(فصلٌ) في أحكامِ اللُّقَطَةِ.
وهي بِفَتْحِ القافِ اسمٌ للشَّىءِ الْمُلْتَقَطِ ومعناها شرعًا ما ضاعَ من مالكِهِ بسقوطٍ أو غَفْلَةٍ ونحوِهما.
والأصلُ فيها قوله تعالى في سورةِ المائدةِ (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوَى) وخبرُ الصحيحين أنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم سُئِلَ عن لُقَطَةِ الذهبِ أو الوَرِقِ فقال اعْرِفْ عِفاصَهَا العفاص هو الجلدُ الذي يُلْبَسُ رأسَ القارورة كأنَّه كالوعاءِ لها ووِكَاءَها الوكاءُ هو رباطُ القِرْبَةِ وغيرِها الذي يُشَدُّ به رأسُها ثم عَرّفْها سنةً فإن لم تُعْرَف فاستنْفِقْها أي فتملَّكْها وأنفقْها إن شئتَ ولتكُنْ وديعةً عندك قوله (ولتكن وديعةً عندك) قال النوويُ في شرح مسلمٍ أي لا ينقطعُ حقُّ صاحبها بل مَتَى جاءها فإدِّها إليه إن كانت باقية وإلَّا فَبَدَلَهَا اهـ فإن جاءَ صاحبُها يومًا من الدهرِ فَأَدِّها إليه وإلَّا فشأنَكَ بها وسألَهُ عن ضالَّةِ الإبلِ فقال ما لك وما لَهَا دَعْهَا فإنَّها معها حذاؤُها وسِقاؤُها تَرِدُ الماءَ وتأكلُ الشجرَ حتَّى يلقاها ربُّها وسأله عن الشاةِ فقال خُذْهَا فإنما هيَ لك أو لأخيكَ أو للذئبِ اهـ
(و)أركانُها ثلاثةٌ التقاطٌ ولاقطٌ وملتقَطٌ.
و(إذا وَجَدَ) شخصٌ (لُقَطَةً في مَوَاتٍ) أو طرقٍ أو مسجدٍ أو نحوِ ذلك (فله أخذُها و) له (تركُها) لكن (أخذُها أَولَى) مِنْ تركِها (إنْ كانَ) الآخذُ (على ثقةٍ مِنَ القيامِ بها) أي بما يجبُ عند أخذِها فلو تَرَكَها مِنْ غيرِ أخذٍ لم يَضْمَنْها. ويُسْتَحَبُّ الإشهادُ على التقاطِها لِتَمَلُّكٍ أو حِفْظٍ. ويَصِحُّ التقاطُ الفاسقِ والصبيِّ الْمُمَيِّزِ نعم ينزِعُ القاضي اللقظةَ مِنَ الفاسقِ ويضعُها عندَ عدلٍ ولا يكتفِي بتعريفِهِ بل يَضُمُّ القاضي إليه رقيبًا عَدْلًا يمنعُهُ مِن الخيانةِ فيها. وينزِعُ الولِيُّ اللقظةَ من يدِّ الصبيّ ويعرِّفُها ثم بعد تعريفها يتملكُ اللُّقطةَ للصبيِّ إن رَأى المصلحةَ في تملُّكِها له أما غيرُ المميز فلا يَصِحُّ التقاطُهُ.
(وإذا أخذَها) أي اللُّقَطةَ (وجبَ عليه أن يَعرِف) مِنَ الْمَعْرِفَةِ لا مِنَ التَّعْرِيفِ (ستةَ أشياءَ) في اللُّقَطَةِ عندَ إرادةِ تَمَلُّكِها فإن لم يُرِدْ ذلك استُحِبَّ عقِبَ أخْذِها ولم يجب قوله (استُحِبَّ عقبَ أخذِها ولم يجب) عبارة الغزيِّ مطلقةٌ فإنه قال [وجب عليه أن يعرف في اللقطة عقب أخذها ستة أشياء] وإليه ذهبَ ابنُ الرِّفعة لكن قال الأذرعيُّ وغيره يُستحب اهـ وقال الرمليُّ في حاشيتِهِ على أسنَى المطالب وهو الأصحُّ وهو ظاهرُ قولِ النوويِّ والرافعيِّ أي إلا إن أرادَ تَمَلُّكَ اللُّقطة فتجب عليه المعرفة عندئذٍ اهـ أن يَعرِفَ (وعاءَها) مِن جلدٍ أو خِرْقَةٍ مثلًا (وعِفَاصَها) وهو هنا الجلدُ الذي على رأسِ القارورةِ ويكونُ بمعنى الوعاءِ أيضًا (ووكاءَها) بالمدِّ وهو الخيطُ الذي تُرْبَطُ به (وجنسَها) من ذهبٍ أو فضةٍ أو غيرِ ذلك (و)قَدْرَها فيَعرِفُ (عددَها) إن كانَ يُضبَطُ بالعدِّ كاثنينِ مثلًا (ووزنَها) إن كان ضبطُها بالوزنِ كدرهمٍ وسابعًا وهو نوعُها كليرةٍ عثمانيةٍ أو إنكليزيةٍ أو ريالًا نمساويًّا وثامنًا وهو صفتُها كصحةٍ وتكسيرٍ ويُستحبُّ كَتْبُ الأوصافِ خوفًا من نسيانها وأنه التقطَهَا في وقتِ كذا وفي مكانِ كذا. (و)يجبُ على الملتقط أن (يحفظها) لِمَالِكها (في حرزِ مثلِها) وسيأتي بيانُ حرزِ المثلِ في الحدود إن شاء الله تعالى.
(ثم إذا أرادَ) الملتقِطُ (تملُّكَها) أو حِفْظَها على مالِكها ليظهر (عرَّفها) بتشديد الراء مِنَ التعريف (سنةً) تحديدًا مِن يومِ التعريف في مواطنِ اجتماعِ الناسِ كالمساجدِ والأسواق والمقاهي ونحو ذلك نعم صَحَّ أنَّ المساجد لم تُبنَ لهذا لذا فليعرِّفها (على أبواب المساجد) عند خروج الناس منَ الجماعةِ لأنَّ ذلك أقربُ إلى وجْدِ قوله (وجُد) بالواوِ المثلثةِ ثم الجيمِ الساكنة مصدرٌ مِن وَجَدَ صاحبها (و)يجبُ التعريفُ (في الموضع الذي وجدَها فيه) لأنَّ طلَبَ الشَّىءِ في مكانِه أكثرُ. ويكونُ ذلك على العادةِ زمانًا ومكانًا فلا يجبُ استيعابُ السَّنَةِ بالتعريفِ بل يُعَرِّفُ أولَ اسبوعٍ كلَّ يومٍ مرتين طَرَفَيِ النهارِ لا ليلًا ولا وقتَ القيلولةِ ثم في كلِّ يومٍ مرةً طرفَهُ أسبوعًا أو أسبوعين ثم كلَّ أسبوعٍ مرةً أو مرتَين حتى يَتِمَّ سبعةُ اسابيعَ ثم شهرًا مرةً أو مرتين إلى ءَاخِرِ السنةِ بحيثُ يَظهَرُ أنَّ تعريفَهُ الأخيرَ تكرارٌ لِمَا قبلَهُ أي فلا يُظَنُّ أنه لِلُقَطةٍ أُخرَى. ويُبَيِّن في االتَّعرْرِيف زمنَ وِجْدانِ اللُّقطة ويُسْتَحَبُّ أنْ يَذْكُرَ فيه بعضَ أوصافِها بلا مبالغةٍ لئلَّا يعتمدَها الكاذبُ فإن بالغَ في وصفِها حتى استوعبها ضَمِنَ قوله (ضمِنَ) أي لأنه وإن كان التسليمُ لا يلزمُ إلا بالبينةِ فقد يرفعُهُ الْمُطالِبُ إلى مَن يُلْزِم الدَّفعَ بالصِّفات. قال أصحابُنا لا يجبُ دفعُ اللُّقظةِ إلى مَن طالَ بها وعرفَ أوصافهَا إلا ببيِّنةٍ وتأوَّلُوا ما في بعضِ الأحاديثِ منَ الأمرِ بالدفعِ إليه على أنَّ الْمُرادَ أنه إذا صدَّقَهُ جاز الدفعُ إليه ولا يجبُ. قاله النوويُّ في شرحِ مسلمٍ قال فالأمرُ بدفعِها إليه بمجرَّدِ تصديقِه ليس للوجوبِ والله أعلم اهـ. وقد يُتَصَوَّر التعريف سنتَينِ وذلك إذا قصد الحِفظ فعرَّفها سنةً ثم قصد التَّمليك فإنَّه لا بُدَّ مِن تعريفه سنةً مِن حينئذٍ.
ومؤنةُ التعريفِ على الملتَقِط إنْ أخَذَها ليتملكَها وإنْ لم يتملَّكُها بعد ذلك فإنْ أخذَها للحِفْظِ رَتَّبَ القاضي مؤْنَتَها مِن بيتِ المالِ أو يَقْتَرِضُها على مالكِها. وَمَن التقطَ شيئًا حقيرًا وهو ما لا يَكْثُرُ أَسَفُ مالكِه عليه ولا يَطُولُ طلبُه له غالبًا لا يلزمُهُ التعريفُ سنةً بل يعرِّفُه زمنًا يُظَنُّ أن فاقدَهُ يُعْرِضُ عنه غالبًا بعدَ ذلكَ الزمنِ.
(فإن لم يجد صاحبَها) بعد تعريفِها سنةً (كان لَهُ أن يتملكَها) إن وجدها في غيرِ حرَمِ مكةَ (بشرطِ الضمانِ) لمالكِها إن ظَهَرَ وأما لُقَطَةُ حرمِ مكةَ فلا يحل أخذُها إلا لحفظٍ. ولا يملكُها الملتقطُ بمجردِ مُضِيِّ السنةِ بل لا بُدَّ من لفظٍ يدُلُّ على التملُّكِ كتملَّكْتُ هذه اللقطةَ. فإن تملَّكَها وظهرَ مالكُها وهي باقيةٌ واتفقا علىردِّ عَيْنِها أو بَدَلِهَا فالأمرُ فيه واضحٌ وإن تنازعا فطلبها المالكُ وأراد الملتقطُ العدولَ غلى بَدَلِها أُجيبَ المالكُ. وإنْ تَلِفَتْ بعد تَمَلُّكِها غرمَ الملتقطُ مثلَها إن كانت مِثْلِيَّةً أو قيمتَها إن كانت متقوِّمةَ يومَ التملكِ لَهَا. وإنْ نَقَصَتْ بعيبٍ حَدَثَ بعد التملُّكِ فلَهُ العُدولُ إلى بدَلِهَا سليمًا إن رَضِيَ اللاقطُ وإلَّا أخذها مَعَ الأرشِ.