(فصلٌ) في أحكامِ الخمرِ وسائرِ الأشرِبَةِ الْمسكرةِ والحدِّ الْمتعلِّقِ بشُربِها.
وشربُ الخمر منَ الكبائر. والأصلُ في تحريمها قولُ الله تعالى في سورة الْمائدة (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وحديثُ أبي داودَ لعنَ اللهُ الخمرَ وشاربَها وساقِيهَا اهـ الحديثَ.
(ومَنْ شَرِبَ) أو أكلَ جامدًا (خمرًا) وهيَ عصيرُ العِنَبِ إذا وُجدت فيه الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ الْمُسْكِرَةُ (أو شرابًا مًسْكِرًا) من غيرِ الخمرِ كالنَّبيذ الْمُتَّخَذِ منَ الزبيب أو التمر أو الذرة أو غيرِ ذلك إذا حدثَت فيه الشدةُ الْمُطرِبةُ الْمُسكرة بأن أرغَى وأزبدَ (يُحَدُّ) بعد إفاقتِه مِن سُكْره ولو كان ما شَرِبه قليلًا إذا شربَها وهو مكلَّفٌ ملتزمٌ بالأحكام أخرجَ الحربيَّ والذِّمِّيَّ عالمٌ بالتحريم لا نحوُ جاهلٍ بذلك لحداثةِ عهدٍ بالإسلام مختارٌ لغير ضرورةٍ وذلك بضَرْبِهِ (أربعين) جلدةً إن كان حرًّا فإن كان رقيقًا حُدَّ عشرين جلدةً بِسَوْطٍ أو عَصًا معتدلةٍ بين الرَّطْبِ واليابِسِ أو نحوِ ذلك. (ويجوزُ أن يَبْلُغَ) الإمامُ به (ثمانينَ) أي يَضْرِبَهُ ثمانينَ جلدةً إن كان حُرًّا وأربعين إن كان عبدًا وهذه الزيادةُ إنَّمَا هي (على وَجْهِ التعزيرِ) لأنها لو كانت حَدًّا لَمَا جاز تركُها. وبلغَت مقدارَ أدنَى الحدِّ لأنها ليست تعزيرًا واحدًا بل تعزيراتٌ على جناياتٍ يُظَنُّ تَوَلُّدُها مِنَ الشاربِ لأنَّهُ إذا شربَ سكِرَ فغيَّبَ عقلَهُ وإذا سكِرَ هَذَى وإذا هَذَى افْتَرَى. وخرج بالشرابِ النباتُ كالحشيشة والأُفيون ونحوِها فلا حدَّ فيه مع حرمةِ ما يخدِّر العقلَ مِن نحوِها وفيه التعزيرُ ما لم يكن للتداوِي اعتمادًا على قول الطبيبِ الثِّقَةِ.
(ويجبُ) الحدُّ (عليه) أي شاربِ الْمُسْكِرِ (بأحدِ أمرين بالبيِّنة) وهي شهادةُ رجلَينِ عَدْلَينِ بأنه شربَ مُسْكِرًا أو أنه أقرَّ بشُرْبِه أمامَهما فلا يُحَدُّ بشهادةِ رجلٍ وامرأةٍ ولا بشهادةِ امرأتينِ ولا بيمينٍ مردودةٍ أي فلو طلب الْمُدَّعِي اليمين منَ الْمُدَّعَى عليه أنه لم يشرب الْمُسْكِرَ فلم يحلِف بل ردَّها على الْمُدَّعِي فحلفَ أنه شربه لم يجب الحدُّ فهذا الْمُرادُ باليمين الْمردودة هنا ولا بعِلْمِ القاضي لأنه لا يَقْضِي بعلمِهِ في حدودِ الله تعالى (أو الإقرارِ) منَ الشارِب بأنه شربَ مُسْكِرًا لكن يُقْبَل رجوعُهُ عنه لأنَّ الرجوعَ عنِ الإقرارِ يُقْبَلُ في حقِّ الله تعالى. (ولا يحدُّ) الشاربُ (بالقَىْءِ والاسْتِنْكاهِ) أي بأن يُشَمَّ منه رائحةُ الخمرِ لاحتمالِ أنه شرِبَها غالطًا أو مُكْرَهًا.
فائدةٌ: الراجحُ أنه لا يجوزُ التداوي بالخمرِ صِرْفًا لحديثِ البيهقِيِّ وابنِ حِبَّان عن أم سلمة مرفوعًا إنَّ اللهَ لم يجعلْ شِفاءَكُم فيما حرَّم عليكم اهـ ولحديث مسلم وأبي داود وغيرهما عن وائلٍ الحَضْرَمِيِّ أنَّ طارقَ بنَ سُوَيدٍ رضيَ اللهُ عنه سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم عن الخمر يصنعُها للدواء فقال إنها ليست بدواءٍ ولكنها داءٌ اهـ وأما التِّرْياق الْمعجون بها مِمَّا تُسْتَهْلَكُ فيه أي تذهبُ فيه ولا تظهرُ فيجوز التداوي به عند فقدِ ما يقوم مقامَه منَ الطاهرات اهـ والله أعلم.