(فصلٌ) في أحكامِ قَطْعِ السرقةِ.
وهي لغةً أخذُ مالِ الغيرِ ونحوِه كاختصاصٍ خُفْيَةً وشرعًا أخذُه خُفيةً ظُلمًا مِن حِرْزِ مثلِه. وخرجَ بما تقدم النَّهْبُ أي أخذُ الْمال جَهْرَةً اعتمادًا على القوة والشدة والاختلاسُ وهو أخذ الْ/ال جهرةً اعتمادًا على الهرب وجحدُ نحوِ وَدِيعةٍ وعارِيَّةٍ فلا قطعَ على الْمنتهب والْمختلس والخائن الْمذكُورِين.
والأصلُ في القطع قبل الإجماع قولُهُ تعالى في سورة الْمائدة (وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوٓاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءًۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلًا مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وأحاديثُ كثيرةٌ كحديث الشيخين مرفوعًا أنه لا تُقطع يدُ سارقٍ إلا في ربع دينار فصاعدًا اهـ
(وتُقْطَعُ يدُ السارقِ) أو رِجلُهُ على ما سيأتي إن شاء الله ذكرًا كان أو أنثى حُرَّا أو رقيقًا (بثلاثةِ شرائطَ) وفي بعض النسخ (بستةِ شرائطَ) وكان ينبغي أن يقولَ بثلاثِ وبستِّ لأنَّ مفردَهُ وهو شريطةٌ مؤنَّثٌ والاختلافُ في كيفيةِ العَدِّ فشرطُ القطعِ بالنظرِ للسارقِ وهو (أن يكونَ) أي السارقُ (بالغاً عاقلًا) مختارًا عالِمًا بالتحريمِ أي فحيثُ ادَّعَى جهلَهُ به واحتملَ ذلك لم يُقطعْ دَرْءًا للحدِّ بالشُّبهةِ الْممكنة غيرَ مأذونٍ له أي منَ الْمالكِ في أخذِ الْمسروقِ فلو ادَّعَى السارقُ أنَّ الْمالكَ أذنَ له في أخذِهِ لم يُقطَعْ وكذا لا قطعَ لو أُذِنَ له في دخولِ الحِرزِ لأنه صار غيرَ مُحرَزٍ عنه ملتزمًا للأحكام فلا قطعَ على صبيٍّ ومجنونٍ ومكرَهٍ وحربيٍّ ومعاهَدٍ ومؤَمَّنٍ فهيَ ستةُ شروطٍ.
(و)أمَّا بالنظر للمسروق فالشرطُ الأولُ (أن يسرق نصابًا قيمتُه) يومَ سرقتِهِ (ربعُ دينارٍ) فصاعدًا فإن كانَ الْمسروقُ ذهبًا مضروبًا نُظِرَ إلى الوزنِ فشُرِطَ للقطعِ أن يسرقَ ربعَ دينار خالصًا مضروبًا أو مغشوشًا يبلغُ خالصُهُ ربعَ دينار وإن كانَ ذهبًا غيرَ مضروبٍ فالعبرةُ فيه بالوزن والقيمة معًا فيُشترط للقطع به أن يبلغ كلٌّ مِن وزنِهِ وقيمتِهِ ربعَ دينار فأكثر وأما في غير الذهب فتُعْتَبَرُ القيمةُ فقط فلو سرقَ ما قيمتُهُ ربعَ دينار فأكثرَ مِن فضة أو غيرِها ففيه القطعُ ولو لم يبلغ من حيثُ الوزنُ ربعَ دينارٍ.
والشرطُ الثاني أن يُسْرَقَ النصابُ (مِن حرزِ مِثْلِهِ) والحكمُ في حرزِ الْمثلِ يرجع إلى العُرف وذلك يختلف باختلاف الأموال والأحوال والأوقاتِ فعرصَةُ الدار وصُفَّتُها حرزُ خسيسِ ءَانِيةٍ وثياب وبيونُ الدُّور والخاناتِ والأسواقِ المنيعةُ حرزُ نفيسِهما ومخزنٌ كخزانةٍ وصندوقٍ حرزُ حُلِيٍّ ونقد ونحوِهما فإن كان الْمالُ بصحراءَ أو مسجدٍ أو شارعٍ اشتُرِطَ في إحرازِه دوامُ اللِّحاظِ فلو وضعَ الْمَتاع بقربه بصحراءَ مثلًا ولاحظَهُ بنظرِهِ دائمًا إلَّا في فتراتٍ عارضةٍ له قوله (إلا في فتراتٍ عارضةٍ) هذا ظاهرُ عبارةِ الْمنهاجِ وهو الذي في التحفةِ والنهايةِ وأمَّا الذي في الغزِّيِّ فهو (ولاحظه بنظره وقتًا فوقتًا إلـخ) وهو مخالفٌ لِمَا قَرَّرُوهُ وقتًا فوقتًا ولم يكن هناك ازدحامُ طارِقِينَ فهو مُحْرَزٌ وإلا فلا وإن كان بحصنٍ كبيتٍ كَفَى لِحَاظٌ معتادٌ في مثله. وشَرْطُ الْمُلاحِظ قُدْرَتُهُ على منعِ السارقِ بقوةٍ أو استغاثةٍ.
