(فصلٌ) في أحكامِ الوَقْفِ.
وهو لغةً الحَبْسُ والتسبيلُ. وشرعًا حَبْسُ مالٍ معيَّنٍ قابلٍ للنَّقلِ قوله (قابل للنقل) أي مِن ملكِ شخصٍ إلى ملك شخصٍ ءَاخَر. يُمكن الانتفاعُ به قوله (يمكن الانتفاع به) أي حالًا أو مآلًا ولو مشاعًا كوقفِ حلِيٍّ للُّبسِ ومسكٍ للشَّمِّ وشجرٍ لرَيْعِهِ وجحشٍ صغيرٍ وأثاثِ بيتٍ ونصفِ عبدٍ. مع بقاءِ عينِهِ مقطوعِ التصرُّفِ في رقبتِهِ قوله (مقطوعِ التصرُّف في رقبته) أي فهو عطيةٌ مؤبَّدةٌ إذا صحَّ لم يجُزْ لواقفِهِ بيعُهُ بعد ذلك ولا هبتُهُ ولا للورثِة اقتسامُهُ مع التركةِ وإنما يُتَصَرَّفُ فيه أبدًا على حسبِ ما شرط فيه الواقفُ. على مصرِفٍ مُباحٍ قوله (على مصرِفٍ مباحٍ) فلا يَصِحُّ أن يكونَ مَصْرِفُهُ حربيًا أو مرتدًا أو قاطعَ طريقِ أو كنيسةَ تعبُّدٍ أو معصيةً أخرى، ويصِحُّ على الفقراءِ والعلماءِ والمجاهدينَ والأرقَّاءِ على خدمةِ الكعبةِ والقبرِ النبويِّ ونحوِهِما وكذا على المساجدِ والكعبةِ والقناطرِ والمدارسِ وعلى علفِ الدوابِّ في سبيلِ الله فإنَّهُ وإن كان المسجدُ والكعبةُ وما ذُكِرَ معهما على الحقيقةِ وقفٌ على كافَّةِ المسلمينَ وإنما عيَّنَ مَصرِفَهُ في هذه الجهةِ فصارَ مملوكًا مصروفًا في هذه الجهةِ في مصالِحِهِم. بقصدِ التَّقَرُّبِ إلى الله. فهو قُرْبةٌ مندوبٌ إليها.
والأصلُ فيه خبرُ مسلمٍ إذا مات ابنُ ءَادَمَ انقطعَ عملُهُ إلا من ثلاثٍ إلا من صدقٍ جاريةٍ أو علمٍ يُنتفعُ به أو ولدٍ صالحٍ يدعو له اهـ وما عند الشيخينِ من قولِهِ عليه الصلاة والسلام لسيدِنا عمرَ في أرضٍ اصابها بخيبر إن شئتَ حبَسْتَ أصلها وتصدَّقتَ بها فتصدَّقَ بها عمرُ على أنه لا يُباعُ أصلُها ولا يُوهَبُ ولا يُورَثُ اهـ قال الزركشِيُّ والمشهورُ أنه أولُ وقفٍ في الإسلام اهـ
وأركانُهُ أربعةٌ واقفٌ وموقوفٌ وموقوفٌ عليه وصيغةٌ. وشرط الواقفِ صحةُ عبارتِهِ وأهليةُ التبرعِ ولو كافرًا وقفَ مسجدًا. وشرطُ الموقوفِ أن يكونَ عينًا معيَّنةً لا في الذِّمَّةِ يُمكِنُ للواقفِ تَمَلُّكُهُ فلا يصِحُّ وقفْتُ فرسًا أو عبدًا لكونه في الذِّمةِ ولا كلبًا أو حُرًّا لكونِ كلٍّ لا يُتملَّكُ. ويُشترط في الموقوفِ عليه أن يصِحَّ تملُّكُهُ بأن يكونَ الموقوفُ عليه موجودًا حالَ الوقفِ أهلًا لتملُّكِ الموقوفِ منَ الواقفِ لأنَّ الوقفَ تمليكٌ إمَّا للعينِ والمنفعةِ أو للمنفعة فقط فلذا لا يصِحُّ الوقفُ على الحمْلِ والطيورِ والوحوشٍ الْمُباحةِ قوله (فلذا لا يصِحُّ الوقفُ على الحمْلِ والطيورِ والوحوشٍ الْمُباحةِ) لأنَّ الوقفَ تسليطٌ في الحال واستُثنِيَت البهيمةُ الموقوفةُ أو الْمُرْصَدة في سبيل الله أي للجهادِ فيصح الوقف على عَلفها كما تقدَّمَ بيانُهُ وكذا على حمامِ مكَّةَ فيصحُّ الوقفُ عليه كما يُشترَطُ أن يكونَ مُبَيَّنًا فإن لم يُبيِّنْهُ الواقفُ لم يصِحَّ الوَقْفُ. وصريحُ الصيغةِ سبَّلتُ وحبَّسْتُ ومثلُهما لو قال تَصَدَّقْتُ بكذا صَدَقَةً مُحَرَّمَةً أو مَوقُوفَةً أو لا تُباعُ ولا تُوهَبُ ولا تُورَثُ فإنه صريحٌ وقولُهُ جعلْتُ البُقْعةَ مسجدًا تصيرُ به مسجدًا.
