(فصلٌ) في بيانِ أحكامِ القذفِ واللِّعَانِ.
وقدَّمَ القذفَ على اللِّعان لأنه سببٌ له والسببُ سابقٌ على الْمُسَبَّب. والقذفُ لغةً هو الرَّمْيُ وشرعًا هو الرَّمْيُ بالزنا ونحوِه في معرِضِ التَّعيِيرِ لا للشهادةِ صريحًا كانَ الرَّمْيُ أو كنايةً فالصريحُ كقوله يا زاني أو يا زانية والكنايةُ كقوله يا فاسقُ أو فاسقةُ أو يا فاجرُ أو يا فاجرةُ. وأما اللِّعانُ فهو لغةً مأخوذٌ منَ اللَّعْنِ وهو البُعْدُ وشرعًا كلماتٌ مخصوصةٌ جعلها الله حجةً لِمَنْ يُبْتَلى بقذفِ امرأته لدفع العار الذي ألحقَتْهُ به بتلطيخِ فراشِهِ بالزِّنَى إن عَلِمَهُ بشهودِ ذلك أو ظنَّهُ ظنًّا مؤكدًا بشيوع خبرِها مصحوبًا بقرينةٍ ولدفْعِ النَّسَبِ الفاسد إن كان هناك ولدٌ يَنفِيه.
والأصلُ فيه قولُهُ تعالى في سورةِ النُّورِ (وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمْ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَٰدَٰتٍ بِٱللَّهِ ۙ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ(6)وَٱلْخَٰمِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ) وكان سببُ نزولِها أنَّ هلال بن أمية قذف زوجته عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال له النبيُّ البيِّنَةُ أو حدٌّ في ظهرك الحديثَ وفيه فنزلَتِ الآياتُ اهـ أخرجه البخاريُّ وغيرُهُ.
(وإذا رَمَى) أي قذفَ (الرجلُ) الْمُكَلَّفُ وفي معناهُ السَّكرانُ الْمُتَعَدِّي الْمُختارُ (زوجتَه) الْمُحصَنةُ (بالزِّنَى فعليه حدُّ القذْفِ) وسيأتي أنه ثمانون جلدةً للحُرِّ (إلَّا أن يُقيمَ) الرجل القاذف (البينةَ) وهم أربعةُ شهودٍ عدولٌ بِزِنَى المقذوفة (أو يلاعِنَ) الزوجةَ المقذوفةَ فهو مخيَّرٌ بين إقامة البيِّنَةِ واللِّهان أي بتلقينِ الحاكِمِ وإلَّا فلا يُعْتَدُّ به وفي حكمِ القاضي الْمُحَكَّمُ إن لم يكن هناك ولدٌ أما إذا كان ولدٌ فلا يصحُّ التحكيم إلَّا إن كان الولدُ مكلفًا ورَضِيَ بالتحكيم بخلاف غيرِ الْمُكَلَّفِ أو الْمُكَلَّفِ الذي لم يَرْضَ بالتحكيم لأنَّ له حقًّا في النَّسَب فلا يُكْتَفَى برضا الزوجَينِ. ويُسَنُّ التغليظُ في الزمان والمكان (فيقول) بعد العصرِ (عند الحاكم في الجامع على الْمِنبر في جماعةٍ مِن) أعيانِ (الناس) وصلحائهم أقلُّهم أربعةٌ لِمَا فيه منَ الرَّدْعِ عن الكذب (أشهدُ بالله إنَّنِي لَمِنَ الصادقين فيما رميتُ به زوجتي) هذه إن كانت حاضرةً أو زوجتي (فلانةَ) بنتَ فلان إن كانت غائبةً (مِنَ الزِّنَى) وإن كان هناك ولدٌ ينفيه ذكرَهُ في الكلمات فيقول في الكلمات الخمسِ (وإنَّ هذا الولدَ مِنَ الزِّنَى وليس منِّي) ولا يكفِي أن يقولَ ليس مِنِّي من غير أن يقول إنَّه منَ الزِّنَى ويقولُ الْمُلاعِنُ هذه الكلمات (أربعَ مراتٍ)متتاليةٍ لتكونَ كلُّ مرةٍ بمنزلةِ شاهدٍ وكُرِّرَتِ الشهادةُ فيها لتأكيدِ الأمرِ ولذلك سُمِّيَت شهاداتٍ وهي في الحقيقة إيْمانٌ (ويقولُ في) المرةِ (الخامسةِ بعد أن يعظَهُ الحاكمُ) أو الْمُحَكَّمُ بدبًا بتخويفِهِ له مِن عذاب الله تعالى في الآخرة وأنه أشدُّ مِن عذاب الدنيا ويقرأ عليه قولَهُ تعالى في سورةِ ءَالِ عِمرانَ (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ فِى ٱلْءَاخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
قولُهُ تعالى (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ) أي لا يفرحونَ حينَ يسمعونَ كلامَهُ تعالى. قال الطبرِيُّ ولا يكلمهم بما يحبون ويشتهون فإما بما يسوءُهُم ويكرهون فإنه سيكلمهم اهـ.