والشرطُ الثالثُ كونُ الْمسروقِ (لا مِلْكَ له) أي للسارقِ (فيه) فلا يُقطع بسرقةِ مالِه الذي بيد غيره مثلًا ولو مرهونًا أو مؤجَّرًا أو مُستعارًا. ولا قطعَ في سرقةِ ما ادَّعَى أنه مِلكُهُ أي فَيَسْقُطُ القطعُ عنه بذلك بهذِهِ الدَّعوَى إذا كانت قبل الرفعِ غلى القاضي وأما بعدَهُ ولو قبل الثبوتِ فإنها لا تُسقِطُ القطعَ. ذكرَهُ القليوبيُّ في حاشيةِ تحفة المحتاج كما نُقِلَ عن نصِّ الشافعيِّ رضي الله عنه وكذا لو ادَّعَى أنه ملكُ أصلِهِ أو سيِّدِهِ.
(و)الشرطُ الرابعُ أن (لا) تكونَ (شبهة له) أي للسارقِ (في مالِ الْمسروقِ منه) كما لو سرقَ ما وُهِبَ له قبلَ قَبْضِه وكما لو سرق مالًا له فيه شركةٌ فلا يٌقطع لأن له في كل جزء منه حقًّا. ولا قطعَ بسرقةِ مالِ أصلِهِ أو فرعِهِ لِمَا بينهم مِنَ الاتحادِ ولا بسرقىِ رقيقٍ مالَ سيِّدِه لشبهةِ استحقاقِ النَّفَقة. ولا قطعَ لمسلمٍ بسرقة مال الْمصالح مِن بيت الْمال ولو كان غنيًّا بخلافِ الذِّمِّيِّ فيُقطَعُ به. ولا يُقطعُ مسلمٌ بسرقة ما يُفرش في الْمسجد كالحصير والبُسطِ ولا بسرقة قناديله الْمُعَدَّةِ للسِّراجِ لأن ذلك كلَّهُ لمصلحةِ الْمسلمين وهو منهم بخلافِ ما أُعِدَّ مِن حصرٍ وبسطٍ وقناديلَ للزينةِ فإنه يُقطَعُ بها.
ويُقطَع مسلمٌ بمالِ ذِمِّيٍّ وعكسُهُ.
(وتُقْطَعُ) مِنَ السارق (يدُهُ اليُمْنَى مِن مِفْصَلِ الكوعِ) بالإجماع كما نقلَهُ الْماوردِيُّ وغيره ويكونُ ذلك بعد خلعها منه بحبلٍ يُجَرُّ بعنفٍ وإنما تُقطَعُ بعدَ طلبِ الْمالكِ أو نائبِهِ للمالِ وثبوتِ السرقة بشهادة رجلين لا رجل وامرأتين أو بالإقرار ويُشترط التفصيل في كل من الشهادة والإقرار فيُبَيِّن السرقةَ والْمسروقَ منه وقدرَ الْمسروق والحْرْزَ بتعيينٍ ووصْفٍ لِئَلَّا يظنَّ أنَّ سرقتَهُ موجبةٌ للقَطْعِ ويَتَّفِقُ أنها غيرُ مُوجِبَة. ويُقْبَل رجوعُه عن الإقرار بالسرقة بالنسبة للقطع فيُعفى منه ولو في أثنائه لا بالنسبة للمال لأنَّ القطعَ عقوبةٌ لله فيُقبَلُ فيها الرُّجوع. ويُغْمَسُ محلُّ القَطْعِ بزَيْتٍ أو دُهْنٍ مُغْلًى وهو حقٌّ للمقطوع الحَضَرِيِّ وأما البدويُّ فيُحْسَمُ بالنار. (فإن سرقَ ثانيًا) وقد قُطعت يدُه اليُمنَى (قُطِعَتْ رجلُهُ اليُسرَى) بعد اندمالِ جرحِ يدِهِ بحديدةٍ ماضيةٍ دَفعةً واحدةً بعد خلعها مِنَ الكعبين (فإن سرقَ ثالثًا) وقد قُطِعَت رجلُه اليُسرى واندملَ جرحُها (قُطِعَت يدُه اليُسرَى) بعد خلعها (فإن سرق رابعًا) وقد قُطعت يدُه اليُسرَى واندملَ جرحُها (قُطِعَت رجلُه اليُمنَى) بعد خلعها (فإن سرق بعد ذلك) برأسِهِ أو بفمِهِ أو غيرِ ذلك وقد قُطِعَت رجلُهُ اليُمنَى (عُزِّر) بما يراه الحاكمُ (وقيل يُقتلُ) لحديثٍ رُوِيَ في ذلك وقد قال الشافعيُّ هذا الحديث منسوخٌ لا خلاف فيه عند أهل العلم اهـ فالْمعتمدُ التعزيرُ. وما زادَهُ أبو شجاعٍ رحمه الله من قولِهِ (صبرًا) أي بأن يُحبس ساعةً قبل قتلِهِ لا يُعؤَفُ عمَّنْ تقدَّمَهُ بل قال بعضُ الشُّرَّاحِ لم أرَهُ بعد التَّتَبُّعِ الكثيرِ في كلامِ واحدٍ منَ الأئمةِ الحاكين له أي لهذا القولِ الْمرجوحِ بل أطلَقه من وقفتُ على كلامه منهم فلعلَّ تَقْييدَ المصنفِ به مِن تَصَرُّفه أو له فيه سلَفٌ لم أظفَرْ به اهـ والله أعلم.