الخميس ديسمبر 12, 2024

(فصلٌ) في أحكامِ إحياءِ الْمَوَات.

  وهو لغةً الأرضُ الخاليةُ منَ العمارةِ والسُّكَّان. وشرعًا كما قال الرافعيُّ في الشرح الصغير أرضٌ لا مالكَ لها ولا يَنتفعُ بها أحدٌ اهـ أي لا يستحِقُّ أحدٌ الانتفاعَ بها. والأصلُ فيه قبل الإجماعِ أخبارٌ كخبرِ النسائيِّ مَن عَمَّرَ أرضًا ليسَتْ لأحدٍ فهو أحقُّ بها اهـ

  (وإحياءُ المواتِ جائزٌ) مستحبٌّ (بشرطين) أحدهما (أن يكون الْمُحْيِي مسلمًا) فيسنُّ له إحياءُ الأرضِ الميتةِ سواءٌ أذن له الإمام أم لا، اللهم إلا إن يتعلَّق بالموات حقٌّ كأن حَمَى الإمامُ قطعةً منه أي منعَ إحياءَها لتكونَ لِنَعَمِ الجزيةِ والصدقاتِ وخيلِ المجاهدينَ مثلًا لا لنفسِهِ فأحياها شخصٌ فإنَّهُ لا يملكُها إلا بإذنِ الإمامِ فإن أذِنَ كانَ إذنُهُ نقضًا للحِمَى. أما الذِّمِّيُّ والْمُعاهَدُ والْمُسْتَأمَنُ فليس لهم الإحياءُ بدارِنا وإن أَذِنَ لهم الإمامُ لأنَّ الحق فيها للمسلمين. (و)الشرطُ الثاني (أن تكون الأرضُ حُرَّةً) أي (لم يَجْرِ عليها ملكٌ لمسلمٍ) أو غيرِهِ فما كان معمورًا وهو الآنَ خرابٌ فهو لِمَالِكِهِ إن عُرِفَ مسلمًا كان أو ذميًّا فإن لم يُعرف مالكُهُ والعِمارةُ إسلاميةٌ أو شُكَّ في كونها كذلك فهو مالٌ ضائعٌ الأمر فيه لِرَأيِ الإمامِ في حفظِه أو بيعِهِ وحفظِ ثمنِهِ إلى ظهورِ مالكِه إن رُجِيَ فإن أُيِسَ من ظهورِهِ فهو ملكٌ لبيتِ المالِ يتصرفُ فيه الإمام على ما يرَى مِن مصلحةٍ مِن إقطاعٍ أو غيرِهِ قوله (إقطاع) الإقطاعُ جعلُ قطعةٍ منَ الأرضِ للمُقطَع ملكًا لرقبتِها أو إرفاقًا وانتفاعًا بها مِن غيرِ تمليكٍ ويكونُ ذلك في المواتِ فيُقطِعُ الإمامُ منها المُقطَعَ ما يتهيَّأُ له عمارتُهُ ببناءٍ أو زرعٍ أو غيرِ ذلك. وإن كانت العِمارةُ جاهليةً مُلِكَ بالإحياء.

  (وصِفَةُ الإحياءِ) التي يَثبتُ بها الْمُلْكُ شرعًا (ما كان في العادة عمارةً للمُحْيَا) ويَختلف هذا باختلاف الغرض الذي يقصده الْمُحْيِي وضابطُ ذلك أن يُهَيِّئَ الأرضَ لِمَا يريده منها من مسكنٍ وزَريبةٍ ومزرعةٍ وبستانِ فإن أراد الْمُحْيِي إحياءَ المواتِ مَسكنًا اشتُرِطَ فيه تحويطُ البقعةِ ببناءِ حيطانها بما جَرَتْ به عادةُ ذلك المكان مِن ءاجُرٍّ أو حجرٍ أو قصبٍ وسقفُ بعضِها ونصبُ بابٍ. وإن أراد الْمُحْيِي إحياءَ المواتِ زَرِيبةَ دوابّ فيكفي تحويطٌ دون تحويطِ السُّكْنَى ونصبُ بابٍ دون سقفٍ. وإن اراد الْمُحْيِي ‘حياءَ المواتِ مَزرعةً فيجمعُ التراب حولها ويُسَوِّي الأرضَ بكسحِ مُسْتَعْلٍ فيها وطَمِّ منخفضٍ ويحرثُها ويرتِّبُ الماءَ لها بشقِّ ساقيةٍ مِن بئرٍ أو حفرِ قناةٍ فإن كفاها المطرُ المعتادُ لم يَحْتَجْ لترتيب الماء على الصحيح. وإن أراد الْمُحْيِي إحياءَ المواتِ بستانًا فيجمعُ التراب حول الأرض أو يَحُوطُها إن جَرَتِ العادةُ بذلك ويغرس قدرًا من الشجر بحيث يُسَمَّى بستانًا. وإن أراد إحياءَ بئرٍ اشْتُرِطَ إخراجُ مائِها وطَيُّها إن كانت أرضُها رِخْوَةً فإن حَفَرَها بقصدِ تَمَلُّكِها تَمَلَّكَها وماءَها وإن حفرها للارتفاقِ بها كان أولى بها مِن غيره ما لم يرتحل عنها.

