى العهد كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱇ ﱈ ﱉ  ﱊ [الفَتح: 10] أي عَهد الله فوق عُهودهم أي ثبَت عليهم عهد الله لأنّ معاهدتَهم للرسول ﷺ تحت شجرة الرِّضوان في الحدَيبية على أن لا يفرّوا معاهدةٌ لله تبارك وتعالى، لأنّ الله تعالى هو الذي أمَر نبيَّه ﷺ بهذه المبايَعة.

وقالوا في قوله تعالى في حقّ سيّدنا ءادم عليه السّلام: ﱡﭐ ﲽ ﲾ ﲿ  ﳀ    [الحِجْر: 29] وفي حقّ سيّدنا عيسى ﷺ: ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ   [الأنبياء: 91] إنّ الله خالِق الرُّوح والجسَد فلَيس روحًا ولا جسَدًا ومع ذلك أضاف الله تعالى روح ءادم وعيسى عليهما السّلام إلى نفسه على معنى المِلك والتّشريف لا للجُزئية والتبعيض وذلك للدّلالة على شرَفهما عند الله تعالى، وعلى معنَى التشريف يحمل أيضًا قوله تعالى عن ناقة سيّدنا صالِح عليه السلام: ﱡﭐ ﲹ ﲺ ﲻ  [الأعراف: 73].

وأوَّلوا النُّور الواردَ في قوله تعالى: ﲙ ﲚ ﲛ  ﲜ  [النُّور: 35] بنور الهداية ومعناه أنّ الله تعالى هادِي أهلِ السماوات وهم الملائكةُ وهادِي المؤمنِين مِن أهل الأرض مِن إنسٍ وجنّ إلى نُورِ الإيمان، والذي في ءاخِر الآية: ﱡﭐﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ  يفسِّر ما في أوّلها، فالله تعالى ليس نورًا بمعنى الضَّوء بل هو الذي خلَق النّور قال تعالى: ﱡﭐ ﱇ ﱈ  ﱉ  [الأنعام: 1] أي خلَق الظلماتِ والنّورَ فكيف يمكن أن يكون نورًا كخَلْقه؟! تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا.