الخميس ديسمبر 12, 2024

  (فصلٌ) في أحكام الإقرار وهو لغةً الإثباتُ وشرعًا إخبارٌ بحقٍّ على الْمُقِرِّ فخرجَتِ الشهادةُ لأنها إخبارٌ بحقٍّ للغير على الغير والدَّعوَى لأنها إخبارٌ بحقٍّ للْمُخبِر على غيره.

  والأصلُ فيه قبلَ الإجماعِ ءَاياتٌ وأحاديثُ كقوله تعالى في سورةِ النساءِ (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ) وكخبرِ البخارِيِّ وغيرِهِ واغْدُ يا أُنَيْسُ على امرأةِ هذا فإن اعترفَتْ فارجُمْها اهـ  وأركانُهُ أربعةٌ مُقِرٌّ ومُقَرٌّ له ومُقَرٌّ به وصيغةٌ.

  (والْمُقَرُّ به ضربانِ) أحدُهما (حقُّ الله تعالى) كحدِّ السرقةِ قوله (كحدِّ السرقة) أي فالذي يصحُّ الرجوعُ فيه هو حقُّ القطعِ لأنه متمحِّضٌ لله تعالى وأما حقُّ المالِ فلا يصِحُّ الرجوعُ فيه. والزِّنَى وشربِ الخمر (و)الثاني (حقُّ الآدمِيِّ) وهو قسمان مالٌ كعينٍ مغصوبةٍ وعقوبةٌ كحدِّ القذفِ لشخصٍ (فحقُّ اللهِ تعالى يَصِحُّ الرجوعُ فيه عنِ الإقرارِ به) لأنَّ مَبْنَاهُ على الدَّرْءِ والسترِ كأن يقول مَنْ أَقَرَّ بالزِّنَى رجعتُ عن هذا الإقرار أو كذبْتُ فيه ويدلُّ له قصة ماعِزٍ التي أخرجها البخاريُّ وغيرُهُ لَمَّا قال له النبيُّ عليه الصلاة والسلام معرِّضًا له بالرجوع لعلَّكَ قَبَّلْتَ لعلَّكَ لَمَسْتَ اهـ ومِن هنا سُنَّ للمقِرِّ بالزِّنَى الرجوعُ عنه. (وحقُّ الآدمِيِّ لا يصحُّ الرجوعُ فيه عن الإقرار به) لأنَّ مبناه على الْمُشَاحَّةِ قوله (المشاحة) الضِّهنَةُ أي المنازعةُ يُقالُ تشاحَّا على الأمرِ أي تنازعا فيه يَضَنُّ كلٌّ منهما به. فلا يُعتبر إنكارُه بعد إقرارِه فلو أقرَّ لزيدٍ عليه بألفٍ ثم قال ليس له عَلَيَّ شَىءٌ أو له عَلَيَّ خَمْسُمِائَةٍ لم يصحَّ رجوعُه لكن إذا كذَّبَهُ الْمقَرُّ له فيما أقرَّ به لم يثبت إقرارُهُ عندئِذٍ لأنَّ إقرارَ الْمُقِرِّ دليلُ لزوم الْمُقَرِّ به وتكذيبَ الْمَقَرِّ له دليلُ عدم اللزوم فلم يُعرَفْ ثبوتُ اللزومِ فلا يثبت مع الشك.

  (وتفتقِرُ صِحَّةُ الإقرارِ إلى ثلاثةِ شروطٍ) في الْمُقِرِّ أحدُها (البلوغُ) فلا يصِحُّ إقرارُ الصبيِّ ولو مراهقًا بإذن وليِّهِ.              (و)الثاني (العقلُ) فلا يصِحُّ إقرارُ المجنون والْمُغْمَى عليه ومثلُهُ زائلُ العقل بما يُعْذَرُ فيه فإن لم يُعْذَرْ فحكمُه كالسَّكرانِ الْمُتَعدِّي بسُكْرِهِ فيُقْبَلُ إقرارُه تغليظًا عليه. (و)الثالثُ (الاختيارُ) فلا يصِحُّ إقرارُ مَن أُكرِهَ عليه بغيرِ حقٍّ كما في سائر عقودِهِ. (وإن كان) الإقرارُ (بمالٍ اعتُبِرَ فيه شرطٌ رابعٌ وهو الرُّشْدُ) أي عدمُ الحجرِ عليه ويَجمعُ هذه الشروطَ قولُك أن يكون الْمُقِرُّ مكلقَ التصرُّفِ ولكِن المصنفُ فَصَّلَها إيضاحًا وتسهيلًا على المبتدئِ. واحترَزَ بمالٍ عن الإقرار بغيرِه كطلاقٍ وظهارٍ ونحوِهما فلا يُشترط في الْمقِرِّ بذلك الرُّشْدُ بل يصِحُّ مِنَ الشخصِ السَّفيهِ كما هو ظاهرٌ ولو بجنايةٍ وقعت منه حال صباهُ أو جنونه.

