الرد المحكم المتين في فضح المنافقين والضالين
ننقل هذا الرد القويّ الوافر الكبير الذي كتبه فضيلة الشيخ الأديب أسامة السيد حفظه الله ورعاه في الرد على الدكتور السوري في كتابه الرد العلمي، ولكن هو في الحقيقة رد على كل هؤلاء الذين تقدمت أسماؤهم أمثال القرضاوي وعمرو خالد ومحمد راتب النابلسي ومن كان على منوالهم.
يقول الشيخ السيد في كتابه «الرد العلمي على الدكتور السوري» ما نصه[(66)]:
يقول الدكتور السوري في كتابه المسمى «الجهاد في الإسلام» ما نصه[(67)]: «إن علة الحكم بقتل المرتد هي الحرابة أيضا لا الكفر» اهـ، ويقول في المصدر نفسه[(68)]: «والجواب إن لتلبس المسلم بالردة حالتين اثنتين: أولاهما أن يمارس شبهاته التي هجمت عليه، أو قناعته الجديدة بينه وبين نفسه ويمسك عن إعلانها والإشارة بين الناس فهذا يظل مكلوءًَا في حرز حصين من مبدإ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ذلك لأن حالته هذه لا تنم عن أي معنى من معاني الحرابة يواجه بها المسلمين ومن ثم فشأنه كشأن الكافر الأصلي. والثانية أن يستعلن بردته عن الإسلام وينافح عن أفكاره المناقضة لما كان عليه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ويصر على ذلك إصراره، فشأن هذا الإنسان يختلف عن سابقه اختلافا كبيرا وعزم الحرابة في نفسه واضح إلى درجة القطع واليقين، وهل في أنواع الحرابة ما هو أشد وأخطر من الكيد للإسلام والمسلمين عن طريق بث عوامل الزيغ والسعي إلى تشكيك الناس بعقائدهم ومبادئهم الإسلامية» اهـ. وفي إحدى المراسلات التي جرت بيننا وبينه كتب البوطي بخط يده يقول: «راجعنا فلن نجد من قال إن شهادة اثنين بكفر فلان من الناس يقوم في القضاء مقام سماع موجب الكفر منه مباشرة، ومن ثم تكفي تلك الشهادة للحكم عليه بالردة وملاحقته بتنفيذ الحكم الذي تستوجبه الردة… نعم إن شهادة واحد أو اثنين أمام القضاء تستوجب التحري والتحقيق المباشر، فمن هم الذين قالوا إن للقاضي أن يحكم بردة فلان من الناس اعتمادًا على شهادة رجلين دون استدعائه والسماع منه».اهـ
الجواب والرد: نأمل منك يا دكتور ألا تظن لحظة أنك إن لم تكن على اطلاع على مسألة أن لا تظن أنها غير موجودة أو أنه لا أثر لها، ومن المعلوم عند العلماء أن عدم العلم ليس بدليل، ومن علم حجة على من لم يعلم، والأحكام الشرعية لا تبنى على النحو الذي ذهبت إليه. وإليك إن كنت لا تعلم فلتعلم الآن مثلا لئلا تعود إلى ما ذكرت: وكنا قد أفردنا هذا البحث على حِدَة لمناسبة أخرى ونعيده هنا تتميما للفائدة.
