فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ
فِي بَيَانِ أَنَّ وَالِدَيِ الرَّسُولِ نَاجِيَانِ
قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «وَالِدَا الرَّسُولِ مَا مَاتَا كَافِرَيْنِ» لَكِنْ بَعْضُ النُّسَّاخِ حَرَّفُوا فَكَتَبُوا مَاتَا كَافِرَيْنِ وَهَذَا غَلَطٌ شَنِيعٌ. نَحْنُ لا نَقُولُ مَاتَا كَافِرَيْنِ إِذْ لا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَا أُلْهِمَا الإِيـمَانَ بِاللَّهِ فَعَاشَا مُؤْمِنَيْنِ لا يَعْبُدَانِ الْوَثَنَ. أَمَّا حَدِيثُ «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» فَهُوَ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ وَإِنْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
فِي مُسْلِمٍ أَحَادِيثُ انْتَقَدَهَا بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ «إِنَّ الرَّسُولَ مَكَثَ عِنْدَ قَبْرِ أُمِّهِ فَأَطَالَ وَبَكَى فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ أَطَلْتَ عِنْدَ قَبْرِ أُمِّكَ وَبَكَيْتَ فَقَالَ: «إِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي زِيَارَتِهَا فَأَذِنَ لِي وَطَلَبْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَمَنَعَنِي» فَهَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا فِي مُسْلِمٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ مُؤَوَّلٌ بِأَنْ يُقَالَ إِنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهَا حَتَّى لا يَلْتَبِسَ الأَمْرُ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ مَاتَ ءَابَاؤُهُمْ وَأُمَّهَاتُهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْوَثَنِ فَيَسْتَغْفِرُوا لِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ لا لِأَنَّ أُمَّ الرَّسُولِ كَانَتْ كَافِرَةً، وَهَكَذَا يُرَدُّ عَلَى الَّذِينَ أَخَذُوا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَقَالُوا إِنَّ وَالِدَةَ الرَّسُولِ مُشْرِكَةٌ لِذَلِكَ مَا أُذِنَ لَهُ بِأَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ مُؤْمِنَةً أَنَّهَا لَمَّا وَلَدَتْهُ أَضَاءَ نُورٌ حَتَّى أَبْصَرَتْ قُصُورَ الشَّامِ وَبَيْنَ مَكَّةَ وَالشَّامِ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ، رَأَتْ قُصُورَ بُصْرَى وَبُصْرَى هَذِهِ مِنْ مُدُنِ الشَّامِ الْقَدِيـمَةِ وَهِيَ تُعَدُّ مِنْ أَرْضِ حَوْرَانَ مِمَّا يَلِي الأُرْدُنَّ. فَأُمُّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَأَتْ بِهَذَا النُّورِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهَا لَمَّا وَلَدَتْهُ قُصُورَ بُصْرَى وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الأَمَالِيِّ وَحَسَّنَهُ، وَرُؤْيَةُ ءَامِنَةَ لِقُصُورِ بُصْرَى يُعَدُّ كَرَامَةً لَهَا لِأَنَّ هَذَا خَارِقٌ لِلْعَادَةِ.
وَمُسْلِمٌ لَمَّا أَلَّفَ كِتَابَهُ صَحِيحَ مُسْلِمٍ عَرَضَهُ عَلَى بَعْضِ الْحُفَّاظِ فَأَقَرُّوهُ كُلَّهُ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ، هُوَ قَالَ هَذَا فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ وَلَمْ يُسَمِّ تِلْكَ الأَرْبَعَةَ وَلَمْ يَذْكُرْهَا وَالْبُخَارِيُّ ضَعَّفَ حَدِيثَيْنِ مِنْ أَحَادِيثِ مُسْلِمٍ قَالَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ.
ثُمَّ عَلَى فَرْضِ أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا مُسْلِمَيْنِ فَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ وَأَهْلُ الْفَتْرَةِ الَّذِينَ مَا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ لا يُعَذَّبُونَ فِي الآخِرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [سُورَةَ الإِسْرَاء/15]، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ الأَشَاعِرَةُ وَغَيْرُهُمْ.