الأربعاء ديسمبر 4, 2024

 (فصلٌ) في أحكام الكتابة بكسر الكاف في الأشهر وقيل بفتحها كالعَتاقة. وهيَ لغةً مأخوذةٌ من الكَتْب بمعنى الضَمِّ والجَمْع لأنَّ فيها ضمَّ نجمٍ إلى نجمٍ ولم تكن في الجاهليَّةِ. وشرعًا عَقْدُ عتقٍ معلقٍ على مالٍ مُنَجَّمٍ بوقتَين معلومَين فأكثرَ.

  والأصل فيها قبل الإجماع ءَايَةُ النُّورِ (وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ ٱلْكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) قال الشافعيُّ رحمه اللهُ أي إنْ عَلِمْتُم فيهم أمانَةً وكَسْبًا اهـ وحديثُ أبي داودَ والحاكمِ وصحَّحهُ الْمُكاتَبُ عَبْدٌ ما بَقيَ عليه دِرْهَمٌ اهـ قال الحافظُ النوويُّ في الرَّوضة حديثٌ حَسَنٌ اهـ والحاجةُ داعيةٌ إليها لأنَّ السيِّدَ قد لا تسمحُ نفسُهُ بالعتْقِ مجانًا والعبدُ قد لا يُشَمِّرُ للعملِ والكسبِ إن لم يُعَلَّقْ عتْقُهُ بالتحصيلِ والأداءِ.

  وأركانُها أربعةٌ الأولُ سيدٌ وشرطُهُ أهليةُ التبرع والاختيار والثاني مكاتَبٌ وشرطُهُ التكليف وإطلاق التصرف والاختيار والثالثُ عِوَضٌ وشرطُهُ أن يكون دَيْنًا مؤجَّلًا بَنَجْمَينِ فأكثرَ والرابعُ صيغةٌ وهي كاتبتُ وما اشْتُقَّ منه ككاتبْتُكَ على دينارين تدفعهما في شهرين دينارٍ عند رأسِ كلِّ شهرٍ فإن أدَّيْتَهُما إليَّ فأنت حرٌّ ويُشترط القبولُ فلا تصحُّ الكتابةُ بدونه وبيانُ عددِ النجوم ووقتِ كلِّ منجَّمٍ.

  (والكتابةُ) خارجةٌ عن قواعد الْمعاملات لأنها تدور بين السيد وعبدِهِ ولأنها بيعُ مالِ السيِّدِ بمالِهِ فإنَّ الرقبة له والْمالَ له وهي (مستحَبَّةٌ إذا سألها العبدُ) أو الأمةُ (وكان مأمونًا) في ما يَكْسِبُهُ بحيثُ لا يُضَيِّعُه في معصيةٍ وإن لم يكُن عدلًا في دِينِه (مكتسِبًا) أي قادرًا على الكسب بحيث يُوَفِّي بِمُؤْنَتِهِ ونُجُومِهِ وذلك لِئَلَّا يَضيعَ ما يُحَصِّلُه إن لم يكُنْ أمينًا ولأنَّه لا يُوثَقُ بتحصيلِه النُّجومَ إن لم يكُنْ مُكتسِبًا فلا يَعْتِق. فإن فُقِدَ شرطٌ مِن الثلاثةِ وهيَ السؤالُ والأمانةُ والاكتِسابُ كانت مُباحةً لأنَّ رجاءَ العتقِ لا يَقْوَى بها حينئذٍ وقال بعضُهم السؤالُ ليس قَيْدًا للاستحباب.

  (ولا تصِحُّ إلا بمالٍ معلومٍ) أو منفعةٍ معلومةٍ في الذِّمَّةِ جنسًا ونوعًا وقدرًا وصفةً لأنه عِوَضٌ في ذِمَّةِ الْمُكاتَبِ فاشْتُرِطَ فيه العلمُ بذلك كدَيْنِ السَّلَمِ سواءٌ كان نقدًا أم عَرْضًا ولا تصحُّ على عينٍ مِنَ الأعيانِ ولا على منفعةٍ مِنَ الأعيانِ لكن لكن تصحُّ على منفعةِ عينِ الْمُكاتَبِ مضمومةً غلى غيرِها ومُتَّصلةً بالعقدِ كأن يقولَ كاتبْتُكَ على أن تَخدِمَنِي شهرًا مِنَ الآنَ ودينارٍ أو على أن تَخِيطَ لِي ثوبًا بنفسِكَ ودينارٍ تأتي به بعد انقضاء الشهر أو نصفِه فلو قال كاتَبْتُكَ على خِدمَتِي شَهرينِ بحيثُ يكونُ كلُّ شهرٍ نَجْمًا مِن غيرِ ضَمِيمَةٍ إلى ذلك لم يصِحَّ وكذا لو قال على أن تَخْدِمَني شهرَ رمضانَ ودينارٍ وكانت الصيغةُ في الْمُحَرَّمِ بخلافِ الْمنفعةِ الْمتعلِّقةِ بالذِّمَّةِ لا بالعَينِ فتصِحُّ الْمكاتبةُ عليها ولا يُشترطُ فيها الاتصالُ بالعقدِ ولا أن تكونَ مع ضَمِيمةٍ كأن يقولَ له كاتَبْتُكَ على بناءِ دارَينِ مُوصوفتَين في ذِمَّتِكَ في وقتَين معلومَينِ.