قال الدردير المالكي صاحب الشرح الكبير ما نصه[(69)]: «تثبت الردة أمام القضاء بشهادة رجلين مسلمين عدلين وبهذا قال الحنابلة ومالك والأوزاعي والشافعي والحنفية، وقال ابن المنذر: ولا نعلم أحدًا خالف في هذا إلا الحسن قال لا يقبل في إثبات الردة إلا أربعة شهود قياسا على الزنى، ولكن يرد على الحسن أن الشهادة على الردة شهادة في غير الزنى فتقبل من عدلين كالشهادة على السرقة».اهـ ثم لمزيد من التحري عن الدليل اعلم أن ابن قدامة قال في المغني ما نصه: «وتقبل الشهادة على الردة من عدلين في قول أكثر أهل العلم، وبه يقول مالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، قال ابن المنذر ولا نعلم أحدا خالفهم إلا الحسن قال لا يقبل في الردة إلا أربعة لأنها شهادة بما يوجب القتل فلم يقبل فيها إلا أربعة قياسا على الزنى»، ثم قال ابن قدامة: «ولنا – أي الحنابلة – إنها شهادة في غير الزنى البكر ولا قتل فيه، وإنما العلة كونه الزنى، ولم يوجد ذلك في الردة. ثم الفرق بينهما أن القذف بالزنى يوجب ثمانين جلدة بخلاف القذف بالردة».اهـ
وأما قولك يا دكتور: إن علة الحكم بقتل المرتد الحرابة أيضا لا الكفر.
فنقول: من أين لك هذا وما دليلك وما هي حجتك، وكلامك هذا ظاهر البطلان مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» رواه البخاري في صحيحه.
فالرسول علق الحكم بالقتل بردة المرتد، وإن كان المرتد فردًا أو كانوا جمعًا لم يفرق الشرع بين الفرد أو الجماعة، وحرب أبي بكر للمرتدين لم يكن مهاجمة من المرتدين للمسلمين بل هو جيّش إليهم الجيش في معاقلهم وقتل من قتل واستسلم من استسلم بالرجوع إلى الإسلام فهذه محاولة منك لإبطال حكم الردة.
ثم ماذا تقول في الحديث الصحيح المتفق عليه الذي رواه البخاري في صحيحه وغيره: «لا يحل دم امرىءٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة» فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل كفر مع حرابة، ثم بينّا لك أنه انعقد الإجماع على أن الردة تثبت عند القاضي بشهود وعليه يقتل المرتد حتى ولو لم يكن هذا المرتد يجاهر بردته كما تزعم فماذا تقول بهذا الإجماع.
ثم الآن اسمع إلى أقوال المذاهب الأربعة في هذا الموضوع ففي المغني لابن قدامة الحنبلي ما نصه[(70)]: «وروي أن معاذا قدم على أبي موسى فوجد عنده رجلا موثقا فقال: ما هذا؟ قال: رجل كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود فقال: لا أجلس حتى يقتل، فأمر به فقتل، متفق عليه، ولم يذكر استتابته ولأنه يقتل لكفره».اهـ
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه[(71)]: «وقد وقع في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له: «أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيّما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها» .اهـ
وفي الصحيفة التي قبلها في فتح الباري[(72)] عازيا إلى أبي طاهر المخلّص من طريق عبد الله بن شريك العامري، عن أبيه قال: قيل لعلي: إن هنا قوما على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون، قالوا: أنت ربّنا وخالقنا ورازقنا، فقال: ويلكم إنمّا أنا عبد مثلكم ءاكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء، وإن عصيته خشيت أن يعذّبني فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام فقال: أدخلهم، فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة فأبوا إلا ذلك، فقال: يا قنبر ائتني بفعلة معهم مرورهم فخذ لهم أخدودا بين باب المسجد والقصر وقال: احفروا فابعدوا في الأرض وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال:
إني إذا رأيت أمرًا منكرا
أوقدت ناري ودعوت قنبرا
وهذا سند حسن». اهـ
وهذا دليل صريح على بطلان قول البوطي أن المرتد لا يقتل إلا على وجه الحرابة لأن هؤلاء الذين قتلهم عليّ ما كانوا محاربين بل عبدوه من شدّة غلوّهم وإطرائهم له في محبته.
يؤيد ما ذكرنا ما رواه ابن حبان في صحيحه عن عكرمة، أن عليًّا أتي بقوم قد ارتدوا عن الإسلام أو قال زنادقة معهم كتب فأمر بنار فأججت فألقاهم فيها بكتبهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال: أما أنا لو كنت لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعذبوا بعذاب الله» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بدّل دينه فاقتلوه» .
