(فصلٌ) في أحكام القَسْمِ والنشوزِ أما القَسْمُ بفتحِ القافِ فهو لغةً مصدرُ قسَمَ بقسمُ وبكسرِ القافِ والمقصودُ هنا في الاصطلاحِ العَدْلُ بين الزوجاتِ أي في المبيتِ وأما النشوزُ فهو الاتفاعُ عن أداءِ حقِّ الزوجِ والأولُ مِن جهةِ الزوجِ لزوجتِه فلا حقَّ للرَّجْعيةِ ولا الأمةِ فيه والثاني مِن جهةِ الزوجةِ.
وإذا كان في عِصْمَةِ شخصٍ زوجتانِ فأكثرَ لا يجبُ عليه في الابتداءِ القَسْمُ بينهما أو بينهنَّ حتى لو أعرض عنهُنَّ أو عن الواحدة فلم يَبِتْ عندهن أو عندها لم يأثَمْ لأنَّ المبيتَ حَقُّهُ فلَهُ تركُهُ ابتداءً أو بعد تمامِ الدَّور أما لو باتَ عند واحدةٍ منهنَّ وجبَ عليه إتمامُ الدَّورِ فورًا للباقياتِ ويُستحب أن لا يُعَطِّلَهُنَّ مِنَ الْمَبيت ولا الواحدةَ أيضًا بأن لا يَبِيتَ عندهُنَّ أو عندَها وأدنَى درجات الواحدةِ أن لا يُخَلِّيَهَا كلَّ أربعِ ليالٍ عن ليلةٍ.
(والتَّسْوِيَةُ في القَسْمِ بين الزوجاتِ واجبةٌ) وتسقُطُ في حقِّ الناشز وتُعتبر التسويةُ بالمكانِ تارةً وبالزمانِ أخرَى أمَّا المكانُ فيحرم الجمعُ بين الزوجتين فأكثرَ في مَسْكَنٍ واحدٍ إلا بالرِّضا وأما الزمانُ فَمَن لم يكن حارسًا مَثَلًا فَعِمَادُ القَسْمِ في حقِّهِ الليلُ والنهارُ تَبَعٌ له فيُرَتِّبُ القَسْمَ إن شاءَ على ليلةٍ ويومٍ قبلَها أو بعدَها لكلٍّ. ومَن كان نحوَ حارسٍ فعِمادُ القَسْم في حقِّهِ النهارُ والليلُ تَبَعٌ له. ولا يجوز للزوجِ أن يَبتدئَ بالْمَبيتِ عند بعضِ أزواجِه إلا بِقُرْعَةٍ تَحَرُّزًا عن الترجيحِ بلا مُرَجِّحٍ فيبدَأُ بمن خَرَجَت قرعتُها ثم بعد تمامِ نوبَتِها يُقْرَعُ بينَ الباقياتِ ثم بينَ الأُخْرَيَينِ فإذا تمت النُّوبُ راعَى الترتيبَ ولا يحتاجُ إلى إعادةِ القُرعة.
(ولا يدخلُ) الزوجُ في التابعِ ليلًا كانَ أو نهارًا (على غيرِ الْمقسوم لها لغيرِ حاجةٍ) فإن كان لحاجةٍ كعِيادَتِها إذا مرضت وكأخْذِ متاعٍ ووَضْعِهِ وتسليمِ نفقةٍ لم يُمْنَعْ مِنَ الدُّخولِ وله أن يستمتعَ بها حينئذٍ بغير الوَطْءِ وليس عليه القضاءُ لغيرِها لأنَّ دخولَهُ لحاجةٍ. وأمَّا الأصلُ ليلًا أو نهارًا فيحرُمُ الدخول فيه على غير صاحبة النَّوبة إلا لضرورةٍ كمرضِهَا الْمَخُوفِ وشدَّةِ طَلْقٍ وخوفِ حريقٍ فإن طالَ مُكْثُهُ عُرْفًا قَضَى مثلَ ما مكثَ في نَوبَة الْمَدخُولِ عليها أمَّا إن لم يَطُلْ فلا يَقْضِي. ومَن دخلَ على غيرِ صاحبةِ النَّوبةِ في الأصلِ أو التابعِ فجامَعَ أثِمَ وعليه أن يَقْضِيَ زمنَ الجماعِ لا نَفْسَ الجماعِ إلا إنْ قَصُرَ زَمَنُهُ فلا يقضيهِ.
(وإذا أرادَ) مَنْ في عِصْمَتِهِ زوجاتٌ (السَّفَرَ أقرعَ بَينَهُنَّ) إن لم يَتَرَاضَيْنَ (وخرجَ) أي سافرَ (بالتي تخرُجُ لها القُرْعَةُ) ولا يقضِي الزوجُ المسافرُ للمتخلِّفاتِ مدةَ سفرِهِ ذهابًا وإيابًا فإن وصلَ مقصِدَهُ وصارَ مقيمًا كأن نَوَى إقامةً مؤثِّرةً أي أربعةَ أيامٍ صحاحٍ أولَ سفرِه أو عند وصولِ مقصِدِه أو قبلَ وصولِه قضَى مدةَ الإقامةِ إن ساكَنَ المصحوبةَ معه في السفرِ وإلا بأن اعتَزَلَهَا مدةَ الإقامة لم يَقْضِ.
