فصل في بيان أن اللفظ الصريح في الكفر لا يؤول
ولا يُغتر بما يفعله بعض المنتسبين إلى العلم اليوم وذلك أنهم يؤولون الكلام الكفري الصريح حتى إن بعضهم قال لي إذا قال الشخص أنا الله يؤول.
وكان أحدهم وهو من المشاهير سئل عن هذا البيت الذي يقوله بعض أهل الشام من المنتسبين للطريقة الشاذلية عندما يقفون في حلقة الذكر:
فما في الوجود سوى واحدٍ *** ولكن تكثّر لما صفا
فأفتى بأن هذا لا يجوز وأنه كفرٌ لا تأويل له ثم راجعه من يعز عليه وألح عليه وكان متولعًا بهذه الحضرة فرجع عن فتواه الأولى مع أن هذا البيت فيه نسبة التغيّر إلى الله حيث إنه مذكور فيه أن الله لما صار صافيًا صار كثيرًا وفيه عقيدة الوحدة المطلقة وفيه نسبة الانتقال من الكُدرة إلى الصفاء إلى الله تعالى، وكل هذا كفر صريح. والعلماء قالوا اللفظ الصريح لا يؤول، قال حبيب بن ربيع أحد كبار المالكية [1]: “ادعاء التأويل في لفظ صراح لا يقبل” اهـ. وقال الأردبيلي الشافعي في كتابه “الأنوار”: “من قال أنا الله مازحًا كفر”.
وفي “الفتاوى الهندية” [2] أن الإمام محمد بن الحسن قال في رجل قيل له ألا تخاف الله فقال لا وكان على معصية ظاهرة إنه يكفر لأنه لا يمكن التأويل، وأما لو قال هذه المقالة في أمر ليس فيه معصية لا يكفر وعلل تكفيره في الحال الأول بأنه لا يمكن التأويل، وقال فيمن قيل له اتق الله ولم يكن على معصية فقال لا أخافه لا يكفر لأن له تأويلاً أي أني ما عملت معصية فأخاف عقوبته.
وقال إمام الحرمين [3]: “اتفق الأصوليون على أن من نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر تورية كفّر ظاهرًا وباطنًا” وأقرهم على ذلك، يعني إن كانت توريته بعيدة لأن التورية القريبة تدفع التكفير عن صاحبها لكون اللفظ غيرَ صريح.
وأما إن كان اللفظ له أكثرُ من معنى وبعض معانيه كفريًا وبعضها غير كفر لا يفتيه المفتي بالكفر إلا إذا علم أنه أراد بهذا اللفظ المعنى الكفريَّ وقد قال الإمام المجتهد محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة فيمن قيل له صلّ فقال لا أصلي إن أراد بقوله لا أصلي أنه لا يصلي كسلاً لا يكفر وإن أراد لا أصلي لأجل أنك أمرتني لا يكفر وإن أراد لأني قد صليتُ لا يُكفّر وإن أراد لا تجب عليّ الصلاة كُفّر.
هذا هو المقرر عند فقهاء الشافعية والحنفية وغيرهم قالوا إن أراد الشخص بلفظٍ المعنى الكفري لا تنفعه فتوى المفتي بغيره فتبينُ امرأته منه. وقال بعض الحنفية فإذا فعل الشخص فعلاً مختلفًا في كونه كفرًا عند الفقهاء وكانت روايةٌ عن الإمام صاحب المذهب بترك تكفيره يؤخذ بتلك الرواية فلا يكفَّر قائله. ومعنى ذلك أنه إذا اختلف المجتهدون أو اختلف قول مجتهد واحد في التكفير بشئ يترك التكفير هذا فيما كان قولاً لمجتهد ليس فيمن دون المجتهد في اصطلاح الفقهاء لأن معنى الرواية هو ما يروى عن المجتهد لأن المجتهد قد يقول في المسئلة قولين وثلاثة وأكثر.
وأما ما يرويه بعض الناس من أنه إذا كان في الكلمة تسعة وتسعون قولاً بالتكفير وقولٌ واحد بترك التكفير يؤخذ بهذا القول الواحد فلا أصل له ثابت لا عن أبي حنيفة ولا عن مالك.
