الخميس ديسمبر 12, 2024

(فصلٌ) في أحكام الجِزْية.

  وهيَ لغةً اسمٌ لِخَراجٍ مجعولٍ على أهلِ الذِّمَّةِ سُمِّيَتْ بذلك لأنها جَزَت عن القتل أي كَفَتْ عن قتلهم في دارِنا. وشرعًا مالٌ يلتزِمُه كافرُ مخصوصٌ بعَقْدٍ مخصوصٍ. وقد تُطلَقُ على العقدِ نفسِهِ. وهيَ تُؤخَدُ مِنَ الكفار لإذلالهم ولتحملَهم على الإسلام لا سيما إذا خالوا أهلَه وعرفوا محاسنَه لا لتقريرِهِم على الكفرِ أي لا موافقةً ورضًا بالكفر منهم ولا إذنًا لهم به. وأخذُها مُغَيًّا بنزول سيدنا عيسى عليه الصلاةُ والسلام كما صحَّ في أحاديثِ عبد الرزاقِ وأحمدَ والبخاريِّ وغيرِهِم فلا جزيةَ بعد نزولِهِ بل ليس للكافرِ عندئذٍ إلَّا الإسلامُ أو القتلُ.

  والأصلُ فيها قبل الإجماع قولُه تعالى (قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍۢ وَهُمْ صَٰغِرُونَ).

  ثم إنَّ العقودَ التي تُفِيدُ الكافرَ الأمانَ ثلاثةٌ أمانٌ وهدنةٌ وجزيةٌ وذلك أنَّ التأمينَ ن تعلَّقَ بمحصورِينَ فهو الأمانُ أو بغير محصورِينَ كأهلِ إقليمٍ أو بلدٍ فإن كان إلى غايةٍ فهو الهُدنة أو لا إلى غايةٍ فالجزيةُ والأخيرانِ مختصَّانِ بالإمام بخلاف الأولِ.

  وأركانُ الجزية خمسةٌ عاقدٌ ومعقودٌ له ومكانٌ ومالٌ وصيغةٌ فالعاقدُ هو الإمامُ أو نائبُهُ الخاصُّ الذي أذِنَ له في عقد الجزية فلا يصح عقدُها مِنَ النائبِ العامِّ أي كالوزيرِ ألذي فوَّضَ إليه أمورَه فلا يعقدها إلا إن صرَّحَ له بها ولا منَ الآحاد ويُشترط في الصيغة عدمُ التعليق والتأقيت فيقول مثلًا أقرَرْتُكم بدارِ الإسلام غير الحجاز أو أذِنْتُ في إقامتكم بدار الإسلام على أن تبذلوا الجزيةَ وتنقادُوا لِحُكْمِ الإسلامِ الْمُرادُ الحكمُ الذي يعتقدون تحريمه كزِنًى وسرقةٍ دون غيرِه مِمَّا لا يعتقدون حُرمته كشربِ الخمر ونكاح الْمجوسِيِّ الْمحارمَ ويُشترطُ قَبُولُهُم لفظًا ويصح أن يبتدِئَ الكافرُ الصيغةَ كأن يقولَ للإمام أقْرِرْنِي بدار الإسلام على كذا وكذا فيقول له الإمام أقررتُك بها على كذا وكذا. وإن طلبَها الكافرُ الذي يُقِرُّ بها وجبَ على الإمام إجابتُهُ إليها إن أَمِنَّا غائلتَهُ ومَكِيدتَهُ إلا أن يكونَ أسيرًا أو جاسوسًا يُخشَى شرُّهُ فلا يجبُ ذلك.

  (وشرائطُ وجوبِ الجْزيةِ) على الْمعقودِ له (خمسُ خصالٍ) فإذا وُجِدَت هذه الشروطُ في أحدٍ وعُقدت له الجزيةُ تناول العقدُ أموالَهُ وعبيدَهُ وزوجاتِهِ وصغارَ أولادِه ومجانينَهُم وإن لم يَشرِطْ دُخُولَهُم. والْمذهبُ ثُبوتُها في حقِّ زمِنٍ وشيخٍ وهرِم وأعمًى وراهبٍ وأجيرٍ وفقيرٍ لأنها كأُجرة الدار فإذا تَمَّت السنةُ وهو معسِرٌ بقيَتْ في ذِمَّتِه حتَّى يُوسِرَ.

  أحدُ هذه الخصالِ الخمسِ (البلوغُ) فلا جزيةَ على صبِيٍّ (و)ثانيها (العقلُ) فلا جزيةَ على مجنونٍ أطبَقَ جنونُه فإن تقطَّعَ جنونُه قليلًا كساعةٍ مِن شهرٍ لزِمَتْهُ الجزيةُ أو كثيرًا كيومٍ يُجَنُّ فيه ويوم يُفيق فيه لُفِّقَت أيامُ الإفاقة فإن بلغت سنةً وجبت جزيتُها (و)ثالثُها (الحريَّةُ) الكاملةُ فلا جزيةَ على رقيقٍ إجماعًا ولا على سَيِّدِهِ عنه كذلك والْمكاتَبُ والْمُدَبَّرُ والْمُبَعَّضُ كالقِنِّ (و)رابعُها (الذُّكُورية) يقينًا فلا جزيةَ على امرأةٍ وخنثَى (و)خامسُها (أن يكون) الذي تُعقد له الجِزية (مِن أهلِ الكتابِ) اليهودِ والنَّصارَى الذين عَلم دخولُ أوَّلِ ءَابَائِهِم في دِينِهِم قبل النسخِ ولو بعد التبديلِ فلا يُقَرُّ بالجزية مَن تهوَّدَ بعد بعثة عيسى أو تنصَّرَ بعد سيدنا محمَّدٍ عليه وعلى سائر الأنبياءِ الصلاةُ والسلامُ فإن شكَكْنا في وقت تَهَوُّدِه أو تَنَصُّرِه فلم يُعرَف أدَخَلَ في ذلك الدين قبل النسخ أو بعدَهُ عُقِدَت له تغليبًا لِحَقْنِ الدِّماء (أو مِمَّنْ له شبهةُ كتابٍ) كالْمجوس فتُعقَدُ لِزَاعِمِ التمسك بصحف إبراهيمَ الْمنزلةِ عليه أو بزبورِ داودَ الْمنزَلِ عليه. وكذا تُعْقَدُ لِمَنْ أحدُ أبوَيهِ وَثَنِيٌّ والآخرُ كتابِيٌّ غلا أن يختارَ غيرَ دينِ الكتابيِّ. وأما السامِرةُ فإن لم يخالفوا اليهودَ في اصل دينهم وهو نبيُّهُم وكتابُهُم عُقِدَت لهُم الجزية ولو خالفوهم في الفروع وإلا فلا تُعقد لهم وكذلك الصابئةُ فإن لم يخالفوا النَّصارَى في ذلك عُقِدَت لهم الجزيةُ فلو اشكل أمرُهُم عُقِدَت لهم تغليبًا لحقنِ الدماء.

  وأما الْمكانُ فهو دارُنا ما عدا الحجازَ وهو اليمامةُ مدينةٌ إلى ناحيةِ اليمنِ بينَها وبينَ مكةَ أربعُ مراحلَ ومكةُ والمدينةُ وما يُنْسَبُ إليهما مِن قُرًى كجُدَّةَ ويَنْبُعَ وخيبرَ والطائفِ ومِن جبالٍ وطرقٍ مُمْتَدَّةٍ فيُمْنَعُ الذِّمِّيُّ الإقامةَ به كما يُمْنَعُ مِن دخوله إلا بإذنِ الإمام ولا يُؤْذَنُ له في الدخول إلا لمصلحةٍ نعم لا يَأذَنُ الإمامُ له في دخولِ حرمِ مكةَ ولو لِمَنْفعةٍ وذلك لأنهم أخرجوا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم منه فَعُوقِبُوا بالْمَنْعِ مِن دخولِهِ بكلِّ حالٍ.

