فصل في بيان أن الجهالة والنكارة لا يوجبان الوضع
ليس من الأدلة التي يدرك بها كون الحديث موضوعًا كون راويه من قيل فيه مجهول، فقد أخرج البخاري في “الأدب المفرد” [205] الذي هو من أحسن تآليفه بعد “الجامع الصحيح” عن محمد بن مالك بن المنتصر، روى أبو بكر الثقفي [206] وهو مجهول كما في “الخلاصة” [207].
ولا كونه ممن قيل فيه منكر الحديث ففي السنن الأربعة وغيرها عدة من ذلك فممن قال فيهم البخاري في تاريخه ذلك أيْفَع [208] الراوي عن سعيد بن جبير، أخرج له النسائي في السنن قال البخاري فيه: منكر الحديث.
ومنهم الخليل بن مرة الضبعي [209]، أخرج له الترمذي في جامعه قال فيه البخاري: منكر الحديث، وروى عنه أحمد بن حنبل.
ومنهم حميد بن وهب [210] القرشي أخرج له أبو داود وابن ماجه، قال البخاري فيه: منكر الحديث.
ومنهم علي بن ظبيان [211] أخرج له ابن ماجه، وقال فيه البخاري: منكر الحديث، وروى عنه الشافعي.
ومنهم عياض بن عبد الله الفهري [212] أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وقال فيه البخاري: منكر الحديث.
ومنهم عطاء بن عجلان الحنفي [213] أخرج له الترمذي، قال البخاري: منكر الحديث.
ومنهم المطلب بن زياد الكوفي [214] وثقه ابن معين، قال فيه عيسى بن شاذان: عنده مناكير.
ومنهم من قيل فيه ذلك مع توثيق بعض الأئمة له كناصح بن عبد الله الكوفي [215] الحائك أخرج له الترمذي وابن ماجه، قال البخاري: منكر الحديث.
ومنهم ناصح بن العلاء الهاشمي [216] وثقه أبو داود وابن المديني، قال البخاري: منكر الحديث.
ومنهم الوليد بن جميل بن قيس اليماني [217]، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، والترمذي وابن ماجه، قال أبو حاتم: روى عن القاسم أحاديث منكرة.
ومنهم يعقوب بن حميد المدني [218]، قال الذهبي بعد أن ذكر كلامهم فيه وأنه ثقة: هو من علماء الحديث لكن له مناكير وغرائب.
ومنهم الخليل بن عمر بن إبراهيم العبدي [219]، وثقه الفسوي وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: “يعتبر حديثه من غير روايته عن أبيه لأن أباه كان واهيًا، والمناكير في أخباره من ناحية أبيه لا من ناحيته”.
ومنهم داود بن الحصين [220] أخرج له الستة، قال ابن المديني: ما رواه عن عكرمة فمنكر.
فكل من ذكر هنا فيه دليل لرد ما زعمه هذا الرجل –يعني الألباني- من أن رواية الراوي للمناكير دليل على كون حديثه موضوعًا، حتى حكم على الحديث بالوضع لوجود من قيل فيه روى مناكير في سنده، فقد برهنا بهذه الأمثلة من كلامهم على أن قولهم في شخص “روى مناكير” ليس للضعف في جميع أحواله بل في بعضها، وهي أن تكون النكارة في جميع رواياته أو أكثرها.
بل قد يجتمع كون الراوي ثقة مقبولاً مع كونه قد روى مناكير كعيسى بن موسى التيمي أو التميمي البخاري، قال الحاكم: “هو في نفسه صدوق إلا أنه إذا روى عن المجاهيل كثرت المناكير في حديثه” ا.هـ من “الخلاصة” [221]، وفي التهذيب [222]: “والاحتياط في أمره الاحتجاج بما رواه عن الثقات إذا بين السماع عنهم”، أخرج له البخاري في تعليقات الصحيح وابن ماجه.
وكخالد بن مَخلد البجلي [223]، روى عنه البخاري، أخرج له الستة: البخاري، ومسلم في صحيحهما، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأبو داود في مسند مالك، قال ابن عدي [224] بعد أن روى له عشرة أحاديث مناكير: “وهو من المكثرين في محدثي أهل الكوفة ولا بأس به عندي إن شاء الله تعالى”، وقال عبد الله بن أحمد [225] كما في التعليق عن أبيه: “له أحاديث مناكير”.
فها هو ذا قد وثقه فلم تضره روايته للمناكير. ووجه ذلك أنه لم تكن هذه الصفة لازمة له في جميع أحاديثه.
فكذلك راوي حديث: “نعم المذكر السبحة” الذي نقلتَ فيه عن الذهبي أنه قال فيه: “روى مناكير عن جده” لم يوصف بالنكارة في جميع رواياته بل في عبارة الذهبي أن نكارته في أحاديث جده فقط.
فما أبعد صنيعك عن الصواب، وما أعظم تهورك، فكأنك قد ناديت على نفسك بالإعلام بمبلغك وأنه خلاف ما يظن بك لو سكتَ. فجدير بنا أن نذكر هنا ما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: “من سام بنفسه فوق ما يساوي رده الله إلى قيمته”.
فما حجتك في وصف إسناد الحديث بقولك في ابتداء كلامك: “ظلمات بعضها فوق بعض”، وفيهم من هو من أفاضل الناس، وليس لك في أحد منهم علم بفسق أو اشتهار بكذب أو وصف بكذب، أهكذا يفعل من يتقي الله؟
وإذا تقرر صحة حديثَيْ سعد وصفية رضي الله عنهما في التسبيح بالحصى فلا يسعك إن سايرت الإنصاف إلا تسليم السبحة ولا تتكلف دعوى المغايرة والتفريق بينهما في الحكم لوجود اتحاد المعنى، ولا تقل هذا منثور وهذا منظوم.
الهوامش:
[205] هو أبو بكر بن عبد الله الثقفي الأصبهاني، وقال الذهبي في “الميزان” [4/506]: “أصبهاني غير معروف”، وانظر “تهذيب التهذيب” [12/34].
[206] الخلاصة [ص/357].
[207] تهذيب التهذيب [1/343].
[208] تهذيب التهذيب [3/146].
[209] تهذيب التهذيب [3/46].
[210] تهذيب التهذيب [7/300].
[211] تهذيب التهذيب [8/180].
[212] تهذيب التهذيب [7/186].
[213] تهذيب التهذيب [10/160].
[214] تهذيب التهذيب [10/358].
[215] تهذيب التهذيب [10/359].
[216] تهذيب التهذيب [11/116].
[217] الميزان [4/450].
[218] تهذيب التهذيب [3/145]، ثقات ابن حبان [8/231].
[219] تهذيب التهذيب [3/157].
[220] الخلاصة [ص/303].
[221] تهذيب التهذيب [8/209]، الثقات [8/492-493].
[222] تهذيب التهذيب [3/101].
[223] الكامل [3/36].
[224] تهذيب التهذيب [3/101].
[225] الحاوي للفتاوى [2/2].