الخميس نوفمبر 21, 2024
  • فصلٌ في أخلاقه صلى الله عليه وسلم

    كان صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس وكان أجودَ ما يكون في رمضان، وكان أحسنَ الناس خلقًا وخُلقًا، وألينهم كفًّا، وأطيبهم ريحًا، وأكملَهم حجة، وأحسنَهم عشرة، وأشجعَهم، وأعلمهم بالله، وأشدهم لله خشيةً، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتقم لها، وإنما يغضب إذا انتُهكت حرمات الله عزَّ وجلَّ فحينئذ يغضب ولا يقوم لغضبه شىء حتى ينتصر للحق، وإذا غضب أعرض وأشاح، وكان خُلُقَه القرءان، وكان أكثرَ الناس تواضعًا، يقضي حاجة أهله، ويخفِض جناحه للضَّعَفَة، وما سُئل شيئًا قط فقال لا، وكان أحلمَ الناس، وكان أشد حياء من العذراء في خِدرها، والقريبُ والبعيد والقوي والضعيف عنده في الحق سواء.

    وما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، ولا يأكل متكئًا ولا على خِوان [(1265)]، ويأكل ما تيسَّر، ولا يمتنع من مباح ما، وكان يحب الحلوى والعسل، ويعجبه الدُبَّاء – وهو اليقطين – وقال «نِعمَ الإدام الخل» [(1266)]، «وفضلُ عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» [(1267)]، وكان أحبُ الشاة إليه الذراعَ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه [(1268)]: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير» يعني للعُدْم وكان يأتي الشهرُ والشهران ولا يوقد في بيتٍ من بيوته نار، وكان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، ويكافئ على الهدية، ويخصف النعل [(1269)]، ويرقع الثوب، ويعود المريض، ويجيب من دعاه من غني وفقيرٍ ودنيٍ ّوشريفٍ ولا يحقِر أحدًا، وكان يقعد تارةً القُرفصاء، وتارةً متربعًا، واتكأ في أوقات، وفي كثيرٍ من الأوقات أو في أكثرها محتبيًا بيديه، وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقهن، ويتنفس في الشراب بالإناء ثلاثًا خارج الإناء، ويتكلم بجوامع الكلم، ويعيد الكلمة ثلاثًا لتُفهم، وكلامه بيِّن يفهمه من سمعه، ولا يتكلم من غير حاجةٍ، ولا يقعد ولا يقوم إلا على ذكر الله تعالى، وركب الفرس والبعير والحمار والبغلة، وأردف معاذًا خلفه على ناقةٍ وعلى حمارٍ، ولا يدع أحدًا يمشي خلفه، وعصب على بطنه الحجر من الجوع.

    وكان يبيت هو وأهلُه اللياليَ طاوين؛ وفراشه من أَدَمٍ حَشْوُهُ من ليفٍ، وكان متقللًا من أمتعة الدنيا كلها، وقد أعطاه الله تعالى مفاتيح خزائن الأرض كلها فأبى أن يأخذها واختار الآخرة عليها، وكان كثيرَ الذّكْر، دائم الفكر، جُل ضحكه التبسم، وضحك في أوقاتٍ حتى بدت نواجذه – وهي الأنياب -، ويحب الطيب ويكره الريح الكريهة، ويمزح ولا يقول إلا حقًّا، ويقبل عذر المعتذر إليه، وكان كما وصفه الله تعالى ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *﴾ [سورة التوبة] وقال تعالى  ﴿… وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ … *﴾ [سورة التوبة] وكانت معاتبته تعريضًا [(1270)] «ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله تعالى» [(1271)] ونحو ذلك ويأمر بالرفق، ويحث عليه، وينهى عن العنف، ويحث على العفو والصفح ومكارم الأخلاق، ويحب التيمن في طُهوره وتنعله وترجله وفي شأنه كله، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى، وإذا نام أو اضطجع اضطجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، وكان مجلسه مجلسَ حلم وحياء وأمانة وصيانة وصبر وسكينة ولا تُرفع فيه الأصوات ولا تُؤَبَّن [(1272)] فيه الحُرَم – أي لا تُذكر فيه النساء – يتفاضلون فيه بالتقوى ويتواضعون، ويوقَّرُ الكبارُ ويُرحَمُ الصغار ويؤثرون المحتاج ويحفظون الغريب، ويخرجون أدلة على الخير. وكان يتألف أصحابَه، ويُكرم كريم كل قوم ويوليه أمرهم، ويتفقد أصحابه، ولم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا يَجزي بالسيئة السيئة، بل يعفو ويَصفح ولم يضرب خادمًا ولا امرأة ولا شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى، وما خيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن إثمًا.

    ودلائل كل ما ذكرته في الصحيح مشهورة، فقد جمع الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم كمال الأخلاق ومحاسن الشيم وما فيه النجاة والفوز وهو أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب ولا معلّمَ له من البشر، وءاتاه الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين، واختاره على جميع الأولين والآخرين، صلوات الله عليه وسلامه دائمَين إلى يوم الدين.
    وقد ثبت في الصحيح [(1273)] عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال «ما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألينَ من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شَمَمْت رائحةً قط أطيب من رائحةِ رسول الله، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي قط: أفٍ، ولا قال لشىء فعلته لِمَ فعلته ولا لشىء لم أفعله ألا فعلتَ كذا».

    ـ[1265] رواه الترمذي في سننه: كتاب الدعوات: باب في دعاء الضعيف، وقال: «هذا حديث غريب».
    ـ[1266] فتح الباري (10/ 98).
    ـ[1267] رواه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى { … يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ … *} [سورة الفتح]، ومسلم في صحيحه: كتاب التوبة: باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة.
    ـ[1268] رواه ابن ماجه في سننه: كتاب الزهد: باب ذكر التوبة.
    ـ[1269] حسنه الحافظ السيوطي في الجامع الصغير (1/ 519).

    ـ[1270] رواه الترمذي في سننه: كتاب الدعوات: باب في فضل التوبة والاستغفار، وابن حبان في صحيحه: كتاب الطهارة: باب المسح على الخفين وغيرهما، انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (2/ 308)، وأحمد في مسنده (4/ 239 – 240، 241).