(فصلٌ) في أحكام الردة. وهي أفحشُ أنواعِ الكفرِ أي أبشَعَهُ مِن جهةِ أنها خروجٌ مِنَ الحقِّ إلى الباطلِ وإنْ كانَ أشَدَّهُ وأعظمَهُ عذابًا التعطيلُ مِن أصلِيٍّ أو مرتدٍّ.
ومعناها لغةً الرجوعُ عنِ الشَّىْءِ إلى غيرِهِ وشرعًا قطعُ الإسلامِ باعتقادِ كُفْرٍ أو فعلِ كفرٍ أو قولِ كفرٍ سواءٌ صَدَرَا منه على جهةِ الاستهزاءِ أم العنادِ أم الاعتقادِ. قال التَّقِيُّ الحصنِيُّ في شرحِه على متنِ الغايةِ والتقريبِ زكلُّ نوعٍ مِن هذه الثلاثةِ فيها مسائلُ لا تكادُ تُحْصر ثم ذكرَ أمثلةً لكلِّ نوع يُعرف بها غيرُها فأما القولُ فكما إذا قال شخصٌ عن عدوِّه لو كان ربِّي ما عبدتُه فإنه يكفرُ. وكذا لو قال لو كان نبيًّا ما ءَامنتُ به. أو قال عن ولده أو زوجته هو أحبُّ إلَيَّ منَ الله. وكذا لو قال مريض بعد أن شُفِيَ لَقِيتُ في مرضِي هذا ما لو قتلتُ أبا بكر وعمرَ لم استوجبْهُ فإنه يكفر. ولو سبَّ نبيًّا من الأنبياء أو استخفَّ به فإنه يكفر بالإجماع. ولو قال شخصٌ أنا نبيٌّ وقال ءَاخَرُ صدق كَفَرَا. ولو قال لِمُسلم يا كافر بلا تأويل كفر لأنه سمَّى الإسلام كفرًا. ولو قال شخضٌ إن مات ابني تهوَّدْتُ او تَنَصَّرْتُ كفرَ في الحال. ولو ساله كافرٌ يريد الإسلام أن يُلَقِّنَه كلمةَ التوحيد فأشار عليه بأن يثبت على ما هو عليه أو قال فيما بعدُ كفرَ. ولو أشار على مسلم أن يكفرَ كفر. ولو قيل له قَلِّم أظفارك فإنه سُنَّةٌ أو قُصَّ شواربك فإنه سُنَّةٌ فقال لا أفعل وإن كان سنة استهزاءًا كفرَ. ولو سمع أذان الْمؤذن فقال إنه يكذب كفر. ولو ضرب غلامه أو ولده فقال له شخص ألستَ بمسلمٍ فقال لا متعمدًا كفرَ. وأما الكفرُ بالفعل فكالسجود للصنم والشمس والقمر وإلقاءِ الْمصحف في القاذورات والسحر الذي فيه عبادةُ الشمس أو الذبحُ للأصنام أو السجودُ للشيطان. ومَن شَدَّ على وسطه زُنَّارًا بضمِّ الزَّايِ على وزان تُفَّاح فقد قال الحنفيةُ يكفر وقال الشافعيةُ إنه لا يكفر بمجرد ذلك لكن إن شدَّه ودخل مع النصارَى مختلطًا بهم كنائسهم كفر. وكذا يكفر مَن فعل فعلًا أجمع الْمسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر وإن كان مصرِّحًا بإسلامه مع فعله كالسجود للصليب والنار. وأما الكفرُ بالاعتقاد فكثيرٌ جدًا أيضًا فمن اعتقد قِدَمَ العالَمِ بمادته وأفراده أو بمادته فقط أو نفَى ما هو ثابتٌ لله تعالى بالإجماع كصفةٍ منَ الصفات الثلاث عشرة التي أوجبَ العلماء معرفتها على كل مسلم مكلف فقد كفرَ. وكذا مَن أثبت لله ما هو منفِبٌّ عنه بالإجماع كالألوان والاتصال والانفصال. أو استحلَّ ما هو حرامٌ بالإجماع معلومٌ حُرْمَتُهُ منَ الدِّين بالضرورة. أو حرَّمَ حلالاً بالإجماع كذلك. أو أوجب ما لم يجب إجماعًا أو نفَى وجوبَ شىْءٍ مُجْمَعٍ عليه وكان عدمُ وجوبِ ما أوجبه أو زجوبُ ما لم يُوجِبْهُ معلومًا منَ الدِّين بالضرورة فإنه يكفر كما ذكر ذلك الشيخانِ فيكفر مَن استحلَّ الخمرَ أو لحمَ الخنزير أو الزنا أو اللواطَ أو أخْذَ السلطان أموال الناس ظلمًا أو الْمُكوسَ ونحوَ ذلك مِمَّا هو معلومٌ حكمُهُ في الدين بين الْمسلمين عالِمِهم وجاهِلِهِم. والرِّضا بالكفر كفرٌ. والعزمُ على الكفر كفرٌ في الحال. وكذا لو تردَّدَ هل يكفر أو لا كَفَرَ في الحال لا مجرَّدُ خُطُورِهِ ببالِه مِن غيرِ إرادةٍ. وإذا علَّق الكفرَ بأمرٍ مستقْبَلٍ كفرَ في الحال اهـ