  (وأقلُّ) ما يجب في (الجزية) على كلِّ كافرٍ فقيرٍ أو غنِيٍّ حالَ قُوَّتِنا (دينارٌ في كلِّ حولٍ) وتجوزُ بأقلَّ في حالِ ضعفنا ولا حدَّ لأكثرِها ولا تُعْقَدُ على ما قيمتُهُ دينارٌ فإنَّ قيمتَهُ قد تنقصُ عن ذلك في خلالِ العامِ أو ءَاخِرِهِ عند الدفعِ ولكن تُعقَدُ عليه ثم يأخذُ الإمامُ قيمتَهُ إن رأَى ذلك. (و)يُسَنُّ للإمام أن يُمَاكِسَ مَن عُقِدَت له الجزيةُ أي أن يشاحِحَهُم فيطلبَ منهم الزيادةَ على الدينار كأن (يُؤخَذَ مِنَ الْمتوسطِ) الحالِ (دينارانِ ومنَ الْمُوسِر أربعةُ دنانير استحبابًا) إن لم يكن كلٌّ منهما سفيهًا فإن كان سفيهًا لم يُمَاكِسِ الإمامُ وليَّهُ. ومتى أمكنه أن يعقِد بأكثرَ مِن دينار لم يجز أن يعقد بما دون ذلك إلا لِمَصلحةٍ لأنه متصرِّفٌ للمسلمين فلا يتصرفُ لهم إلا بالْمصلحة فإن أبَوْا عَقْدَها غلا بدينارٍ أُجِيبوا لأنه الواجبُ. ثم إن عقد الإمام على الأشخاص بأن قال مثلًا أنت متوسط فآخذ منك دينارَين ولآخَرَ أنت موسرٌ فلا أعقِدُ لك غلا بأربعةِ دنانيرَ وجب على الذِّمِّيِّ دفعُ القدر الذي عُقِد عليه وإن افتقرَ بعد ذلك وعجز عنه فيصيرُ دينًا في ذِمَّته وأما إن عقَدَ الإمامُ على الأوصاف بأن قال للكفار عقدتُ لكم الجزيةَ على أنَّ الْمتوسطَ عليه ديناران والْموسِرَ عليه أربعةُ دنانيرَ فيُعتَبَرُ التوسُّطُ واليسارُ بآخر الحول حينئذٍ.

  (ويجوزُ) أي يُسَنُّ للإمام إذا صالح الكفار في بلدِهِم لا في دار الإسلام (أن يَشترطَ عليهم) أي على غير فقرائِهِم مِن مُوسِرٍ ومتوسِّطٍ (الضيافةَ) لِمَنْ يمر بهم منَ الْمسلمين الْمجاهدين وغيرِهم ثلاثةَ ايام فأقلَّ (فضلًا) أي زيادةً (عن مقدارِ) أقلِّ (الجزية) الذي هو دينارٌ كلَّ سنةٍ إن رضُوا بالضيافة.

  (ويَتضمنُ) أي يستلزمُ (عقدُ الجزية) بعد صحتِهِ (أربعةَ أشياء) أحدُها (أن يؤدوا الجزية) وتُؤخذ منهم برفقٍ كما قال الجمهورُ لا على وجهِ الإهانةِ وأمَّا الصِّغارُ فهو حاصبٌ لهم بجريانِ أحكامِ الإسلامِ عليهم مع عدمِ اعتقادِهم لَهَا (و)الثاني (أن تَجْرِيَ عليهم أحكامُ الإسلام) فَيَضمنون ما يُتلفونه على الْمسلمين من نفسٍ ومالٍ كما نضمنُ ما نتلفهُ عليهم من نفس ومال وإن فعلوا ما يعتقدون تحريمَه كالزِّنا والسَّرقة أُقِيم عليهِمُ الحدُّ بخلافِ ما لا يَعتقدون حُرمَتَه كشربِ الخمرِ ولا نُتْلِفُ خمورَهم إلا إذا أظهروها فمن أتلفَها من غير إظهار عصَى ولا ضمانَ عليه إذ لا قيموَ لَهَا (و)الثالثُ (أن لا يَذكروا دينَ الإسلامِ إلا بخيرٍ) فَمَتَى طعَنُوا في الإسلامِ أو القرءانِ بما لا يَدينون به انتقضَ عهدُهُم إن شُرِطَ الانتقاضُ بذلك وإلا فلا لكنهم يُمنعون من إظهار ذلك بيننا فإن أظهروه عُزِّرُوا (و)الرابعُ (أن لا يفعلوا ما فيه ضررٌ على الْمسلمين) فإن فعلوا ذلك كأن قاتلوهم بلا شبهةٍ أو امتنعوا مِن أداء الجزية أو مِن إجراء أحكام الإسلام عليهم أو ءَوَوْا من يطَّلع على عوراتِ الْمسلمين وينقلُها إلى دار الحرب أو دَلُّوا هُم أهلَ الحرب على عورةٍ لنا أو دَعَوا مسلمًا للكفر انتقضَ عهدُهم بذلك وكذلك ما لو زنا أحدُهم بمسلمة ولو بصورةِ نكاحٍ أو قتل مسلمًا أو قذفَهُ ويُقام عليه مُوجَبُ ما فعلَه من حدٍّ أو تعزير. ومن انتقض أمانُه لم ينتقض أمانُ ذَرَارِيِّهِ.