  ويصِحُّ أن يُقِرَّ للعبدِ وللمحجورِ عليه ولِمَن في بطنِ المرأةِ ولا يصِحُّ الإقرارُ لدابَّةٍ ولا لدار.

  (وإذا أقرَّ) الشخصُ (بمجهولٍ) مِن كلِّ الوجوهِ كقوله لفلانٍ عَلَيَّ شَىءٌ أو مالٌ قليلٌ أو وسطٌ أو كثيرٌ (رُجِعَ) بضمِّ   أوَّلِهِ (إليه) أي الْمُقِرِّ (في بيانِه) أي تفسيرِه ويُقْبَلُ منه مع يمينِهِ بكلِّ ما يُتَمَوَّل لأنَّ اسمَ الشَّىءِ صادقٌ عليه وإنْ قَلَّ كفَلْسٍ فإنَّ متاعَ الدنيا مهما عظمَ قليلٌ. ولو فسَّرَه بما لا يُتَمَوَّلُ لكن من جنسِه كحبةِ حنطة أو ليس من جنسه لكن يحلُّ اقتناؤُه كجلدِ ميتة وكلبٍ مُعُلَّمٍ وزِبْل قُبِلَ تفسيرُهُ في جميعِ ذلك على الأصحِّ لأنه يحرم أخذُهُ ويجب ردُّه على مَن غَصَبَهُ. ولا يُقبلُ تفسيرُه بما لا يُقتَنَى كخمزيرٍ وكلبٍ لا ينفعُ في نحوِ صيدٍ لأن قوله عَلَيَّ يقتصِي ثبوتَ حقٍّ على الْمقِرِّ له وما لا يُقْتَنَى ليس فيه حقٌّ ولا اختصاصٌ. فإن امتنعَ منَ البيان بعد أن طُولِبَ به حُبِسَ حتى يُبَيِّنَ وإن مات قَبْلَ البيان طُولِبَ به الوارثُ ووُقِفَتِ التركةُ جميعُها إلى البيانِ.

  (ويَصِحُّ الاستثناءُ في الإقرارِ إذا) وُجِدَتْ شروطُ الاستثناءِ المعروفةِ في مَحَالِّهَا بأن (وصلَه) أي المستثنَى (به) بالمستثنَى منه فإن فصلَ بينهما بسكوتٍ طويلٍ أو كلامٍ أجنبيٍّ ضَرَّ أما السكوتُ اليسيرُ كسكتةِ التَّنَفُّسِ فلا يَضُرُّ. وأن لا يَستغرقَ الْمُستثنَى منه فإن استغرقَهُ نحوُ لزيدٍ عَلَيَّ عشرةٌ إلا عشرةً ضَرَّ.

  (وهو) أي الإقرارُ (في حال الصحة والمرضِ) ولو مُخُوفًا (سواءٌ) لأنَّ هذا الحالُ يصدُقُ فيه الكذوبُ ويتوبُ الفاجرُ فالظاهرُ صِدقُهُ فلو أقرَّ شخصٌ في صِحَّتِهِ بدينٍ لزيدٍ وفي مرضِهِ بدينٍ لعمروٍ لم يُقَدَّم الإقرارُ الأولُ على الثاني بل إن اتَّسَعَ المالُ لقضائهما قُضِيَا أو لم يتَّسِع قُسِمَ بينهما بالحِصَص قال الغزيُّ هنا (فحينئذٍ يقسم المقرّ بينهما بالسوية) وقد علمتَ أنَّ القسمةَ على الحصصِ وقد لا تكونُ متساويةً ولعلَّ مرادَهُ أنه لا يقدم إقرار الصحة على إقرار المرض وعلى كلٍّ فما أُثْبِتَ في الْمتمِّمةِ واضحٌ بخلافِ قولِ الغزِّيِّ فإنَّ أقلَّ ما يُقالُ فيه إنه مُوهِمٌ.