  (ويجبُ بذلُ الماء) قال الغزيُّ رحمه الله في شرحه (الماءُ المختَصُّ بشخصٍ لا يجبُ بذلُهُ لِمَاشيةِ غيرِهِ مطلقًا) وهذه العبارةُ تخالفُ ما قرَّرَهُ هو بعد بضعة أسطر أنَّ مِن شروط وجوب بذل الماء أن يحتاجه غيرُهُ لنفسه أو لبهيمته فلذلك كان حقُّ العبارةِ الأولى الحذفَ. مجانًا أي ماءِ نحوِ البئرِ المحفورةِ في ملكِهِ أو في مواتٍ حفرَها للتملّك أو الارتفاقِ (بثلاثة شرائطَ) أحدُها (أن يفضلَ عن حاجتِه) الناجزةِ قةله (الناجزة) أي كما قيَّدَ به الماوردِيُّ. فإن لم يفضل بدأ بنفسِه ولا يجب بذلُه لغيره. نعم يُسَنُّ إيثارُ الغيرِ به إن صَبَرَ. (و)الثاني (أن يحتاجً إليه) أي لشُربٍ قوله (أي لشربٍ) قال ابن قاسمٍ العَبَّادِيُّ في حاشيته على تحفة المحتاج سكتُوا عن البذلِ لنحوِ طهارةِ غيرِهِ وينبغي أن يجبَ أيضًا أي البذلُ لكن هل يُقَدَّمُ عليه شربُ ماشيته اهـ وفي كلامه نظر لأنهم لم يسكتوا عن بذل الماء للطهارة فقد ذكر في الحاوي أنه غير واجب ونقله عنه في البحر وأقرّه ونقله ابن الرفعة عن الحاوي واقرّه. ثم إنّ ماء الطهارة له بدلٌ وهو التراب وأيضًا فإنهم لم يذكروا في التيمم عند ذكرهم طلب الماء أنه يجب على رفقته أن يبذلوه له مجانًا وقد نبهوا في هذا الباب أنه حيث يجب بذل المال حرم أخذ المال بدله والله أعلم. (غيرُه) إما (لنفسِه) المحترَمةِ (أو لبهيمتِه) المحترمةِ أي إذا كان كلأٌ ترعاه الماشيةُ ولا يمكنُ رَعْيُه إلا بسَقْيِ هذا الماءِ فإن وجدَ مالكُ الماشيةِ ماءً مباحًا ءاخَرَ عند الكلإ كعيونٍ سائحةٍ على وجه الأرض وأنهارٍ لم يجب على صاحب الماء بذْلُ مائِه ولا يجبُ عليه بذلُ الماء لزرعِ غيرِه ولا لشجرِه وإن أدَّى إلى تلفِهِ. (و)الثالثُ (أن يكونَ) الماءُ في مَقَرِّه وهو (مِمَّا يُستخلَفُ في بئر أو عين) فإذا أخذ هذا الماء في إناءٍ لم يجب بَذْلُه على الصحيح. نعم يجبُ البَذْلُ للمُضْطَرِّ لكنه لا يلزمُ أن يكونَ مجانًا بل يجوزُ بِعِوَضٍ كما هو مبَيَّنٌ في محله. وحيث وجب البذل للماء مجانًا فالْمُراد به تمكين الماشية من حضورِها البئرَ إن لم يتضررْ صاحبُ الماءِ في زرعِه أو ماشيتِه فإن تضرَّرَ بورودِها مُنِعَت منه واسْتَقَى لها الرعاةُ كما قاله الماورديُّ. وحيث وجب البَذْل للماء مجانًا امتنع أخذُ العِوَضِ عليه على الصحيح.