وموضع الشاهد قوله: «ولأنه يقتل لكفره» ولم يقل لحرابته.
ثم في المغني ما نصه[(73)]: «(الفصل الرابع) إن لم يتب قتل لما تقدم ذكره وهو قول عامة الفقهاء» اهـ.
ويقول النووي الشافعي في روضة الطالبين الباب الثاني في حكم الردة ما نصه[(74)]: «أحكامها كثير متفرقة في الأبواب والمقصود هنا نفسه وولده وماله أما نفسه فمهددة فيجب قتله إن لم يتب» اهـ.
وقال صاحب جواهر الإكليل في شرح مختصر خليل المالكي ما نصه[(75)]: «واستتيب المرتد حرًّا أو عبدًا ذكرًا أو أنثى أي طلبت منه التوبة وجوبًا ثلاثة أيام متوالية لأن الله تعالى أخر قوم صالح صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، وقال ابن القاسم: ثلاث مرات ولو في يوم بلا معاقبة بجوع ولا بعطش وبلا معاقبة بضرب ولا غيره وإن لم يتب، فإن تاب المرتد برجوعه للإسلام فلا يقتل وإلا أي إن لم يتب حتى تمَّت الأيام الثلاثة بغروب اليوم الثالث قتل» اهـ.
وقال ابن عابدين الحنفي في حاشيته المشهورة ما نصه[(76)]: «[ويحبس ثلاثة أيام إن استمهل، فإن أسلم وإلا قُتل] لحديث: «من بدل دينه فاقتلوه» [وإسلامه أن يتبرأ عن الأديان] سوى الإسلام [أو عما انتقل إليه] بعد النطق بالشهادتين، وتمامه في الفتح ولو أتى بهما على وجه العادة لم ينفعه ما لم يتبرأ [وكره] تنزيهًا لما مرّ [قتله قبل العرض بلا ضمان] لأن الكفر مبيح للدم» اهـ.
فبعد سرد هذه الأقوال من المذاهب الأربعة قل لنا يا دكتور أين كلمة الحرابة، فهذه الأقوال كلها مدعمة بالأدلة تثبت أن قتل المرتد بسبب الكفر وليس بسبب الحرابة المزعومة عندك. ومن أين لك أن تقسم المرتد إلى قسمين قسم يقتل وقسم لا يقتل.
وإذا أردت أيها القارئ أن تأخذ نموذجًا مما انطوت عليه سريرة البوطي في هذا الشأن في ادعائه بعدم قتل المرتد إن لم يظهر حربًا على المسلمين فاسمع إليه حيث يقول في كتابه «هذه مشكلاتهم»[(77)] حيث يدعو إلى احترام الكفر وإلى عدم قتل المرتد إذا لم يظهر حربًا على المسلمين ونص عبارته: «لو كان الذي كتبه سلمان رشدي وجهة نظر علمية أو فكرية عبّر عنها بما يدل على قناعة داخلية لديه بشأنها لكنا أول من يحترم عمله سواء وافقنا في وجهة نظره أم لا» اهـ.
ثم اسمع إليه يقول المصدر ذاته ما نصه[(78)]: «ولو كان الذي كتبه رشدي إعلانًا بأنه لم يستطع أن يصل إلى قناعة بالإسلام ومبادئه، ومن ثم فهو يريد أن يمارس حريته في الإعراض عنه إلى أي معتقد ءاخر يفضله لفسحنا أمامه الطريق عريضًا إلى كل ما يبتغيه خاضعين لقرار الله عز وجل: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} ولقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ، وكل ما يمكن أن نضيفه إلى ذلك هو فتح باب حوار معه بالحكمة والموعظة الحسنة من خلال الأدلة العلمية والبراهين المنطقية المجردة لا نزيد على ذلك شيئًا ما دام أن الرجل لا يبتغي أكثر من ممارسة حريته ولا يشتط وراء ذلك إلى رسم أي كيد أو عدوان» اهـ.