قوله تعالى (وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ) أي يغضَبُ عليهم قال الزجاجُ تأويلُهُ الغضب عليهم والإعراضُ عنهم كما تقولُ فلان لا ينظر إلى فلان ولا يكلمه وتأويله أنه غضبانُ عليه ون كلَّمَهُ بكلامِ سُوءٍ لم يُنْقَضْ ذلك اهـ.
قوله تعالى (وَلَا يُزَكِّيهِمْ) قال الطبريُّ أي ولا يطهِّرُهم من دَنس ذنوبهم اهـ.
فإن أصَرَّ أعاد تلك الكلماتِ مرةً خامسةً وزاد فيها (وعليَّ لعنةُ اللهِ إن كنتُ مِنَ الكاذبينَ) فيما رَميتُ به هذهِ مِنَ الزِّنَى وقولُ المصنفِ (في الجامع على الْمِنبر في جماعةٍ) ليس بواجبٍ في اللِّعان بل هو سنةٌ للتغليظ كما تقدم.
(ويَتعلَّقُ بِلِعَانِهِ) اي الزَّوجِ ولو كذبًا وإن لم تُلاعِنِ الزوجةُ (خمسةُ أحكامٍ) بل أكثرُ أحدُها (سقوطُ الحَدِّ) أي حدِّ القذف للزوجةِ الْمُلاعَنَةِ (عنه) وإنما يُحَدُّ غذا كانت محصنةً أي مكلفةً حرةً عفيفةً عن وَطْءٍ تُحَدُّ به فلا حدَّ في قذفِ كافرةٍ أو أمةٍ ولو مكاتَبةً أو مدبَّرَةً أو أمَّ ولد أو مُبَعَّضةً أو مجنونةً أو صغيرةً بلغت حدًّا تُوطَأُ به أو مُكرَهةً على الزِّنَى وكذا مَوْطُوءةٌ بشبهةٍ فلا يوِبُ قذفُها الحدَّ وإنما يوجِبُ قذفُهُنَّ التعزيرَ لأنه كاذبٌ ظاهرًا فسبَبُهُ التكذيبُ فإن لاعنَ سقطَ التعزيرُ عنه وأما إذا كان التعزيرُ للتأديبِ أي حيثُ يكونُ معلومَ الكذبِ كقذفِ طفلةٍ لم تبلغ حدَّ أن تُوطَأَ أو رتقاءَ أو قرناءَ أو يكونُ لصِدقٍ ظاهرٍ كقذفِ كبيرةٍ ثبتَ زناها فلا لِعانَ عندئذٍ لأنه في الأولِ متيقَّنُ الكذبِ فلم يُلحِقْ بعا عارًا فلا يُمْكَّنُ منَ الحلفِ على أنه صادقٌ ويُعَزَّرُ منعًا له منَ الإيذاء والخوضِ في الباطل وفي الثاني لأنَّ اللعانَ لإظهار الصدقِ وهو ظاهرٌ فلا معنى له ولأنه للسبِّ والإيذاءِ فأشبَهَ التعزيرَ بقذفِ الصغيرةِ التي لا تُوطَأُ.