(والوقفُ جائزٌ) مستحبٌ (بثلاثِ شرائط) أحدُها أن يكون الموقوفُ (مِمَّا يُنتفعُ به) انتفاعًا مُباحًا مقصودًا (مع بقاءِ عينِهِ) بخلافِ ما لا نفعَ فيه كزمِنٍ لا يُرجَى بُرْؤُهُ وما يحرُمُ كآلةِ لهْوٍ محرَّمةٍ وما لا يُقصَدُ كدراهمَ للزينةِ فإنَّ الزينةَ غيرُ مقصودةٍ وما لا تَبْقَى عَينُهُ كمطعومٍ وريحانٍ غيرِ مزروعٍ. ولا يُشترطُ النفعُ في الحالِ فيصحُّ وقفُ عبدٍ وجحشٍ صغيرينِ لإمكان الانتفاع بهما مآلًا.
(و)الثاني (أن يكونَ) الوَقْفُ (على أصلٍ) وهو الموقوفُ عليه أولًا (موجودٍ) يُمكِنُ أن يَتملَّكَ كما مرَّ ولو جماعةً مُعَيَّنًا كويدٍ أو كزيدٍ وعمروٍ وبكرٍ قوله (مُعَيَّنًا) يُشترطُ في الوقفِ على معيَّنٍ قَبولُهُ فورًا لتعيُّنِهِ كالبيعِ ولا يُشترط قَبول مَن بعدَ البطن الأول بل الشَّرطُ عدمُ الرَّدِّ فإن ردُّوا بَطل الوقف فيما يخصُّهم وانتقل لِمَن بعدهم ويكون كمنقطع الوسط وإن ردَّ الأول بَطل الوقف وهذا ما ذهبَ إليه النوويُّ هنا ووافقه غيرُهُ وذهبَ في السرقةِ منَ الروضةِ ونقله في شرح الوسيط عنِ النصِّ إلى أنَّ الوقفَ على مُعيَّنٍ لا يحتاجُ إلى قَبُولٍ واعتمدَهُ الشيخُ زكريا في شرح الروض وغيرُهُ قالوا لأنَّ الوقف بالقُرَب أشبهُ منه بالعقود قالوا وعندئذٍ فالشرطُ عدمُ الرَّدِّ اهـ أو غيرَ مُعَيَّنٍ كالفقراءِ فخرجَ الوقفُ على مَن سَيُولَدُ للواقفِ ثم على الفقراءِ فلا يصِحُّ لأنه منقطِعُ الأولِ. ثم إنَّ الوقفَ قد يرِدُ على التأبيد وهو الذي يكونُ مصرِفُهُ موجودًا مِن إنشائه ولا ينتهي إلى منقطعٍ بل يتصل بمصرفٍ ولا يُتوقَّعُ انقطاعُهُ كما لو وقف على المساكين والمحاويج وجهات الخير وعلى مُعَيَّنِين موجودين بحيثُ تكونُ حقوقهم معجَّلةً بالعقدِ ثم يذكر الواقف انصرافَ الوقف بعد انقراضهم إلى جهةٍ لا تنقطع (و)هذا قد اشترَطَهُ بعضُهُم كالمصنِّفِ رحمه الله بأن يكونَ الوقفُ بعد الأصلِ الموجودَ على (فرعٍ) أي متأخِّرٍ عن الأصلِ دائمٍ (لا ينقطِعُ) فقالوا إنَّ الوقفَ لا يصِحُّ على منقطعِ الآخِرِ ولو كانَ غيرَ منقطعِ الأوَّلِ وهو مرجوحٌ والراجحُ الصِّحَّةُ فلو قال مثلًا وقفتُ هذا على زيدٍ ثم نَسْلِهِ ولم يَزِدْ على ذلك فهو صحيحٌ ويُصْرَفُ وقتَ الانقطاعِ أي انقراضِ نسلِ زيدٍ إلى أقربِ الناسِ رَحِمًا إلى الواقفِ كما نصَّ عليه في المختصَرِ ومثلُهُ في الحكمِ والْمَصْرِفِ منقطِعُ الوَسَطِ قوله (ومثلُهُ في الحكمِ والْمَصْرِفِ منقطِعُ الوَسَطِ) هو الذي صرَّحَ به في الروضةِ مثَّلَ له بأن وقفَ على أولادِهِ ثم رجلٍ مجهولٍ ثم الفقراء وهو الذي أطلقه ومثَّلَ به كثيرونَ لمنقطع الوسط. وبحثَ ابنُ الْمُقرِي وتبعَهُ في فتحِ الوهابِ والنهايةِ وغيرِهما أنَّ هذا إذا كان يُعْلَمُ أمدُ انقطاعِ الوسطِ كالمثالِ المذكورِ في الشرحِ أمَّا إذا لم يكن أمدُ الانقطاعِ معلومًا كأن قال وقفتُهُ على أولادي ثم لرجلٍ مبهمٍ ثم للفقراءِ فلا أثرَ عندئذٍ للمصرِفِ المتوسِّطِ بل يُنتقلُ إلى مَن ذُكِرَ بعدَهُ أي للفقراءِ لعدمِ العلمِ بأمدِ النقطاع ولا يكونُ كمنقطعِ الآخرِ اهـ كوقفتُ هذا على أولادِي ثم على عبدِي فلانٍ قوله (على عبدِ فلان) أي لأنَّ العبد لا يملِكُ. ثم الفقراءِ أو على أولادي ثم نفسي قوله (ثم نفسي إلـخ) أي لأنَّه لا يصحُّ وَقْفُ الإنسان على نفسه ثم الفقراءِ.
(و)الثالثُ (أن لا يكونَ) الوقفُ (في محظورٍ) بظاء مُشَالةٍ أي محرَّمٍ فلا يَصِحُّ الوقفُ على عمارةِ كنيسةٍ للتَّعَبُّدِ. وأفهمَ كلامُ المصنفِ أنَّه لا يُشترط في الوقفِ ظُهورُ قصدِ القُرْبَةِ بل الشرطُ انتفاءُ المعصيةِ سواءٌ وُجِدَ في الوَقْفِ ظهورُ قصدِ القربةِ كالوقفِ على الفقراء أم لا كالوقفِ على الأغنياءِ.
ويُشْتَرَطُ في الوقفِ أن لا يكون مؤقَّتًا كوقفتُ هذا سنةً. نعم إن قال وقفتُه على زيدٍ سنةً ثم على نسلِه مثلًا صَحَّ لأنه عَقَّبَهُ بمصرفٍ ءَاخَرَ. وأن لا يكونَ مُعَلَّقًا كقوله إذا جاءَ رأسُ الشهرِ فقد وقفتُ كذا.
(وهو) أي الوقفُ (على ما شَرَطَ الواقفُ) فيه (مِنْ تقديمٍ) لبعضِ الموقوفِ عليهم (وتأخيرٍ) أي ترتيبٍ لهم كوقفتُ على أولادي بشرطِ تقديمِ الأورعِ منهم بكذا وكذا فإنْ فَضَلَ شىءٌ كان لغثرِهِ أو وقفتُ على أولادي ثم أولادِهم (وتسويةٍ) كوقفتُ على أولادي بالسَّوِيَّةِ بين ذكورِهم وإناثِهم ومثلُهُ الإطلاقُ كوقفتُ على أولادي فيُحملُ على التَّسْوِيَةِ (وتفضيلٍ) لبعضِهِم على بعضٍ كوقفتُ على أولادي للذَّكَرِ منهم مثلُ حظِّ الأُنْثَيَينِ.