(فصلٌ) في أحكامِ الصِّيالِ وإتلافِ البهائمِ.
والصِّيالُ لغةً الوثوبُ على العدُوِّ والاستعلاءُ على الغير. وشرعًا الاستطالةُ والوثوبُ والهجومُ على الغير حقٍّ.
والأصلُ في أحكامهِ ثابتٌ في الكتابِ والسُّنة فالكتابُ كقوله تعالى في سورةِ البقرةِ (فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ) وتسميةُ الفعلِ الثاني اعتداءً هو مِن بابِ الْمُشاكلة وإلَّا فهو جزاءٌ للاعتداء والأوَّلِ وأما السُّنَّةُ فكحديثِ مسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال يا رسول الله أرأيتَ إن جاء رجلٌ يريد أخذَ مالي قال فلا تُعْطِهِ مالَكَ قال أرأيتَ إن قاتلَنِي قال قاتِلْهُ قال أرأيتَ إن قتلنِي قال فأنت شهيدٌ قال أرأيتَ إن قتلتُهُ قال هو في النار اهـ.
(ومَنْ قُصِد) بالبناء للمفعولِ (باذًى في نفسِه) أو نفسِ غيرِه أو طرَفِهِ أو منفعةِ عُضْوِهِ (أو مالِه) وإن قلَّ أو مالِ غيرِه أو ما لَهُ به اختصاصٌ كسِرْجينٍ وكلبٍ يُقْتَنَى (أو حريمِه) كزوجِهِ وأمتِهِ وبنتِهِ أو حريمِ غيرِه ومثلُ الوَطْءِ مقدماتُه كتقبيلٍ ومعانقة بأن صالَ عليه عاقلٌ أو غيرُ عاقلٍ كمجنونٍ وبهيمةٍ معصومٌ أو غيرُ معصومٍ بالغٌ أو صغيرٌ قريبٌ أو أجنبِيٌّ (فقاتَلَ) أي دافع (عن ذلك) بالأخفِّ فالأخفِّ (وقتلَ) الصائلَ بعد أن لم يُمْكِنُهُ دفعُهُ بما سِوَى القتلِ (فلا) إثمَ ولا (ضمانَ عليه) بقصاصٍ ولا دِيَةٍ ولا كفَّارةٍ. وعلى مَن صِيل عليه أن يراعِيَ الأخفَّ فالأخفَّ في الدَّفع كما تقدَّمَ فمن عرف أنه يندفعُ بالصياح فليس له ضَرْبُهُ أو بالضربِ باليد فليس له بالعصا وهكذا حتَّى يتعينَ القتلُ طريقًا للدفع فيجوز حينئذٍ فإن دَفَعَ بالأثقلِ مَنْ يندفعُ بما دونَه فَهَلَكَ ضَمِنَ قال في الغرر البهية إلَّا إذا فقدَ ءَالةَ الأخَفِّ بأن كانَ يندفِعُ بالعصا وليس عندَهُ إلا السيفُ فلا ضمانَ إذ له الدَّفعُ به حينئذٍ وكذا إذا التحمَ القتالُ بينهما لِخُرُوجِ الأمرِ عنِ الضَّبْطِ اهـ
ويدفعُ الْمَصُولُ عليه الصائِلَ وجوبًا إذا لم يَخَفْ على نفسِه فلو أراد كافرٌ أسْرَ مسلمٍ وأمِنَ القتلَ لو امتنعَ وجبَ عليه الدَّفعُ وإلا لم يجب في غيرِ المالِ الذي لا روحَ فيه وفي غيرِ الاختصاصِ وجوازًا فيهما إن لزمَ على الدفع قتالٌ الذي تحرَّرَ للشيخِ عُمَيرةَ على االْمحلِّيِّ أنَّ الدفعَ عن الْمالِ إن لم يلزم عليه قتالٌ وجبَ لأنه من إزالةِ الْمنكر وإلا جازَ وهو الْمرادُ هنا ويُستَثْنَى ما لو قصدَهُ الصائلُ الْمسلمُ المعصومُ في نفسِهِ ولم يُمكِنْ دفعُهُ بلا تفويتِ روحٍ أو عُضْوٍ ولا أمكنَهُ هربٌ فإنَّهُ يجوزُ له عندئذٍ الدَّفعُ عنِ النفسِ كما يجوزُ له الاستسلامُ للصائلِ وتركُ مدافعتِهِ لخبرِ أبي داودَ والترمذيِّ وابنِ ماجَه وصحَّحَه ابنُ حِبان فإن دُخِلَ يعني على أحدٍ منكم فَلْيَكُن كخيرِ ابنَي ءَادَمَ اهـ أي فليترُكِ الْمدافعةَ كما تركها هابيلُ حين أرادَ أخوهُ قابيلُ قَتْلَهُ بخلاف ما لو قصدَ نفسَهُ كافرٌ أو بهيمةٌ أو مسلمٌ غيرُ معصومٍ كالزاني الْمُحْضَن فيجب الدفعُ عنها حينئذٍ. وأما الدعُ عنِ العُضْوِ في حالِ كان الصائلُ مسلمًا معصومًا فيظهرُ وجوبُهُ عند ظَنِّ السلامةِ إذ لا شهادةَ في تركِ الْمدافعةِ. قال بعضُهُم ولو كان الْمَصُولُ عليه إمامًا عادلًا أو بطلًا شجاعًا أو عالِمًا وفي قتلِهِ إضرارٌ بالمسلمينَ ووَهَتٌ في الدينِ ففي جواز استسلامِهِ للقتلِ نظرٌ. ولو علمَ أنه يتولَّدُ عنِ الاستسلامِ مفاسدُ في الحريمِ والأولادِ بالسَّبْيِ وغيرِهِ كما يفعلُهُ بعضُ الطُّغاةِ والخوارجِ لم يجُزِ الاستسلامُ مع إمكانِ الدفعِ.
(وعلى راكبِ الدَّابَّةِ) وكذا سائِقُها أو قائدُها إن لم يكن راكبٌ والفرقُ بين السائقِ والقائدِ أنَّ الأولَ هو الذي يحثُّ الدابةَ على السيرِ ويكونُ عادةً مِن خلفِها والثاني يكونُ مِن أمامها فتتبعُهُ. أمَّا إن كان مع الراكبِ سائقٌ أو قائدٌ فالراجحُ أنَّ الراكبَ يضمنُ دونه فلو كان على الدابَّةِ راكبانِ فالضمانُ على المقدَّم منهما على الْمعتمد لأنَّ سيرَها منسوبٌ إليه إلا إذا كان لا يُنسَبُ إلى الْمُقَدَّم فِعْلٌ كصغيرٍ ومريضٍ لا حركة به فإنَّ الضمانَ يجب على الْمُؤَخَّر أي الرديفِ وَحْدَهُ لأنَّ فِعْلَها حينئذٍ منسوبٌ إليه سواءٌ كان مالكَها أم مستعيرَها أم مستأجرَها أم غاصبَها أو وديعَها أم مُرْتَهِنَها (ضمانُ ما أتلفَتْه دابَّتُهُ) أي الدابَّةُ التي يدُه عليها ليلًا أو نهارًا لكنَّ ضمانَ النفسِ على العاقلة. فإن أرسلَها صاحبُها أي مِن غيرِ أن يكونَ معها في وقتٍ جرَتِ العادةُ بضبطِها فيه وهو الليلُ في الغالبِ ضَمِنَ ما أتلفَتْهُ زَرعًا كانَ أو غيرَه فلو جرَت العادةُ بحفظها ليلًا ونهارًا ضمِنَ مرسِلُها ما أتلفتُهُ مطلقًا. ومحلُّ الضمانِ في الحالَينِ ما لم يُقَصِّرْ صاحبُ الْمتْلَفِ أي ما تَلِفَ فإن قصَّرَ كأن وضعَه بطريقٍ أو عرَّضَه لها أو كانت الدابةُ وحدَها وأتلفَت شيئًا مع حضورِ مالكِهِ وتَرْكِهِ دَفْعَهَا أو كان في مَحُوطٍ له بابٌ وتركَه مفتوحًا فلا ضمانَ على صاحب الدابة لتفريط مالِكِ الغرضِ الذي تلِفَ فهو الْمُضَيِّعُ لِمَالِهِ. ولو بالَت أو راثَت بطريقٍ فتلِفَ بذلك نفسٌ أو مالٌ فلا ضمانَ.