إذًا فما معنى قولك في جريدة السفير[(79)]: «الحكم بالردة على نصر حامد أبو زيد باطل ومن ثم التفريق بينه وبين زوجته أيضًا باطل، كذلك سلمان رشدي الذي صاغ هذه الرواية لا يجوز إطلاقًا أن نحكم عليه غيابيًا أيضًا وأن نهدر دمه» اهـ.
نقول: أنت كفرته بعد أن سقت أقواله المفزعة بحق الرسول وأزواجه وبحق الله حتى قلت صراحة في كتاب «هذه مشكلاتهم»[(80)]: «إن العالم الإسلامي لم يثر على كفر سلمان رشدي»، ثم قلت: «وإنما ثار العالم الإسلامي على كرامته التي هي كرامة كل فرد مسلم».
أنت يا دكتور هدرت دم سلمان رشدي بحسب ضوابط الردة التي وضعتها وهي إعلانه الحرابة على المسلمين فلماذا هذا التناقض؟ فأنت تريد أن تحمل على فتوى رشدي ومن جهة أخرى تحكم عليه بالقتل بحسب ضوابطك.
ألم تعلم أنه قد ثبت أن أسامة بن زيد قتل رجلاً قال لا إلـه إلا الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كيف تقتله وقد قال لا إلـه إلا الله» فقال: قالها خوفًا من السيف فقال: «أشققت على قلبه» الحديث… فالنبي لم يقل له هل أعلن عليك الحرب حتى تقتله.
ثم ماذا تقول في الآية الكريمة: {…تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ… *} [سورة الفتح] ، وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمرَّ أميرًا بالجهاد: «قاتلوا من كفر بالله» رواه مسلم في صحيحه. وفيه دليل صريح على أن سبب مشروعية القتال هو كفرهم.
ثم ماذا تقول في قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ… *} [سورة التوبة] ما ادعيته من أن الحرابة هي سبب الجهاد، وأنه لا جهاد إلا مع الحرابة، وأن المرتد لا يقتل إلا إذا حارب؟! وأيضا ما ورد في الحديث أن عيسى عليه السلام حين ينزل يضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام فيه دليل على أن المقصود الأصلي من الجهاد. إدخال الناس في الإسلام.
واعلم يا بوطي أن الآية السابق ذكرها نزلت في حروب الردة وأول الآية: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} فقد نقل القرطبي في الجامع لأحكام القرءان[(81)] عن الزهري ومقاتل أنهم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة.
وقال رافع بن خديج: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية في ما مضى: {…سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فلا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم، وقال القرطبي[(82)] في قوله تعالى: {…تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} : «هذا حكم من لا تؤخذ منهم الجزية وهو معطوف على تقاتلونهم أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة وإما الإسلام».
وأما استدلال البوطي بقوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} زاعمًا أن معناه للإنسان حرية أن يعتقد ما شاء كما أفاد كلامه فهذا تحريف، إذ الآية معناها لا تُكرهوا أهل الكتاب بالقتال إن دفعوا الجزية، وقال بعض المفسرين: المعنى أنكم لا تستطيعون أن تُكرهوا قلوب الكفار وعليكم إكراه الظاهر بالقتال. وقال الإمام أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات: هذه الآية منسوخة بآيات الجهاد كآية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا… *} الآية [سورة الحج] ، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ… *} [سورة البقرة] وما أصرح الحديث المتواتر في أن الآية لا تعطي حرية ولا حرية الاعتقاد كما زعم البوطي وغيره من أهل هذا العصر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألاّ إلـه إلا الله وأن محمدًا رسول الله» ، الحديث رواه البخاري ومسلم في الصحيحين وغيرهما.