  ولا بُدَّ أن يكونُ الْمالُ الْمعلومُ مؤجَّلًا لا حالًّا (إلى أجلٍ معلومٍ) ولو قصيرًا (أقلُّهُ نَجْمَانِ) كأن يقولَ كاتبتُكَ على دينارَينِ تأتي بها في ساعتَينِ منَ الآنَ بعد مُضِيِّ كلِّ ساعةٍ دينار ولا حدَّ لأكثرِها فلو كاتبَهُ على ثلاثةِ دنانيرَ يأتي بها في ثلاثةِ أشهرٍ منجمةً في ثلاثةِ أنجمٍ أو أكثرَ جازَ. ولا بُدَّ مِن بيانِ عددِ النُّجومِ وقِسْطِ كُلِّ نجمٍ منها وأن يقولَ فإذا أدَّيْتَ ذلك فأنتَ حُرٌّ أو ينويَهُ.

  (وهِيَ) أي الكتابةُ الصحيحةُ لا تنفسخُ بالجنونِ ولا بالإغماءِ ولا بالحَجْرِ سواءٌ تعلَّقَ ذلك بالسيدِ أم بالعبدِ وهي (مِن جهةِ السيدِ لازمةٌ) ليس له فَسْخُها بعد تمامِ العقدِ إلا أن يَعْجِزَ الْمكاتَبُ عند الْمَحِلِّ عن أداء النَّجم أو بعضِه الذي لا يجبُ على السيدِ إيتاؤهُ كقوله عَجَزْتُ عن أداءِ النَّجْمِ أو بعضِه كقوله عجَزْتُ عن ذلك فَلِلسَّيِّدِ حينئذٍ فسخُها لتعذُّرِ حصولِه على العِوَضِ في وقتِه فلو استمهلهُ لبيعِ عَرْضٍ أو لإحضارِ مالِه مِن دونِ مسافةِ القَصْرِ وجبَ إمهالُهُ أما لو استمهلَه لعجزِه عند الْمَحِلِّ فيُسَنُّ مساعدةً له على تحصيلِ العتْقِ ولا يجبُ. وفي معنَى العجزِ امتناعُ الْمكاتبِ من أداء النجوم مع القدرةِ عليها. وإذا حلَّ النَّجْمُ والْمكاتبُ غائبٌ أي ولو كان غيابُهُ بإذن السيدِ على ما في التحفة لتعذُّرِ الوصولِ إلى الغرضِ وكان من حقِّهِ ان يحضُرَ أو يبعثَ الْمالَ ولا فرقَ بين أن يكون للمكاتب مالٌ حاضرٌ أو لا فإنه ليس للقاضي الأداءُ منه بل يُمكَّنُ السيدُ منَ الفسخِ حالًا لأنه ربما لو حضرَ امتنع منَ الأداء أو عجَّزَ نفسَه اهـ وذهب الرمليُّ وغَيرُهُ تبعًا للبُلْقينيِّ إلى أنَّ تمكينَ السيدِ منَ الفسخِ مقيَّدٌ بما إذا لم يأذنْ له السيدُ في السفرِ أو ينظِرْهُ إلى حضورِهِ فليس له الفسخُ اهـ وهل تتقيَّد الغَيبةُ بكونها إلى مسافةِ قصرٍ بحثَ ابنُ الرفعةِ في الْمطلبِ أنَّ الأشبهَ أنها لا تتقيَّدُ بذلك بل يكفي أن تكون فوق مسافةِ العدْوَى ولو كانت دون مسافةِ القصرِ وبه أخذ الشيخُ زكريا واعتمدهُ الشَّوبِريُّ وخالفَ في ذلك الزركشِيُّ فاعتمدَ نقييدها بمسافةِ القصر كالْمالِ واستوجهَهُ ابنُ حجرٍ في التحفة واختارَهُ الشمسُ الرملِيُّ في النهايةِ أو غابَ بعد حُلُولِهِ بغيرِ إذْنِ السيدِ ولم يبعثِ الْمالَ فللسيدِ فسخُ الكتابةِ بنفسِهِ إن شاءَ وإن شاءَ بالحاكمِ. (و)أما (مِن جهةِ الْمكاتَبِ) فهيَ (جائزةٌ فله) بعدَ تمامِ عقدِ الكتابةِ بالقَبُولِ تعجيزُ نفسِهِ بقوله عَجَّزْتُ نفسِي أو بأن يَعْجِزَ عن أداء النَّجمِ أو بعضِهِ عند الْمَحِلِّ كما سبقَ فيفسَخُ السيدُ أو الحاكم مِن غيرِ شَرْطِ الفَوْرِيَّة في الفسخِ. وللمكاتَبِ (فسخُها متَى شاء) وإن كان معه ما يُوَفِّي به نجومَ الكتابة. ولا يُشتَرَطُ في الفسخِ إشهادٌ لكنَّه أحوطُ تَحَرُّزًا مِن جَحْدِ الطَّرَفِ الثاني.

