فصل في بيان حقيّة من كفرَ وهو منتسب للإسلام باطلاً
فإن قال قائل: كيف نكفر الوهابية وهم يقولون لا إله إلا الله؟ قلنا: أليسوا يكفرون أهل السنة الأشاعرة والماتريدية بغير حقّ فما المانع من أن نسمي الوهابية كفارًا بحق لأنهم مجسمة مشبهة وقد نص الشافعي رضي الله عنه على تكفير المجسمة كما سبق ذكره، ذكر ذلك السيوطي في كتابه “الأشباه والنظائر” [1] وهذا نصّه: “قال الشافعي: لا يُكَفَّر أحدٌ من أهل القبلة واستثنى من ذلك المجسّم” اهـ وذكر بعض كبار أصحاب المذهب الشافعي أن اشلافعي كفّر القدري أي المعتزلي والقائلَ بخلق لقرءان ذكر ذلك صاحب البيان العمراني نقلاً عن الإمام الجليل أبي حامد المروزي أحد قدماء الشافعية.
وكفّر الإمام الشافعي رضي الله عنه من قال إن الله جالس على العرش. قال الشيخ ابن المعلم القرشي في كتابه “نجم المهتدي” وهذا ينظم من كفره مجمع عليه ومن كفرناه من أهل القبلة إلى أن قال وكذا من يعتقد أن الله جالس على العرش كما حكاه القاضي الحسين هنا عن نص الشافعي رضي الله عنه اهـ وهذا القاضي حسين من أكابر علماء الشافعية حتى لقّب بحبر الأمة كما لقب عبد الله بن عباس حبر الأمة رضي الله عنهم.
وقال الإمام أحمد: “من قال إنّ الله جسمٌ لا كالأجسام كفر” ذكر ذلك صاحب الخصال من الحنابلةِ ونقله عنه الزركشي في “تشنيف المسامع” [2]، وكذلك أبو حنيفة صرّح في إحدى رسائله الخمس التي هي صحيحة النسبة إليه كما قال الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في شرح إحياء علوم الدين باعتبار الإسناد بكفر مَن يعتقد أن صفة من صفات الله حادثة أو شكّ أو توقف.
والوهابية يعتقدون أن لله إرادة حادثة وكلامُا حادثًا حرفًا وصوتًا، والحرف والصوت مخلوقان فكيف يقوم بالله كلام حادث. وليس الله قرأ القرءان على جبريل بالحرف والصوت ثم جبريل قرأه على الرسول إنما جبريل سمع كلام الله الذي ليس حرفًا ولا صوتًا ففهم الأمر بأخذ القرءان من اللوح المحفوظ ثم النزول به على محمد صلى الله عليه وسلم وقراءته عليه، ويدل على هذا قوله تعالى: {إنَّهُ لَقَولُ رسولٍ كريمٍ} [سورة التكوير/19] أي جبريل فلو كان الله قرأ القرءان على محمد بالحرف والصوت لم يقل إنه لقول رسول كريم بل لقال إنه لقولي، أما قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بهِ لسانَكَ لِتَعْجَلَ بهِ* إنَّ علينا جَمْعَهُ وقُرْءانَهُ* فإذا قرأناهُ فاتَّبِعْ قُرءانَهُ} [سورة القيامة/16-17-18] فمعنى قرأناهة جمعناه لك في صدرك يا محمد لأنه عليه السلام كان يحرك لسانه بالقرءان وجبريل يقرأ عليه لئلا يفلت منه شئ.
وقد قصدتُ مرة الشيخ أبا اليسر عابدين مفتى الشام رحمه الله تعالى للاستعانة به في قمع حركة الوهابية فقال: شيوخُ البلد لا يساعدونني لي وقفةٌ معهم عند الله يوم القيامة اهـ، وأرسلت إليه مرة شابّين سمعا أمين شيخو في درسه في بيته يقول: “أما البخاري ومسلم فهما يهوديان” اهـ فقلت لهما: اذهبا إليه فاشهدا عنده فشهدا عنده فسجنه.
والعجب من قول بعض الناس إنه لا يكفّر من يقول لا إله إلا الله على الإطلاق وقد ذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق [3] أن الأوزاعيّ رضي الله عنه أفتى بكفر غيلان الدمشقي القدري المعتزلي وكان من موالي سيدنا عثمان لقوله بأن العباد يخلقون أعمالهم أي هم يوجدونها من العدم استقلالاً، وكان يقص في مسجد الرسول ثم انتقل إلى دمشق وكان قدريًّا كالمعتزلة يكلّم الناس في القدَر على مذهب الاعتزال، فبلغ عمرَ بن عبد العزيز أنه يتكلم في القدر فطلبه فقال: يا أمير المؤمنين الناس يكذبون عليّ ثم قال له عمر: إن كان الذي في قلبك خلاف ما تقول بلسانك أذاقك الله حرّ السيف، ثم عاد في أيام هشام بن عبد الملك يتكلم في القدر فاستدعاه هشام فقال: أقِلْني يا أمير المؤمنين -أي اتركني- فقال: لا أقالني الله إن أقلتُك فقال: إذن أحضِرْ لي من يناظرني فقال هشام: مَنْ لهذا القدري؟ فقيل له: الأوزاعي وكان الأوزاعي ببيروت والخليفة بدنشق فأحضر الأوزاعي فناظره وقطعه بالحجة فقال الأوزاعي: كافر وربّ الكعبة يا أمير المؤمنين، فقال غيلان: أدركتني دعوة العبد الصالح عمر بن عبد العزيز فقطعَ هشام يديه ورجليه ثم صلبه وعلقه بباب دمشق وكان قتلُه في أول القرن الثاني.
وحصل مثلُ هذا لكثير من المنتسبين إلى الإسلام ممّن ظاهرُهم العلمُ والدين كالحلاج فإنه كان في بدء الأمر كثير الذكر والتهليل وغيره ثم قتله الخليفة لما ظهر منه كلمات فيها دعوى الألوهية كقوله أنا الحق والقول بعقيدة الحلول.
[1] الأشباه والنظائر [ص/598].
[2] تشنيف المسامع [4/648].
[3] تاريخ دمشق [48/209].