وأما قوله تعالى: {…فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ… *} [سورة الكهف] فهو تهديد وليس إذنًا للناس في حرية الكفر بدليل ءاخر الآية وهو {…إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا… *} [سورة الكهف] ، والمعنى من ءامن فقد أحسن ومن كفر فهو مستحق للعذاب المقيم في النار، يُفهم ذلك من قوله تعالى في الآية {…إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا… *} [سورة الكهف] ومعناه من كفر يقيم في جهنم في العذاب المستمر، وأن أهل النار محفوفون بالنار من كل الجوانب، فأي معنى للجهاد على زعمك لو كان لكل إنسان حرية المعتقد كما زعمت.
ومعلوم أن لفظ الأمر قد يكون للتهديد لا لطلب الفعل، وقد ذكر الأصوليون أن لفظ الأمر يأتي بمعنى الخبر ويأتي بمعنى التهديد، ومثال الأمر بمعنى الخبر قوله تعالى: {…مَنْ كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدًّا… *} [سورة مريم] ، والمعنى يمدّ له. قضيت عمرك ولم تعلم ذلك، أم علمت وتعمدت تحريف كتاب الله، نطالبك بأن تجيب عن قول الله تعالى: {…تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ… *} [سورة الفتح] ولم يقل حتى يتركوا المحاربة، فإنَّا نتحداك تحديًّا علنيًا فإنك لن تستطيع الجواب على هذا جوابًا علميًا صحيحًا.
حدق النظر حتى تفهم لعلك إذا حدقت النظر في هذه الجملة تفهم، حدق النظر في قوله تعالى: {…وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} .
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي… *} [سورة البقرة] .
معناه أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مؤمنًا ومُصدقًا بقلبه تصديقًا جازمًا لا ريب فيه أن الله تبارك وتعالى قادر على إحياء الموتى وإعادة الخلق يوم القيامة، فسأل اللهَ تعالى أن يُرِيَهُ كيف يُحيي الموتى بعد موتهم، وقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي… *} أي أنا مؤمن غير شاك ولا مُرتاب ولكن تاقت نفسي لأن أرى بعينيَّ ليطمئنَّ قلبي ويزداد يقيني، فمعنى قول إبراهيم {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي… *} أي ليطمئنَّ قلبي بإجابة طلبي، لأنه من الجائز أن يعطي الله تعالى بعض الأنبياء جميعَ ما طلب أو أن يعطيَه بعض ما طلب ولا يعطيه بعضًا، فسيدنُا محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرفُ خَلقِ الله وأكرمُهم على الله ما أُعطي جميع ما طلب، بل أُعطي بعض ما طلب ومنع بعض ما طلب، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام ما كان جازمًا وقاطعًا في نفسه بأنَّ الله يعطيه ما سأل، ولكنَّه كان مؤمنًا بأنَّ الله تبارك وتعالى قادرٌ على ذلك، ولكن كان عنده احتمال أنَّ الله يريه كيف يُحيي الموتى واحتمال أنه لا يريه، فأجابَ الله تبارك وتعالى سؤال إبراهيم عليه السلام وأمرَهُ أن يأخذَ أربعةً من الطير ويتعرف إلى أجزائها ثم يُفرقها أشلاء وأجزاء ويجعلَ على كل جبل منهن جُزءًا ثم يَدْعوهُن إليه فيأتينه سَعْيًا بإذن الله، فلمَّا فَعَل إبراهيمُ خليل الرحمـن ما أمره الله تعالى، صارَ كلُّ جُزء ينضم إلى مثله وعادت الأشلاءُ والأجزاءُ كما كانت وأعاد الله الروح إلى كل طائر، ورجعت الطيور الأربعة بقدرة الله ومشيئته إلى إبراهيم عليه السلام، وهو يرى ءايات الله البينات وءاثار قدرته العظيمة التي تدل أنه تعالى لا يُعجزه شىءٌ في الأرض ولا في السماوات فتبارك الله.
