فَائِدَةٌ فِيْ بَيَاْنِ مَعْنَىْ
الْبِدْعَةِ: البدعةُ
لغةً ما أُحدثَ على غيرِ مثالٍ سابقٍ، يقالُ: جئتُ بأمرٍ بديعٍ أيْ محدَثٍ عجيبٍ
لم يُعْرَفْ قبلَ ذلكَ، وفي الشرعِ: المحدَثُ الذي لم ينصَّ عليهِ القرءانُ ولا
جاءَ في السنةِ، كمَا قالَ الحافظُ اللغويُّ محمدُ مرتضى الزبيديُّ([1]).
قالَ الفيوميُّ([2]):
أبدعَ اللهُ تعالى الخلقَ إبداعًا خلقَهم لا على مثالٍ، وأبدعتَ وأبدعتَه استخرجتَه
وأحدثتَه، ومنهُ قيلَ للحالةِ المخالفةِ بدعةٌ وهيَ اسمٌ مِنَ الابتداعِ كالرفعةِ
مِنَ الارتفاعِ، ثُمَّ غلبَ استعمالُها فيمَا هوَ نقصٌ في الدينِ أو زيادةٌ، لكنْ
قد يكونُ بعضُها غيرَ مكروهٍ فيسمَّى بدعةً مباحةً وهوَ ما شهدَ لجنسِه أصلٌ في
الشرعِ أوِ اقتَضَتْهُ مصلحةٌ يندفعُ بـها مفسدةٌ([3]).اهـ
وقالَ النوويُّ: البدعةُ بكسرِ الباءِ في الشرعِ هيَ: إحداثُ ما لم يكنْ في عهدِ
رسولِ اللهِ ﷺ،
وهيَ منقسمةٌ إلى حسنةٍ وقبيحةٍ، قالَ الإِمامُ الشيخُ المجمعُ على إمامتِه وجلالتِه
وتمكُّنِه في أنواعِ العلومِ وبراعَتِه أبو محمّدٍ عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ السلامِ([4])
رحمهُ اللهُ ورضيَ عنهُ في ءاخرِ كتابِ القواعدِ: البدعةُ منقسمةٌ إلى واجبةٍ
ومحرّمةٍ ومندوبةٍ ومكروهةٍ ومباحةٍ. قالَ: والطريقُ في ذلكَ أنْ تُعْرَضَ البدعةُ
على قواعدِ الشريعةِ، فإنْ دخلتْ في قواعدِ الإِيجابِ فهيَ واجبةٌ، أو في قواعدِ
التحريمِ فمحرَّمَةٌ، أوِ الندبِ فمندوبةٌ، أوِ المكروهِ فمكروهةٌ، أوِ المباحِ
فمباحةٌ ([5]).
انتهى كلامُ النوويِّ.
فالبدعةُ
تنقسمُ إلى قسمينِ: بدعةُ ضلالةٍ: وهيَ المحدثةُ المخالفةُ للقرءانِ والسنةِ. وبدعةُ
هدى: وهيَ المحدثةُ الموافقةُ للكتابِ والسنةِ. وهذا التقسيمُ مفهومٌ مما وردَ عنْ
عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالتْ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ:
((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَـذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ))([6]).
ووردَ بلفظٍ ءاخرَ وهوَ: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا
فَهُوَ رَدٌّ))([7]).
فأفْهَمَ النبيُّ ﷺ
بقولِه: ((مَاْ لَيْسَ مِنْهُ)) أَنَّ المحدَثَ إِنَّما يكونُ ردًّا أيْ
مردودًا إذا كانَ على خلافِ الشريعةِ وأَنَّ المحدَثَ الموافقَ للشريعةِ ليسَ مردودًا،
وقدْ جاءَ عنِ الشافعيِّ أنَّهُ قالَ: المحدثاتُ
منَ الأمورِ ضربانِ، أحدُهُمَا: مَا أُحْدِثَ يخالفُ كتابًا أوْ سنةً أوْ أثرًا أوْ
إجماعًا، فهذهِ البدعةُ الضلالةُ، والثانيةُ: مَا أُحْدِثَ مِنَ الخيرِ لَا خِلَافَ
فيهِ لواحدٍ مِنْ هذَا، وهذهِ محدثةٌ غيرُ مذمومةٍ([8]).اهـ
وهوَ مفهومٌ أيضًا مِنْ حديثِ جريرِ
بنِ عبدِ اللهِ البجليِّ قالَ: قالَ رسولُ
اللهِ ﷺ:
((مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا
وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ
شَىْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً
سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ))([9]).
فالبدعةُ الحسنةُ كتنقيطِ المصحفِ، وجمعِ الناسِ على قارىءٍ واحدٍ في صلاةِ
التراويحِ، والأذانِ الثاني يومَ الجمعةِ وكتابةِ علومِ النحوِ وتدوينِ الحديثِ
والسيرةِ والاحتفالِ بمولدِ النبيِّ ﷺ والصلاةِ على
النبيِّ ﷺ جهرًا بعدَ الأذانِ وغيرِ هذَا،
والبدعةُ القبيحةُ كبدعةِ المعتزلةِ والمجسمةِ والخوارجِ ممنْ خالفَ معتقدَ أهلِ
الحقِّ. قالَ النوويُّ: وللبدعِ المحرمةِ أمثلةٌ منهَا: مذاهبُ القدريةِ والجبريةِ
والمرجئةِ والمجسمةِ وأمَّا الردُّ على هؤلاءِ فمنَ البدعِ الواجبةِ([10]).اهـ
دُعَاءٌ:
اللَّهُمَّ يَا بَدِيْعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَنِّبْنَا البِدَعَ الفَاسِدَةَ
وَثَبِّتْنَا عَلَى السُّنَةِ.
([2]) أحمد بن محمد الفيومي ثم الحموي، اشتهر بكتابه المصباح المنير ولد
بالفيوم بمصر ورحل إلى حماة، ولما بنى الملك المؤيد إسماعيل جامع الدهشة قرره في
خطابته. قال ابن حجر: كأنه عاش إلى بعد 770 هـ .اهـ الأعلام ج 1 ص 224.
([4])
عزُّ الدين شيخ الإِسلام عبدُ العزيز بن عبد
السلام السُلميّ الدمشقي الشافعيّ. وُلد سنة 578هـ، وبَرَعَ في الفقه والأُصول
والعربية ودَرس وأَفتى، وصنّف، وبلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إِليه رئاسة المذهب مع
الزهد والورعِ والأَمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر والصلابة في الدين، توفي سنة 660هـ
.اهـ العبر في أخبار من غبر للذهبي ج3 ص279.