ثم قال الفقهاء إن الشخص إذا تكلم بكلمة كفر صريحة يكفر إلا أن يكون قالها في حالة غيبة عن العقل كما يحصل من بعض المجاذيب النطق بكلام كفري صريح لكن يكونون في تلك الساعة في غيبة عن العقل أو كان من نطق بهذه الكلمة الصريحة لا يفهم معناها أو سبق لسانه إليها بلا إرادة فلا يكفّر. ومن هنا قال أبو الهدى الصيادي شيخ الرفاعية في زمانه في شرح رسالة لبعض الصوفية في ءاخرها [4]: “فائدة استطرادية: من قال أنا الله أو ما في الوجود إلا الله أو لا موجود إلا الله أو الكل هو الله أو نحو ذلك فإن كان عاقلاً صاحيًا في قيد التكليف فلا خلاف بين المسلمين جميعًا في كفره لمخالفته نص القرءان” اهـ. أي أنه مرتد فيجرى عليه أحكام المرتد وإلا فلا.
هذا إن كان يفهم من قول لا موجود إلا الله ومن قول هذه الكلمات معناها الذي هو كفر ولا يفهم غيره، أما إن كان يظن أن معناها غير ذلك فلا يكفّر قائله لأن من الناس من يقولون هذه الكلمات الثلاث الأخيرة ويفهمون منها غير معناها اللغوي فلا يكفّرون بل يجب تحذيرهم وبيان أن معناها الأصليّ كفر، والظاهر من حالهم أنهم يفهمون أنه لا مدبّر للعالم إلا الله.
ويؤيد ما ذكر ما قاله الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه “اليواقيت والجواهر”: “قال الجنيد: لو كنتُ حاكمًا لضربت عنق من سمعته يقول لا موجود إلا الله”، وكثير ممن يدّعون التصوف اليوم بعيدون من كلام سيد الصوفية الجنيد رضي الله عنه ومن جاء بعده من أكابر الصوفية المحققين، وقد قال وليّ الله بلا خلاف سيدنا الإمام أبو العباس أحمد بن عليّ الرفاعي رضي الله عنه: “لفظتان ثلمتان في الدين القول بالوحدة والشطح المجاوز حد التحدث بالنعمة” اهـ وبعض متصوفة الزمان يقرأ من مثل هذه القصيدة “فما المرءاةُ والمرئيُ إلا الله” يقصد أن العالم مرءاة لله والمرئيّ فيها هو الله، وفي معنى هذا قول النساء المنيريات أتباع منيرة قبيسي: كل ما تهواه موجود في ذات الله وذلك في دفتر جمعن فيه كلمات متفرقة من مواضع شتى تلقفنها من هنا ومن هناك سمينه مزامير داود. وفي هذا المجموع غير هذا مما يوهم الاتحاد أي اتحاد العالم بالله وهذه العقيدة أكفر الكفر.
كذلك ومن الجهل الفاحش ظن بعض الناس فيمن حصل منه كفر أنه يقال هذا الكلام كفر ولا يقال إن الشخص كفر وهذا جهل فاحش، وقد قال الإمام الأوزاعيّ رضي الله عنه في أمر غيلان القدريّ للخليفة هشام: “كافرٌ ورب الكعبة يا أمير المؤمنين”.
وقال الحافظ المجتهد ابن المنذر في كتاب “الإشراف” [5] “وقال شَبابَهُ وأبو النضر: المرّيسيُّ كافرٌ جاحد يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. وقال يزيد بن هارون: جهم كافر قتله سَلمُ بنُ أحوز بأصبهان” اهـ.
والمريسي كان درس الفقه على أبي يوسف القاضي ثم انحرف.
وقال أبو حنيفة لشخص ينتسب إلى الإسلام وهو جهم كافر أخرجوه اهـ.
فالحق الذي كان عليه السلف وتبعهم الخلف عليه أن من ثبت كفره يقال كفر وأما من لم يثبت كفره بأن كان اللفظ الذي خرج من لسانه محتملاً أنه صدر منه وهو لا يعلم معناه أو كان هناك احتمال أنه خرج منه على وجه سبق اللسان فلا بأس أن يقال فيه إن كلامه هذا كفر لأن هذا من الاحتياط والاحتياط مطلوب.
وعلى هذا يحمل قول إمام الحرمين: الخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطإ في سفك دم لمسلم واحد اهـ.
وهذه الكلمة التي قالها إمام الحرمين والغزاليّ بعض المتسرعين يحتجون بها لترك تكفير من ثبتت ردته وهذا تعطيل لشرع الله.
وهذا الذي يفعله هؤلاء ليس من الورع بإثبات الأمرين على حسب القواعد الشرعية، وخير الأمور الوسط.
[1] نقله عنه القاضي عياض في “الشفا” [2/217].
[2] الفتاوى الهندية [2/261].
[3] نهاية المحتاج [7/414].
[4] الكوكب الدري [ص/11-12].
[5] الإشراف [2/258].