  هذا في الكتابةِ الصحيحةِ أما الكتابةُ الفاسدةُ وهيَ ما اختلَّتْ صحَّتُها بفسادِ شرطٍ أو عِوَضٍ مقصودٍ كخمرٍ أو أجلٍ بأن عُقِدت بحالٍّ فجائزةٌ مِن جهة الْمكاتَبِ والسيدِ. وهيَ كالصَّحيحةِ في استقلالِ الْمُكاتَبِ بكَسْبِهِ. وهما أي الصحيحةُ والفاسدةُ عقدُ مُعاوَضَةٍ ولكنَّ الْمُغَلَّبَ في الأُولى معنَى الْمعاوضةِ وفي الثانيةِ معنَى التعليقِ أي لأنه إذا بَطَلَ حُكْمُ العِوَضِ بسببٍ من الأسبابِ بَقِيَ حُكْمُ العِتْقِ الْمُعَلَّقِ بالصفةِ فيحصلُ العتْقُ بوجودها ولذلك تختلفُ أحكامهما اختلافًا مبسوطًا في غيرِ نحوِ كتابِنا هذا. وأما الباطلةُ فهي التي اخْتَلَّتْ صحَّتُها باختلالِ ركنٍ من أركانها ككَوْنِ أحدِ العاقدَينِ صبيًّا أو مجنونًا أو مُكْرَهًا أو عُقِدَت بِعِوَضٍ غيرِ مقصودٍ كدمٍ أو بولٍ وهيَ ملغاةٌ لا يُعْتَدُّ بها في شىْءٍ منَ الأحكام. والأصلُ عندنا أنَّ الفاسدَ والباطلَ بمعنًى واحدٍ باستثناءِ مواضعً يسيرةٍ منها الكِتابةُ.

  (وللمكاتَبِ) بفتحِ الْمُثَنَّاةِ الفوقيةِ (التصرُّفُ فيما في يدِهِ مِنَ الْمالِ) الذي حصلَ له مِن كسبِهِ بنحوِ بيعٍ وشراءٍ وإيجارٍ لا بتَبَرُّعٍ أو ما فيه خطرٌ أي خوفٌ كهبةٍ وقرضٍ أو بيعِ نسيئةٍ ولو استوثقَ برهنٍ أو كفيلٍ إلَّا إذا كان ذلك بإذْنِ سيِّدِهِ وفي بعض نسخِ الْمتن (ويملِكُ الْمكاتَبُ التصرفَ فيما فيه تنميةُ الْمال) والْمعنَى أن الْمكاتب يملك بعقد الكتابة مَنَافِعَهُ وأكسابَهُ إلا أنه محجور عليه لأجل السيد في استهلاكها بغير عوضٍ كتبرعٍ فلا يجوز له ذلك بلا إذن سيده كما مرَّ شرحُهُ.

  (ويجبُ على السيّدِ) بعد صحة كتابةِ عبدِهِ وقبلَ العتْقِ (أن يضعَ) أي يحُطَّ (عنه مِن مالِ الكتابةِ) أو يدفعَ له مِن جنسِها ولو دفع له من غيرِ جنسِها جازَ إنْ رَضِيَ به الْمكاتَبُ (ما يستعينُ به على أداء نجومِ الكتابة) ولو أقلَّ مُتَمَوَّلٍ. ويقومُ مقامَ الحطِّ أن يدفع له السيدُ قبلَ العِتْقِ جزءًا معلومًا مِن جنسِ مالِ الكتابةِ ولكن الحطَ أولَى منَ الدَّفعِ لأنَّ القصدَ منَ الحَطِّ الإعانةُ على العتْقِ وهيَ مُحَقَّقَةٌ في الحطِّ موهومةٌ في الدفع.

  (ولا يَعْتِقُ) الْمكاتَبُ (إلا بأداءِ جميعِ الْمالِ) أي مالِ الكتابةِ بعد القدْرِ الْموضوع عنه مِن جهة السيد فلو لم يضع السَّيِّدُ عنِ الْمكاتَبِ شيئًا وأدَّى الثاني نجومَ الكتابةِ ما عدا القَدْرَ الذي يجبُ على السيدِ أن يُؤْتِيَهُ إيَّاه لم يَعْتِقْ كما يُفْهَمُ مِمَّا تقدَّمَ لأنَّ هذا القَدْرَ لم يسقط عنه ولا يَحْصُلُ التَّقاصُّ بمجردِ ذلك لأنَّ للسيدِ أنْ يُؤْتِيَهُ مِن غيرِ النجومِ التي دفعها وليس للسيدِ تعجيزُهُ لِعجزِه عن هذا القدْرِ لأنَّ عليه مِثْلَهُ فيرفعُه الْمُكاتَبُ غلى الحاكمِ ليحكمَ في الأمرِ ويفصِلَهُ بينهما.