  ويلزمُ الْمسلمين بعد عقد الذِّمَّةِ الصحيحِ الكفُّ عنهم نفسًا ومالًا وما يُقَرُّون عليه كخمر وخنزير لم يظهروهما لِمَا رواه أبو داود عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ألا مَنْ ظَلَمَ مُعاهَدًا أو انتقَصَهُ أو كَلَّفَهُ فوقَ طاقَتهِ أو أخَذَ منه شيئًا بغيرِ طيبِ نفسٍ فأنا حَجِيجُه يومَ القيامة اهـ

  وإن كانوا في بلدنا أو بلدٍ مجاورٍ لنا لَزِمَنا دَفْعُ أهلِ الحربِ عنهم وكذا إن كانوا بدارِ حربٍ فيها مسلمٌ أو شُرِطَ الدفعُ عنها فيلزمُنا الدفع عنهم في ذلك كله بخلاف ما لو كانوا بدار حربٍ لم تكن بجوارنا وليس بها مسلمٌ ولم يُشْرَط الدفعُ عنهم إذا لا يَلزمُنا الدفعُ عنها.

  (ويُعْرَفُونَ) قال الغزيُّ (وقول الْمصنف يُعْرَفُونَ عبَّرَ به النوويُّ أيضًا في الروضة تبعًا لأصلِها) اهـ قلتُ وليس في ما بين أيدينا مِن نسخِ الروضةِ ذلك اهـ أي يَتميزون عنِ الْمسلمين وإن لم يُشرط عليهم في عقد الجزية (بِلُبْسِ الغِيارِ) بكسر الغين الْمعجمة وهو تغييرُ اللباسِ بأن يَخِيطَ الذِّمِّيُّ على ثوبه شيئًا يخالف لونَ ثوبِه ويكونُ ذلك على الكَتِفِ والأولى باليهوديِّ الأصفرُ وبالنصرانيِّ الأزرقُ أو الأكهبُ أي الرمادِيُّ وبالْمجوسيِّ الأسودُ والأحمرُ ومَن لبس منهم قَلَنسوةً مَيَّزَها عن قلانِسِنا بعلامةٍ فيها. ومُقتَضَى كلامِ الجمهورِ وجوبُ أخذِهِم بلُبْسِ الغِيارِ. وفي نسخِ الْمتن يُؤخَذُونَ بدلَ يُعْرَفونَ وهيَ عبارةُ النوويِّ رحمه الله.

  (و)يكفي عنِ الغِيار (شَدُّ الزُّنَّار) وهو بزايٍ معجمة خيطٌ غليظٌ يُشَدُّ في الوسط فوق الثياب ولا يَكْفِي جعلُهُ تحتها حتَّى إنَّ الْمرأة وإن كانت تَشُدُّهُ تحت الإزار إلَّا أنَّها تُظْهِرُ شيئًا منه ويَستوِي فيه سائرُ الألوان. وظاهرُ عبارة الْمصنف أنهم يُؤمَرُونَ بالزُّنار مع الغيار وليس ذلك واجبًا بل هو للتأكيدِ والْمبالغةِ في الشهرةِ والتمييزِ ويُكْتَفَى بأحدهما كما تقدَّمَ.

  ويُمْنَعُونَ في بلادنا من ركوب الخيل النفيسة وغيرها ولا يمنعون من ركوب الحمير ولو كانت نفيسةً كما يُمنعون مِن إسماعِهِم الْمسلمين قولَ الشِّرْكِ كقولِهِم اللهُ ثالثُ ثلاثةٍ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. ويحرُمُ تصديرُهُم لمجلسٍ فيه مسلمٌ ويحرمُ توقيرُهُم وتحرمُ مودَّتُهم.

  ويجوزُ للإمام أن يجعل عليهم عريفًا مسلمًا ليعرِّفَه بمن مات منهم أو أسلمَ أو بلغَ ويُشترطُ إسلامُه لأنَّ الكافرَ لا يعتمَدُ خبرُه كما يجوز أن يجعل عليهم عريفًا بَحْصُرُهم لِيُؤَدُّوا الجزية ويشتَكُوا إلى الإمام مِمَّن يتعدَّى عليهم ويصِحُّ كونُه كافرًا.

    واللهُ تعالى أعلم.