الجمعة مارس 29, 2024

فصل في بيان معنى حديث: لا تسبوا أصحابي

 

قال أبو مسلم الخولاني رضي الله عنه لمعاوية: السلام عليك يا أجير فقال له بعض من حوله قل: السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال: السلام عليك يا أجير فقال معاوية: اتركوه فإنه يعرف اهـ ذكره الإمام الحافظ ابن عساكر بإسناده فمن يظن أن كل صحابي تقيّ صالح فقد بَعُدَ عن الصواب بعدًا شاسعًا أليس فيهم من جُلد على القذف أليس فيهم من رُجم بالحجارة حدًّا لكونه زنى بعد إحصان، فمن ظن أن الصحابي كائنًا من كان أفضل ممن جاؤوا بعد الصحابة لو كان تقيًّا وذاك الصحابي غير تقي فقد خالف القرءان والحديث قال الله تعالى: {إنَّ أكرمَكُم عندَ اللهِ أتقاكُم} [سورة الحجرات/13] حيث لم يقل إن أكرمكم عند الله مَن صاحب محمدًا صلى الله عليه وسلم وقال صلى الله عليه وسلم: “إن أولى الناس بيَ المتقون من كانوا وحيث كانوا” رواه ابن حبان وصححه [1].

 

ومن الفهم الفاسد تفضيل بعض المتعصبين لمعاوية حيث قال: “غبار نعل فرس معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز”، وهذا يخالف ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة” [2] فما أبعد قول هذا المتعصب الأموي عن كلام الله وكلام رسوله، وليس هذا من كلام عبد الله بن المبارك رضي الله عنه كما نسبه بعض بني أمية إليه زورًا وبهتانًا.

فإذا تبين هذا فلا يجوز حمل حديث البخاري [3] “لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه” على كل الصحابة لأن معنى الحديث السابقون الأولون لأن الرسول قال هذا لخالد بن الوليد وكان سب عبد الرحمن بن عوف فخالدٌ ليس من السابقين الأولين بل أسلم قبل وفاة الرسول بنحو ثلاث سنوات وعبد الرحمن بن عوف من المهاجرين الأولين، وليس معنى هذا الحديث كل من ينطبق عليه اسم الصحابي، ويحمل الحديث على أن سبّ الصحابة جملة حرام بل كفر، ومن حمل الحديث حكمًا على كل فرد فقد غلط غلطًا بعيدًا.

 

كيف ومن الصحابة من حضر مع الرسول حجة الوداع وسمع كلام الرسول يقول في تلك الحجة “لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض” [4]، ثم هذا الرجل قتل عمار بن ياسر رضي الله عنه مع معاوية ثم كان عندما يأتي إلى باب أحد بني أمية يقول قاتل عمار بالباب، فليتقِ الله هؤلاء.

 

وكذلك حديث الترمذي “الله الله في أصحابي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن ءاذاهم فقد ءاذاني” إلى ءاخره وهو حديث حسن [5] ليس فيه ما يزعمه أولئك الذين يظنون أن كل فرد من الصحابة أفضل من كل فرد ممن جاء بعدهم وأنه لا يجوز ذكر أحد منهم بسوء مما فعله أو قاله. كيف يقال هذا وقد صح الحديث بأن من خرج على أمير المؤمنين ومات على ذلك كأنه مات ميتة جاهلية رواه البخاري ومسلم [6]، ثم أليس معاوية كان يأمر بسب عليّ فقد روى مسلم أنه قال لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك من أن تسب أبا تراب يعني عليًّا فماذا يقولون في معاوية هل يقولون سب جميع الصحابة.

 

ومن المناقض لكلام الله وكلام رسوله قول صاحب الزبد:

وما جرى بين الصحاب نسكت *** عنه وأجر الاجتهاد نثبت

كيف يثبت الأجر لمن خرج على الخليفة وقد نهى الرسول عن الخروج على الخليفة إلا أن يكفر فالذين خرجوا على علي كلهم عصاة حتى طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم عصوا إلا أن ذنبهم مغفور لأجل البشارة التي بشرهم بها رسول الله بالجنة هكذا قال إمام أهل السنة أبو الحسن الأشعري، وهؤلاء الثلاثة رضوان الله عليهم تابوا.

 

وما لصاحب “الزبد” وصاحب “جمع الجوامع” تاج الدين السبكي حيث قالا بأن الصحابة الذين قاتلوا عليًّا مأجورون لأنهم اجتهدوا. يقال لقائل هذا الاجتهادُ لا يكون مع قيام النص الصريح إنما الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص قرءاني أو حديثي إنما هذا غلط في الرأي ليس من الاجتهاد الشرعي الذي يثاب فاعله إن أصاب بأجرين وإن أخطأ بأجر واحد كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبلـ وكأبي بكر وعلي رضي الله عنهما فإنهما اجتهدا في مسئلة الجد والإخوة فقال أحدهما الجد يرث والإخوة لا يرثون وقال الآخر وهو علي يشترك الجد والإخوة في الميراث، هذا مع قول صاحب “الزبد” بأن الخروج على الخليفة حرام حيث قال:

ولم يجز في غير محض الكفر *** خروجنا على ولي الأمر

 

فكيف جمع بين القولين.