(وإذا تزوَّجَ) الزوجُ (جديدةً) ولو مطلقَتَهُ التي بانَت منه لا الرجعيةَ (خَصَّهَا بسبعِ ليالٍ) متوالياتٍ حتمًا (إن كانت) الجديدةُ (بكرًا) ولو أمةً وكان عند الزوجِ غيرُ الجديدةِ وهو يَبِيتُ عندَها أو عندهُنَّ ولا قضاءَ عليه لَهَا أو لهنَّ (أو ثلاثٍ) متوالياتٍ (إن كانت ثَيِّبًا) فلو فرَّقَ اللَّيَالِيَ بنومِهِ ليلةً عند الجديدةِ وليلةً في مسجدٍ مثلًا لم يُحْسَبْ لَهَا ذلك بل يُوَفِّي الجديدةَ حقَّها متواليًا ويَقضِي ما باتَ فيه عند الجديدةِ مُفَرَّقًا للباقياتِ.
(وإذا خافَ) الزوجُ (نُشُوزَ المرأةِ) قوله (نشوز المرأة) قال في المصباح نشزَت المرأةُ نُشُوزًا مِن بَابَي قَعَدَ وضَرَبَ عَصَتْ زوجَهَا وامتنعَت عليه ونشزَ الرجلُ من امرأتِهِ نُشُوزًا بالوجهينِ تركها وجفاها اهـ وقال في التاج منَ المجاز نَشَزَت المرأةُ بزوجِها وعلى زوجِها تَنْشُزُ وتَنْشِزُ نُشوزًا وهي ناشِزٌ استعصَت على زوجِها وارتفعت عليه وأبغضَتْهُ وخرجَت عن طاعته وفرِكَتْهُ وقد تكرَّرَ ذِكْرُ النُّشوز في القرءان والأحاديث وهو أن يكونَ بين الزَّوجين قال أبو إسحق وهو كراهةُ كلِّ واحدٍ منهما صاحبَهُ وسوءُ عِشْرَتِه له واشتقاقُه منَ النَّشْزِ وهو ما ارتفع منَ الأرض نَشَزَ بعلُها عليها ينشُزُ نُشوزًا ضريَها وجفاها وأضرَّ بها اهـ بأن ظهرَت منها أمَارَاتٌ تُشْعِرُ أنها مقدِّمَةٌ لنُشُوزِها وفي بعضِ النُّسَخِ وإذا بان نشوزُ المرأةِ أي ظهرَت مقدماتُهُ كأن تجيبَهُ بكلامٍ خَشِنٍ قوله (بكلامٍ خشنٍ) أي صعبٍ لا يُحتمَلُ عادةً كما في التاج بعد أن كانت تكلِّمُهُ بِلِينٍ وكأنْ يَجِدَ منها إعراضًا وعُبُوسًا بعد لُطْفٍ وطَلاقةِ وجهٍ (وَعَظَهَا) زوجُها بلا ضَرْبٍ ولا هَجْرٍ كقولِهِ لَهَا اتَّقِي اللهَ في الحقِّ الواجبِ لِي عليكِ واعلَمِي أنَّ النُّشُوزَ مُسْقِطٌ للنفقةِ والقَسْمِ اهـ وليس الشتمُ للزوجِ مِنَ النُّشُوزِ فإنه قد يكونُ عن سوء خلقٍ لا عن كراهةٍ ولكنها تأثَمُ بهِ وتستحِقُّ به التأديبَ مِنَ الزَّوجِ ولا يرفعُها إلى القاضي وإنما النُّشُوزُ الخروجُ عن طاعةِ الزوجِ بنحوِ الخروجِ من بيتِهِ بلا إذنٍ وتركِ الإجابةِ إلى الفراشِ بلا عذرٍ كمرضٍ وبنحوِ الاشتغالِ بحاجاتها إذا دعاها والسفرِ بغير إذنه ورضاه وعدم فتح الباب له ليدخلَ. (فإن أبَتْ) بعد الوَعْظِ (إلا النُّشُوزَ) أي إن تَحَقَّقَ نشوزُها بالقولِ أو بالفعلِ وأقامت عليه (هجرَها) في مضجَعها أي فراشِها فلا يضاجِعُها أي لا ينامُ معها فيه. قال الشافعيُّ رحمه اللهُ ويهجُرُها في الْمَضجعِ حتى ترجعَ عن النُّشُوزِ ولا يُجاوز بها في هجرةِ الكلامِ ثلاثًا لأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ إنَّما أباحَ الهجرةَ في الْمَجَع والهجرةُ في الْمَضجَع تكونُ بغيرِ هجرةِ كلامٍ اهـ ومن هنا قال بعضٌ إنَّ هُجْرانَها بالكلامِ فيما زاد على ثلاثةِ أيامٍ حرامٌ وهو محمولٌ على ما إذا قصَدَ بهجرِها ردَّها لِحَظِّ نفسِهِ فإن قصدَ به ردَّها عنِ المعصيةِ وإصلاحَ دِينِها فلا تحريمَ كما يدُلُّ عليه قولُهُم يجوزُ هَجْرُ المبتدعِ والفاسِقِ ونحوِهما لردِّهِم عن المعصيةِ. قال المصنفُ رحمه اللهُ (فإن أقامَت عليه) أي النشوزِ بتكرُّرِهِ منها (هجَرَها وضربَها) ضربَ تأديبٍ لها فإن أفضَى ضربُها غلى التَّلَفِ وجبَ الغُرْمُ وإنما يضربُها غذا أفاد الضربُ في ظَنِّهِ وإلا فَيَحْرُمُ لأنه عندئذٍ عقوبةٌ بلا فائدةٍ. كذا جعلَ المصنفُ المراتبَ ثلاثةً وهي طريقةٌ ضعيفةٌ والصحيحُ أنه إذا تحقَّقَ النُّشُوزُ جازَ الوعظُ والهَجرُ والضربُ وإن لم يتكرَّرْ نشوزُها فهُما مرتبتانِ لا ثلاثٌ كما قالَهُ النوويُّ رحمه الله. (ويَسْقُطُ بالنُّشُوزِ قَسْمُها ونَفَقَتُها) وكِسْوَتُها.