(و)ثاني الأحكامِ (وجوبُ الحدِّ عليها) أي حدِّ زناها مسلمةً كانت أو كافرةً نعم يسقطُ بلعانِها كما سيأتي. (و)الثالثُ (زوالُ الفِراش) أي انفساخُ النكاح وعبَّرَ عنه غيرُ المصنف بالفُرقة الْمؤبدة وهيَ حاصلةٌ ظاهرًا وباطنًا وإن طذَبَ الْملاعِنُ نفسَهُ. (و)الرابعُ (نَفْيُ الولدِ) عنِ الْمُلاعِن إن نفاهُ في لِعانِهِ لكن لو استلحقه بعد ذلك لحقه ويُشتَرَطُ أن يكونَ النَّفْيُ على الفورِ كالرَّدِّ بالعيب فإن أخَّرَ بلا عذرٍ بطل حقُّهُ منَ النَّفْيِ فيلحقُه الولدُ أمَّا الْملاعِنةُ فلا ينتفِي عنها نسبُ الولد. (و)الخامسُ (التحريمُ) للزوجةِ الْمُلاعَنةِ (على الأبد) فلا يَحِلُّ للملاعِن نكاحُها ولا وَطْؤُها بملك اليمين لو كانت أمةً واشتراها فتبِينُ منه تأبيدًا بَيْنُونةَ انفساخٍ كالرضاع ظاهرًا وباطنًا فلا نفقةَ لها ولو كانت حاملًا ولا توارثَ بينهما ويجوزُ أن يتزوَّجَ أربعًا سواها ولو أختَها أو عمَّتَها مِمَّن يحرم الجمع بينها وبينها. والسادسُ مِن أحكامِهِ أنه تسقُطُ حصانةُ الزوجة الْملاعَنَةِ في حقِّ الزوج إن لم تلاعِنْ حتَّى لو قذفَها بعد ذلك بتلك الزَّنيةِ أو بغيرِها أو أطلَقَ لا يُحَدُّ بل يُعزَّرُ. ويترتَّبُ أحكامٌ أُخرَى أيضًا.
(ويَسقُطُ الحدُّ عنها) أي حدُّ الزِّنَا الذي ثبت عليها بلعانه (بأن تلتعِنَ) وفي نسخة بأن تلاعنَ الزوجَ بعد تمام لعانه (فتقول) في لعانها إن كان الْملاعِنُ حاضرًا (أشهد بالله إن فلانًا هذا لَمِنَ الكاذِبِينَ فيما رمانِي به من الزِّنَى) وتكرِّرُ الْملاعِنةُ هذا الكلام (أربع مرات وتقول في الخامسة بعد أن يَعِظَها الحاكم) أو الْمحكَّمُ بتخويفِهِ لها مِن عذاب الله في الآخرة وأنه أشد مِن عذاب الدنيا (وعليَّ غضبُ الله إن كان مِن الصادقين) فيما رماني به مِنَ الزِّنَى ولا تذكر الولد لعدم فائدته. وما ذُكِرَ منَ القولِ المذكورِ محاُّهُ في الناطق أما الأخرسُ فيُلاعِنُ بإشارةٍ مفهِمَةٍ فإن لم تكن له إشارة مفهمة لم يصحَّ قذفُهُ ولا لعانُه ولا غيرُهما لِتَعَذُّرِ الوقف على ما يريده. ولو أبدَلَ في كلمات اللعان لفظَ الحلف بالشهادة بأن يقول الْملاعِنُ أحلِفُ بالله ولفظَ اللَّعنِ بالغضبِ أو عكسَهُ كقولِهَا لعنةُ الله عليَّ وقولِهِ غضبُ الله عليَّ أو ذُكِ كلٌّ من الغضبِ واللَّعْنِ قبل تمام الشهادات الأربعِ لم يصحَّ في الجميع.