(فصلٌ) في قَسْمِ الفَىْءِ على مُسْتَحِقِّيهِ.
والفَىْءُ لغةً مأخوذٌ مِ، فاء غذا رجعَ ثم استُعمل في الْمَال الراجع مِنَ الكفار إلى الْمسلمين. وشرعًا هو مالٌ أو اختصاصٌ حصل للمسلمين مِن كفارٍ بلا قتالٍ ولا إيجافِ خيلٍ ولا إبلٍ كجزيةٍ ومالٍ تركه الكفارُ فزعًا من الْمسلمينَ في عيرِ حال القتال ومالُ ذِمِّيٍّ لا وارثَ له وعُشْرِ تجارةِ الكفارِ إذا دخلوا دارَنا بها بإذنِنا وتَرِكَةِ الْمرتَدِّ. والأصلُ فيه ءَايَةُ الحَشْرِ (مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ).
(ويُقْسَمُ مالُ الفَىْءِ) وما أُلحِقَ به منِ اختصاصٍ (على خمسِ فِرَقٍ) أي خمسةِ أخماسٍ متساويةٍ و(يُصرَفُ خُمْسُهُ) وجوبًا (على مَن يُصرف عليهم خمسُ الغنيمةِ) أي على الأصنافِ الخمسة الذين يُصرف عليهم خمسُ الغنيمة وسبقَ بيانُهُم قريبًا سهم لرسول الله عليه الصلاةُ والسلامُ يُصرف بعده للمصالح وسهمٌ لذَوِي القُربَى وهم بنو هاشم وبنو الْمطلب وسهمٌ لليتامَى وسهمٌ للمساكين والفقراء وسهمٌ لأبناء السبيل. (ويُعْطَى أربعةُ أخماسِها للمقاتِلَةِ) الْمرتزِقَةِ وهم الأجنادُ الذين عَتَّنَهُم الإمامُ للجهادِ وأثبتَ أسماءَهُم في ديوان الْمُرتَزِقَةِ وسُمُّوا مَرْتَزِقَةً لأنهم طَلَبُوا الرِّزْقَ منَ اللهِ تعالى بانقطاعهم عن عوالق الدنيا للجهاد في سبيل الله والذَّبِّ عن دين الله تعالى. وإنما يُعْطَون مِنَ القَىْءِ لا منَ الزكاةِ بعد اتِّصافهم بالإسلام والتكليف والحرية والذُّكوريَّةِ والصِّحَّةِ إذ لا يُثبَتُ في الديوانِ مَن ليس بهذه الصفة فيفرِّقُ الإمامُ عليهم الأخماسَ الأربعةَ ولا يُسَوِّي بينهم بخلاف الغنيمة في ذلك بل يُعطيهِم على قدرِ حاجاتِهِم وإن لم تَتَسَاوَ فيبحَثُ عن حالِ كلِّ واحدٍ منَ الْمقاتِلة وعن عيالِهِ اللازمَةِ نفقَتُهُم مِن أولاد وزوجات ورقيق بحاجة الغزو أو للخدمة إن اعتادوها فإن لم يكن له رقيق يُعْطَى ما يحتاجه من الرقيق لذلك وما يكفيهم نفقةً وكسوةً وغيرَ ذلك ليتفرغَ معيلُهم للجهاد فإن زادَت حاجتُه بزيادة ولدٍ أو حدوث زوجة زاد له ويراعي في الحاجة حالَهُ مِنَ الْمُرُوءَةِ وضِدَّها والزمانَ والْمكانَ والرُّخْصَ والغلاءَ. والْمُروءةُ صفةٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَحمِلُ مُرَاعاتُها الإنسانَ على الوقُوفِ عِند مَحاسِن الأخلاقِ وجميل العاداتِ.
(و)إذا فضلَ عن حاجات الْمُرْتَزِقة شَىْءٌ صُرِفَ (في مصالحِ الْمسلمينَ) مِن إصلاحِ الحصونِ والثغور ومن شراءِ سلاحٍ وخيلٍ على الأصحِّ قوله (على الأصحِّ) هو عبارةُ النوويِّ في الْمنهاجِ وأما الغزيُّ فعبَّرَ هنا بقولِهِ (على الصحيح) ولا يخفَى الفرقُ بين العبارتينِ. وتقدَّمَ أنَّ مِنْ الْمصالحِ العلماءَ بل عدَّ ابنُ حجرٍ الْمكِّيُّ منها زيادةً عليهم الأئمةَ وأهلَ علمِ الشرعِ وءَالَتِهِ وطالبِيهِ وحفاظَ القرءانِ قال ويُعْطَى هؤلاءِ ولو مع الغِنَى ثم قال وذلك لأنَّ بهؤلاءِ يُحْفَظُ الْمسلمون اهـ ويجوزُ صرفً الفاضلِ إلى أهلِ الدِّيوانِ أيضًا على قدر مؤُوناتهم فمنِ احتاج ألفين مثلًا يُعْطَى منَ الفاضل ضعفَ مَن يحتاجُ ألفًا.
ومَنْ ماتَ مِنَ الْمُرتزقة دُفِعَ غلى مَن كانت تلزمُهُ مفقتُهُ مِن أربعةِ أخماسِ الفَىْءِ كفايتُهُ فيُعطون بعده كفايتَهُم إلى أن تُنكح الأنثَى مِن زوجةٍ وبنتٍ أو تستغنِي ولو بكسبٍ وحتى يستقِلَّ ذكرٌ بكسبٍ يكفيه وإن لم يبلغ. واستنبطَ التَّقِيُّ السبكيُّ رحمه الله تعالى مِن هذه الْمسئلةِ وأقرَّهُ عليه غيرُهُ أنَّ الفقيهَ أو الْمدرِّسَ إذا مات تُعْطَى زوجتُهُ وأولادُهُ مِمَّا كان يأخذُ ما يقوم بهم ترغيبًا في العلم كالترغيب في الجهاد فإن فَضَلَ الْمالُ عن كفايتهم صُرِفَ الْمالُ لِمَنْ يقومُ بالوظيفةِ اهـ قلتُ الحاجةُ في زمانِنَا قائمةٌ أشدُّ إلحاحًا منَ السابقِ ليُعطَى مشايخُ الحقِّ أهلُ العلم الْمدرِّسُونَ الدُّعَاةُ إلى دينِ الله سبحانه مِن مالِ الْمصالح ما يكفيهم ويكفِي مَمُونَهُم في حياتهم وبعد موتهم لِيَفْرَغُوا لِنَشْرِ دينِ الله عزَّ وجلَّ ونُصْرَةِ مذهبِ أهل السنة إذ هم كالْمُجاهدين في سبيل الله الذين يَغزُونَ لنُصرة دين الله عزَّ وجلَّ وهل هم إلا قائمون بسدِّ الُّغُرات التي فُتِحَت في وُجُوهِ الْمسلمين بل في أكبادِهِم ولا تغفُلْ عَمَّا نصُّوا عليه مِن أنَّ سدَّ الثغورِ هيَ أهمُّ الْمصالحِ التي تُقَدَّمُ على غيرها وما في ذلك منَ الإشارةِ اهـ