قال الحافظ البيهقي في كتابه «الأسماء والصفات»[(83)]: «وأما حديث النبي صلى الله عليه وسلم «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فقال المزني: لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم عليه السلام في أن الله قادر على أن يحيي الموتى، وإنما شكا أن يجيبهما إلى بعض ما سألاه. وقال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: مذهب هذا الحديث التواضع والهضم من النفس وليس في قوله «نحن أحق بالشك من إبراهيم اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم صلى الله عليهما، لكن فيه نفي الشك عن كل واحد منهما، فإنّه يقول: إذا لم أشك أنا ولم أرتَب في قدرة الله عز وجل على إحياء الموتى، فإبراهيم عليه السلام أولى بأن لا يشك فيه ولا يرتاب[(84)]، وفيه الإعلام أن المسألة من قبل إبراهيم لم تعرض من جهة الشك لكن من قبل طلب زيادة العلم واستفادة معرفة كيفية الإحياء» اهـ.
فليحذر من تفسير فاسد يتناقله بعض الناس أن سيدنا إبراهيم عليه السلام شكّ في قدرة الله، وهذا لا يليق بنبي من الأنبياء كما أنه لا يقول به مسلم قط.
فقد انعقد إجماع المسلمين على أن من شكّ في قدرة الله على كل شىء كفر، فكيف ينسب إلى نبي من الأنبياء الكفر والعياذ بالله؟!
نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه «فتح الباري شرح صحيح البخاري»[(85)]، عن الإمام الحافظ ابن الجوزي الحنبلي أنه قال: «جحده صفة القدرة كفر إتفاقًا» اهـ. ويدخل في هذا أيضًا من شك في قدرة الله تعالى على كل شىء.
أمّا القرضاوي فيقول والعياذ بالله في المجلة المسماة «مناهج تقريبية»[(86)] عن الرجل الذي ذكر في الحديث الذي رواه البخاري أنه قال: «لئن قدر الله عليّ»: «وإنما أدركته رحمته لجهله وإيمانه بالله والمعاد ولذلك خاف العقاب وأما جهله بقدرة الله تعالى على ما ظنه محالا فلا يكون كفرا إلا لو علم أن الأنبياء جاؤوا بذلك». وقال في كتابه المسمى «الصحوة الإسلامية» ما نصه[(87)]: «حديث الذي أوصى أن يحرق ثم يذرى في يوم شديد الرياح نصفه في البر ونصفه في البحر حتى لا يقدر الله عليه ثم يعذبه. وأما جهله بقدرة الله على ما ظنه محالا فلا يكون كفرا وهذا الحديث أرجى حديث لأهل الخطأ والتأويل».
فهذا كلام فاسد باطل يردّه إجماع المسلمين الذي نقلناه من قبل.
ـ[66] الرد العلمي على البوطي (1/174).
ـ[67] الجهاد في الإسلام (ص/211).
ـ[68] المصدر السابق (ص/212).
ـ[69] الشرح الكبير (2/304).
ـ[70] المغني (10/76).
ـ[71] شرح البخاري (12/272).
ـ[72] فتح الباري (12/270).
ـ[73] المغني (10/78).
ـ[74] روضة الطالبين (10/759).
ـ[75] جواهر الإكليل في شرح مختصر خليل المالكي (2/278).
ـ[76] حاشية ابن عابدين (3/286).
ـ[77] هذه مشكلاتهم (ص/146).
ـ[78] هذه مشكلاتهم (ص/147).
ـ[79] جريدة السفير بتاريخ الجمعة 15/11/96 (ص/8).
ـ[80] هذه مشكلاتهم (ص/151).
ـ[81] الجامع لأحكام القرءان (16/272).
ـ[82] القرطبي [14].
ـ[83] الأسماء والصفات (الطبعة الأولى 1985 دار الكتاب العربي، الجزء الثاني ص276).
ـ[84] تفسير الخازن (1/192).
ـ[85] فتح الباري شرح صحيح البخاري (طبعة دار الريان سنة 1407ر الطبعة الأولى الجزء السادس ص604).
ـ[86] مناهج تقريبية (العدد 14 ص102).
ـ[87] الصحوة الإسلامية (ص/108).