 

فيا طالب الحق خذ بما يوافق الكتاب والسنة وهو ما قاله أبو الحسن الأشعري إن الذين قاتلوا عليًّا كلهم عصاة وتمسك بهذا الحق ولا تمل لما يخالفه. ونقل كلام أبي الحسن الأشعري الإمام الجليل تلميذ تلميذه محمد بن  فورك في كتابه مجرد مقالات الأشعري.

فإذا تبين هذا فمعنى الحديث أن سب الصحابة جملة كفر وسب خيارهم كأبي بكر وعمر فسقٌ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قتل مسلم واحد أعظمُ من زوال الدنيا” وهو حديث صحيح [7] فماذا يقال فيمن قتل عشرين ألف نفس من الصحابة والتابعين فيهم خيار الصحابة أهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان وهو معاوية.

 

فيدخل تحت هذا الحديث الذين قاتلوا عليًّا فإنهم كلهم عصاة الصحابي منهم وغير الصحابي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فقد خلع رِبقة الإسلام من عنقه حتى يراجع” وهذا أيضًا ينطبق على مقاتلي علي، رواه الحاكم وغيره [8]، فالعجب بعد هذا ممن قال إنهم مأجورون من متأخري الشافعية كصاحب الزبد وغيره.

 

ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى جيش معاوية بغاة والباغي كيف يؤجر وكيف يجتمع الإثم والأجر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ويحَ عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار” [9] وعمار رضي الله عنه كان في جيش علي قتله جيش معاوية، فمن أخذ بكلام أمثال صاحب جمع الجوامع وصاحب الزبد لا عذر له وتأويل ابن تيمية للحديث بأنّ معنى الباغي الطالب مردود لا معنى له. وقد روى هذا الحديث الطبراني [10] بلفظ: “تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الحق” وما دعا ابن تيمية إلى هذا التأويل إلا ما يُكنُّه في صدره من بُغض علي لأنه كان ينتقضه في بعض كلامه كما قال الحافظ ابن حجر في “لسان الميزان” [11].

ثم معاوية من الملوك كما يشهد بذلك حديث “الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم مُلك عضود” [12] أي شديد الظلم وهذا الحديث ثابت صححه الحافظ ابن حجر والحافظ ولي الدين العراقي وبعض أهل الكتب الستة.

 

ثم هؤلاء غَلَوا في هذا الأمر فقال بعضهم غبار نعل فرس معاوية أفضل من مائة مثل عمر بن عبد العزيز، وبعضهم قال أفضل من ألف مائة مثل عمر بن عبد العزيز والصحابة رضي الله عنهم يجب مدحهم في الجملة أما من حيث الأفراد فمنهم تقيّ ومنهم غير تقي فالأتقياء منهم أفضل أولياء البشر وأما القول بأن كل فرد من الصحابة أفضل ممن جاء بعدهم فهو معارض للقرءان والحديث.

[1] أخرجه ابن حبان في صحيحه: كتاب الرقائق: باب الخوف والتقوى، انظر “الإحسان” [2/20] لابن بلبان.

[2] أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب الفتن: باب حرمة دم المؤمن وماله، والطبراني في “المعجم الكبير” [11/31] قال الهيثمي في مجمع الزوائد [3/292]: “رواه الطبراني في الكبير وفيه الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف وقد وثق” اهـ.

[3] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة: باب قول النبي: “لو كنت متخذًا خليلاً”

[4] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب العلم: باب الإنصات للعلماء، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض”.

[5] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب المناقب: بعد باب في فضل من بايع تحت الشجرة وقال: “حديث غريب”، ورواه السيوطي في “الجامع الصغير” [1/214] ورمز لتحسينه، ورواه ابن حبان في صحيحه في باب فضل الصحابة والتابعين، انظر “الإحسام” [9/189].

[6] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الفتن: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “سترون بعدي أمورًا تنكرونها”، ومسلم في صحيحه: كتاب الإمارة: باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة.

[7] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الديات: باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن، والنسائي في سننه: كتاب التحريم: باب تعظيم الدم، وابن ماجه في سننه: كتاب الديات: باب التغليظ في قتل مسلم ظلمًا، وقال الحافظ البوصيري في “مصباح الزجاجة” [2/83]: “هذا إسناد صحيح رجاله ثقات” اهـ.

[8] أخرجه الحاكم في المستدرك [1/77] وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه.

[9] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الصلاة: باب التعاون في بناء المساجد، وكتاب الجهاد: باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله.

[10] انظر “إتحاف السادة المتقين” [7/178]، وقال الحافظ الهيثمي في “مجمع الزوائد”: “رواه الطبراني وفيه مسلم بن كيسان الأعور وهو ضعيف” اهـ.

[11] “لسان الميزان” [6/390].

[12] أخرجه أحمد في مسنده [4/273]، وأبو داود الطيالسي في مسنده [ص/31].