وقد ذكرَ الفقيهُ الْمجاهدُ محمدُ بنُ جَزَيٍّ الأندلُسِيُّ رحمه اللهُ جملةً مِنَ الْمُكَفِّراتِ الْمجمَعِ عليها يحسُنُ إيرادُها هنا قال رحمه الله لا خلافَ في تكفير مَن نَفَى الرُّبُوبيَّةَ أو الوحدانيةَ أو عبدَ مع اللهِ غيرَهُ أو كانَ على دينِ اليهودِ أو النَّصارَى أو الْمجوسِ أو الصَّابِئِينَ أو قال بالحُلُولِ أو التناسخِ أو اعتقدَ أنَّ اللهَ غيرُ حيٍّ أو غيرُ عَلِيم أو نَفَى عنه صفةً مِن صفاتِهِ يريدُ بذلك صفاتِ الوجودِ والقِدَمِ والوحدانيةِ وعدمِ الْمشابهةِ للمخلوقاتِ والقيامِ بالنَّفسِ والبقاءِ والحياةِ والعِلْمِ والْمَشِيئةِ والقُدرةِ والسَّمعِ والبصرِ والكلامِ فإنَّه لا بُدَّ مِن إثباتِها للهِ تعالى مع اعتقاد أنَّ وجودَهُ عزَّ وجلَّ وبقاءَهُ وحياتَهُ وعِلْمَهُ وإرادتَهُ وقدرتَهُ وسمعَهُ وبصرَهُ وكلامَهُ أنَّ كلَّ صفةٍ منها ليست على ما نعقِلُ مِنَ الخَلْقِ أي ليست كصفاتِ الْمخلوقينَ ولا تُشْبِهُهَا مِن أيِّ وجهٍ مِنَ الوجوهِ كما قال إمامُنا الشافعيُّ رضيَ اللهُ عنه نُثْبِتُ هذِهِ الصِّفاتِ التي جَاءَ بها القرءانُ وَوَرَدَتْ بها السُّنَّةُ وَننفِي التَّشبيهَ عَنْهُ كَما نَفَى عَنْ نَفْسِهِ فقال (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ)اهـ فوجودُهُ تعالى بلا بدايةٍ ولا مكانٍ وبقاؤُهُ ليس بمرورِ زمانٍ وحياتُهُ ليست بروحٍ وعِلْمُهُ ليس بعد جهلٍ وإرادتُهُ لا يَمنعُ نفاذَها مانعٌ وقدرتُهُ لا تَقصُرُ عن شَىْءٍ وسمعُهُ بلا أُذُنٍ ولا ءَالَةٍ وبصَرُهُ بلا حدقةٍ ولا شُعاعِ ضَوءٍ وكلامُهُ بلا حرفٍ أو لغةٍ سبحانَهُ لا يعلَمُ حقيقَتَهُ ولا حقيقةَ صفاتِهِ إلَّا هُو. أي الثلاثَ عشرةَ الواجبِ معرفتُها أو قالَ صَنَعَ العالمَ غيرُه أو قال هو مُتَوَلِّدٌ مِن شَىْءٍ أو ادَّعَى مجالسةَ اللهِ حقيقةً أما لو استعملَ مِثْلَ عبارةِ الذاكرُ جليسُ الله وهو لا يفهَمُ منها حقيقةَ معناها بل يظنُّ لها معنًى صحيحًا فلا يُكَفَّرُ أو قالَ بِقِدَمِ العالَمِ أو شكَّ في ذلك كُلِّهِ أو قالَ بِنُبُوَّةِ أحدٍ بعدَ سيِّدِنا محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم أو جوَّزَ الكَذِبَ على الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ أو قالَ يتخصيصِ الرسالةِ بالعَرَبِ أي ادَّعَى أنَّ محمَّدًا عليه الصلاةُ والسلامُ مرسَلٌ إلى العربِ دونَ غيرِهِم مِنَ الأُمَمِ أو ادَّعَى أنَّهُ يُوحَى إليه أو يدخلُ الجنةَ في الدُّنيا حقيقةً قوله (أو) ادَّعَى أنَّهُ (يدخل الجنةَ في الدُّنيا حقيقةَ) أتَى بعبارةِ [حقيقةً] لِيُخْرِجَ ما لو أوردَ القائلُ عبارةً مشابهةً لِمَا ورد في حديثِ [إذا رايتُم رياضَ الجنَّةِ فارتعُوا] فإنه لا يكفرُ عندئذٍ أو كفَّرَ جميعَ الصحابةِ لأنَّ الدِّين لم يصلنا إلَّا مِن طريقِهِم فتكفيرُهم جميعًا أو تضليلُهُم كلُّهُم طعنٌ في الدِّينِ ورفعٌ للثقةِ بأحكامِهِ فيكونُ القائلُ بذلك كافرًا أو جحدَ شيئًا مِمَّا يُعْلَمُ مِن الدين ضرورةً أو سَعَى إلى الكنائسِ بِزِيِّ النصارَى أي معهم بالزِّيِّ الخاصِّ بهم كالصليبِ والزنار أو قالَ بسقوطِ العبادةِ عن بعضِ الأولياء كما زعم بعضُ ملاحدةِ الْمتصوفةِ أنَّ تمكُّنَ اليقينِ مِنَ القلبِ يرفعُ التكاليفِ قال أبو عَلِيّ بنُ البَنَّا البغداديُّ كان عندنا بسوق السلاح رجلٌ كان يقولُ القرءانُ حجابٌ والرسولُ حجابٌ ليس إلا عَبْدَ ربٍّ فافتتن جماعةٌ به فأهملوا العباداتِ واختفى مخافة القتل اهـ قلتُ وكان في زماننا رجلٌ يُقالُ له ناظمٌ القبرُصِيُّ ويُلقِّبُهُ جماعتُهُ بالحقَّانِيِّ يقولَ من جملةِ مقالاتٍ أُخرَى [يجوزُ للولِيِّ أن يَنظُرَ إلى أيِّ جزءٍ من بدنِ رجلٍ أو امرأةٍ لا يحرُمُ عليه ذلك لأنَّ نظرَهُ يُطَهِّرُ]اهـ ولِي وللهِ الحمدُ ردٌّ عليه مطبوعٌ نعودُ باللهِ مِن الخِذلانِ وحالِ أهلِ النار أو جحَدَ حرفًا فأكثرَ مِنَ القرءانِ أو زادَهُ أي عِنادًا أو غيَّرَهُ أي عنادًا أو قال القرءانُ ليس بمُعْجِزٍ أو قال الثوابُ والعقابُ مَعْنَوِيَّانِ أو قال الأئمةُ أفضلُ مِنَ الأنبياءِ اهـ كزعمِ بعضِ ملاحدةِ المتصوفةِ أنَّ الشيخَ الواصلَ الْمُرَبِّي أفضلُ مِنَ النَّبِيِّ وكزعمِ بعضِ الغلاةِ أنَّ أئمةَ أهلِ البيتِ أفضلُ مِنَ الأنبياء
(ومَن ارتَدَّ عنِ الإسلامِ) مِن رجلٍ أو امرأةٍ (اسْتُتِيبَ) وجوباً على الإمامِ في الحالِ على الأصحِّ فيهما أي في الوجوبِ والفوريةِ مقابلُهُ في الأُولى أنه تُسَنُّ الاستتابةُ وفي الثانيةِ أنه يجبُ إمهالُهُ (ثلاثًا) أي إلى ثلاثةِ أيامٍ يُنفق عليه فيها مِن مالِه (فإن تابَ) بعَودِه إلى الإسلام بأن يُقِرَّ بالشهادتين على الترتيب بأن يأتيَ بالشهادةِ على أُلُوهيَّةِ الله تعالى ووحدانيته ثم يأتيَ بالشهادةِ على حقيَّةِ بِعْثَةِ رسولِهِ صلَّى الله عليه وسلَّم (وإلا) بأن لم يَتُب الْمُرتَدُّ (قُتِل) أي قتلَهُ الإمامُ وجوبًا بضربِ عنقِهِ لا بإحراقٍ وتغريقٍ ونحوِهِما لخبرِ البخاريِّ مَن بَدَّلَ دِينَهُ فاقتُلُوه اهـ فإن قتلَهُ غيرُ الإمامِ عُزِّرَ إلا سيدَ الرقيق فيجوز له قَتْلُ رقيقِهِ الْمُرْتَدِّ (و)إذا قُتِلَ الْمرتدُّ أو ماتَ بغيرِ قتلٍ على الردَّةِ (لم يُغَسَّل) ولم يُكَفَّن أي فلا يجبانِ وإن جازا (ولم يُصَلَّ عليه) أي فلا تجوز الصلاةُ عليه كسائرِ الكفار بل مَن صلَّى عليه مع علمه بموته على الردةِ كفرَ (ولم يُدْفَن في مقابر الْمسلمين) أي يحرم دفنه في مقابر الْمسلمين لكونها موقوفةً لدفنِ مَوتَى الْمسلمين وهو خارجٌ عنهم ولا يجب دفنُهُ أصلًا كالحربيِّ ولكن يُسَنُّ أن يُفعل بهما ما يَقِي الناسَ رائحتَهما. والله تعالى أعلم.