الخميس ديسمبر 12, 2024

(فصلٌ) في بيان أحكام الظِّهار وهو لغةً مأخوذٌ من الظَّهرِ وشرعًا تشبيهُ الزوجِ زوجتَهُ غيرَ البائنِ بأُنْثَى مِن محارمِهِ. وكان طلاقًا في الجاهلية فغيَر الشرعُ حُكْمَه فلو نوَى به الطلاقَ لم يقع طلاقًا كما نصَّ عليه في الأمِّ.

  والأصلُ فيه قبلَ الإجماعِ قوله تعالى (وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍۢ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِۦ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). وأحاديثُ كحديثِ الترمذِيِّ عن سلمةَ بنِ صخرٍ لَمَّا ظاهرَ منِ امرأتِهِ وحديثِ أبي داودَ وغيرِهِ عن خولةَ بنتِ ثعلبةَ زوجةِ أوس بن الصامت لَمَّا ظاهرَ منها.

  وأركانهُه أربعةٌ الأولُ مطاهِرٌ على وزنِ الفاعلِ وهو زوجٌ خرج به السيد فلا يقعُ ظهارُهُ من أمَتِهِ يصِحُّ طلاقُهُ خرج به الصبيُّ والمجنونُ والْمُكرَهُ والثاني مظاهَرٌ منها وهيَ زوجةٌ ولو رجعيةً حرةٌ أو أمةٌ صغيرةٌ أو كبيرةٌ صحيحةٌ أو مريضةٌ أو قرناءُ أو رتقاءُ مسلمةٌ أو كافرةٌ والثالثُ مشبَّهٌ به وهو جزءُ مَحْرَمِهِ أو مَحرَمُهُ التي لم تكن حلالًا له من قبلُ والرابعُ صيغةٌ وهيَ لفظٌ يُشْعِرُ بالظِّهار سواءٌ كانَ صريحًا كقوله أنتِ أو رأسُكِ كظهرِ أو كجسمِ أو كَيَدِ أُمِّي أمْ كنايةً كأنتِ كأُمِّي أو كعينِها أو كرأسِها ولو كتابةً وفي معناهُ إشارةُ الأخرسِ الْمُفْهِمَةُ فإن كانت بحيثُ يفهم إشارتَه كلُّ أحدٍ فهو صريحٌ.

  (والظِّهار) حرامٌ منَ الكبائر وأشهرُ صِيَغِهِ (أن يقولَ الرجلُ لزوجته أنتِ عليَّ كظهر أمي) وهي الصيغةُ الْمتعارَفُ عليها في الجاهلية وخُصَّ الظهر دون البطن مثلًا لأن الظهر موضع الركوب والزوجة مركوب الزوج فكأنَّ الْمظاهر يقول أنت عليَّ مُحَرَّمة لا تُرْكَبِين كما لا تُرْكَب الأم. ويُعْلَمُ مما تقدم أن لفظ الظهر والأم لا يُشترط بل البطنُ والصدرُ كالظهرِ والأختُ وكلُّ مَحْرَمٍ كالأُمِّ لوجود المعنى.

  (فإذا قال لها ذلك) أي أنت عليَّ كظهر أمِّي أو نحوَ ذلك كأنتِ عندِي كظهرِ أمِّي أو أنتِ كظهرِ أُمِّي بدونِ لفظِ عليَّ أو عندِي (ولم يُتْبِعْهُ) فورًا (بالطلاق) بأن أمسكَها بعد الظهار بمقدارِ ما يقول أنتِ طالقٌ فلم يَقُلْ مع تمكُّنِهِ مِنْهُ فإن لم يحصُل من ذلك شَىءٌ (صارَ عائدًا) مِن زوجتِهِ مخالفًا لقولِهِ فيها إذ تشبيهُها بالأم يقتضي أن لا يُمْسِكَها زوجةً فإن أمسكَها زوجةً بعد ذلك فقد عاد فيما قالَ (ولزمَتْه الكفارةُ) قبل الجماع وإن طلَّقَها بعد ذلك. ولو عبَّرَ بقولِهِ ولم يحصل عَقِبَهُ فرقةٌ لكان أعمَّ فإنه إذا حصلَ بينهما عقبَهُ فرقةٌ أخرى على الفورِ كموتٍ وفسخٍ بعيبٍ لم يكن عائدًا بالرَّجْعة لأن مقصودَ الرَّجعة الحِلُّ. (وهيَ) أي خصالُ الكفارة هنا إحدَى ثلاثٍ مُرَتَّبَةٍ أوَّلُهَا (عِتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ) مسلمةٍ ولو بإسلام أحدِ أَبَويها (سليمةٍ منَ العيوب الْمُضِرَّةِ بالعمل والكَسْبِ) إضرارًا بَيِّنًا ومنها فقدُ اصابعِ اليَدَينِ لا الرِّجْلين فيُجزِئُ مريضٌ يُرْجَى بُرْؤُهُ ورضيعٌ ظاهرُهُ السلامةُ وأخرسُ وأقرعُ (فإن لم يَجِد) الرقبةَ المذكورةَ عند الأداء بأن عجزَ عنها أو شرعًا كأن لم يجد ثمنها أي ولا يُكَلّف شراءَ رقيقٍ بزيادةٍ على ثمنِ المثل بما لا يُتغابن به عادةً وإن كان لا يَنتقل في الصورة الأخيرة إلى الصوم بل يَصبر حتى يجد رقيقًا بثمن الْمثل ويشتريه ويعتقه أو وجدَهُ واحتاج إليه للمُؤنة أو وجَدَ الرقبة واحتاجَها للخِدْمة لنحو مرض أو زمانة أو منصِبٍ فاضلًا عن كفايةِ نفسِه وعيالِه قوله (فاضلًا عن كفايةِ نفسِه وعيالِه) أي ولا يُكَلَّف بيعَ عقارٍ يستغلُّه ولا رأسَ مالِ تجارةٍ لتحصيل رقبةٍ يُعتقها عن الكفارة في حال لم تفضل غلةُ العقار وربحُ مالِ التجارةِ عن كفايتِه الْمذكورةِ الذين تلزمُهُ مؤنتهم شرعًا نفقةً وكسوةً وأثاثًا وإخدامًا لا بُدَّ منه لبقيةِ العمُرِ الغالبِ (فصيامُ شهرينِ مُتَتابِعَينِ) ويُعتبر الشهرانِ بالهلال وإن نَقَصَا ويكونُ صومُهُما بِنِيَّةِ الكفارةِ قوله (بنِيَّةِ الكفَّارة) أي وليس شرطًا أن يُعيِّنَ أنه عن كفارةِ ظهار مِن كل ليلةٍ مِن ليالي الشهرين لأنَّهُ كغيره منَ الصومِ الواجبِ لا بد مِن تبييتِ نِيَّتِهِ ولا يُشترط نيَّةُ تتابعٍ في الأصحِّ ويفوتُ التَّتابُعُ بفوتِ يومٍ فأكثرَ بلا عذرٍ ولو كانَ اليومَ الأخيرَ منَ الشهرين فيستأنفُ الصومَ مِن جديدٍ وأما إن فاتَ لعذرٍ فإن كان من نحوِ سفرٍ ومرضٍ فأنه يضُرُّ فينقطعُ التتابعُ وينقلبُ ما مضَى في هذه الحال نفلًا وإن كان لجنونٍ وإغماءٍ استغرق كلَّ اليوم فإنه لا يصُرُّ ولا ينقطعُ بهِ التتابعُ. وما تقدَّمَ في الترتيبِ بين العتقِ والصيامِ هو في الحُرِّ وأمَّا الرقيقُ فلا عتقَ عليه وإنما يكفِّرُ بالصوم لإعسارِهِ وليس لسيدِهِ منعُهُ منه وإن أضرَّ بالخدمة ومثلُهُ السفيهُ لا يُكفِّرُ إلا بالصوم لأنهم جعلوه كالْمُعْسِر (فإن لم يستطِع) الْمُظاهِر صومَ الشهرين أو لم يستِع تتابُعَهُمَا لمشقةٍ شديدةٍ لا تُحْتَمَلُ عادةً (فإطعام ستينَ) حُرًّا (مسكينًا) أو فقيرًا بالتمليكِ ممن يحل دفع الزكاة إليه فلا يكفي الدفعُ إلى مكاتَبٍ ولا هاشميٍّ ولا مُطَّلِبِيٍّ (كلَّ مسكينٍ) أو فقيرٍ (مدٌّ) من جنس الحب أو غيرِهِ الْمُخْرَج في الفطر وحينئذٍ فيكون مِن غالب قوت بلد الْمكفِّر كبُرٍّ وشعيرٍ لا دقيقٍ وسَوِيقٍ. وإذا عجز الْمُكَفِّر عن الخصال الثلاث استقرَّت الكفارةُ في ذِمَّته فإذا قَدَر بعد ذلك على خَصْلَة فَعَلَها. ولو قَدَرَ على بعضِ الْمُدِّ أخرجَه وبقِيَ الباقي في ذِمَّته لأنَّ الْميسور لا يَسقط بالْمَعْسُورِ. (ولا يَحِلُّ) للمُظاهِر (وَطْؤُها) أي زوجتِهِ التي ظاهَرَ منها وكذا مباشرتُها بما بين سُرَّتِها ورُكْبتِها (حتى يُكَفِّرَ) بما تقدَّم حتَّى لو كان عاجزًا عن التكفير لم يحلَّا له قبلَهُ ويجوزُ له في ما دونَ ما بينهما غيرُ الجماعِ مِن لَمْسٍ وقُبلةٍ ولو بشهوةٍ.