الخميس ديسمبر 12, 2024

   (فصلٌ) في أحكامِ الرَّجْعَةِ.

  والرَّجعةُ بفتحِ الراءِ وحُكِيَ كسرُها لُغَةً الْمَرَّةُ من الرجوع وشرعًا ردُّ المرأة إلى النكاحِ في عدةِ طلاقٍ غيرِ بائنٍ على وجهٍ مخصوصٍ. وخرج بطلاقٍ عِدَّةُ الفسخِ فلا رجعةَ فيها ووَطْءُ الشبهةِ والظِّهارُ فإنَّ استباحةَ الوَطْءِ فيهما بعد زوالِ المانعِ لا تُسَمَّى رجعةً. ويُسَنُّ الإشهادُ عليها ولا يجبُ.

  والأصلُ فيها قبلَ الإجماعِ قولُهُ تعالى في سورةِ البقرةِ (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) وقولُهُ تعالى في السورةِ نفسها (ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍۢ) وقولُهُ عليه الصلاة والسلام لِعُمَرَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا اهـ رواه مسلمٌ.

  وأركانُها ثلاثةٌ مَحَلٌّ وهو الزوجةُ وصيغةٌ ومُرْتَجِعٌ وهو الزوجُ.

  (وإذا طلَّقَ) شخصٌ (امرأتَهُ) بعِوَضٍ وقعَ خُلْعًا كما تقدَّمَ وتَبِينُ بهِ بلا رجعةٍ إلا بنكاحٍ جديدٍ وأمَّا إذا طلَّقَها بغيرِ عِوَضٍ (واحدةً أو اثنتينِ) بعد وَطْئِها (فلَهُ مُراجعَتُها) بغير إذنِها (ما لم تَنْقَضِ عِدَّتُها). وصِيغتُها التي تصحُّ وتحصُلُ بها مِنَ الناطقِ إمَّا صريحةٌ أو كنايةٌ فأمَّا الصريحةُ فألفاظٌ منها راجعتُكِ ورجَعْتُكِ والأحسنُ أن يضيفَ إليها قولَهُ إلى نِكَاحِي والأصحُّ أنَّ قولَ الْمُرْتَجِعِ رَدَدْتُكِ إليَّ أو إلى نكاحِي وأمسكتُكِ عليه صريحان. ومثالُ الكنايةِ قولُهُ تزوجتُكِ أو نكحْتُكِ. وشرطُ الْمُرْتَجِعِ أهليَّةُ النكاحِ بنفسِهِ قال النوويُّ في دقائق المنهاج إنما قال بنفسِهِ ليحترزَ عن الصَّبِيِّ والمجنونِ فإنهما أهلٌ للنكاح بولِيِّهِما لا بأنفسِهما اهـ بحيث لو عقد النكاحَ بنفسِهِ لَصَحَّ وإن توقَّفَ على إذنِ غيرِهِ كما في السَّفِيهِ والعبدِ فتصحُّ رجعةُ السَّكرانِ أي السكران المتعدِّي فتصح رجعته على المذهبِ كما يصِحُّ طلاقُهُ. لا رجعةُ الْمُرْتَدِّ والصبيِّ والمجنونِ لأنَّ كلًّا منهم ليس أهلًا للنكاحِ بنفسِهِ بخلافِ السفيهِ والعبدِ فرجعتُهُما صحيحةٌ مِن غيرِ إذنِ الوليِّ والسيدِ وإن توقَّفَ ابتداءُ نكاحِهِما على إذنِ الولِيِّ والسيدِ. نعم تَصِحُّ رجعةُ الْمُحْرِمِ مع أنه ليس أهلًا للنكاحِ بنفسِهِ في حالِ إحرامِهِ لأنَّ الإحرامَ عارِضٌ فلا يمنعُ صحةَ الرجعةِ وإنْ منعَ أهليَّةَ النكاحِ.

  (فإن انْقَضَتْ عِدَّتُها) أي الرَّجْعِيَّةِ (كانَ له نكاحُها بعقدٍ جديدٍ وتكونُ معَهُ) بعد العقدِ (على ما بَقِيَ) له (مِنَ الطَّلاقِ) سواءٌ اتصلَتْ بزوجٍ غيرِهِ أم لا.

  (فإن طلَّقَها) زوجُها الحرُّ (ثلاثًا) في الطُّهْرِ أو في الحيضِ أو النفاسِ مجموعةً بلفظٍ واحِدٍ قبل الدخولِ أو بعدَهُ أو متواليةً في مجلسٍ واحدٍ أو مفرَّقةً في ضمنِ العدَّةِ أو طلَّقَها طلقَتَينِ إن كان عبدًا (لم تَحِلَّ له إلا بعدَ) وجودِ (خمسةِ أشياءَ) أحدُها (انقضاءُ عِدَّتِها منه)ِ أي المطلِّقِ إن كانَ دخلَ بها (و)الثاني (تزويجُها بغيره) تزويجًا صحيحًا (و)الثالثُ (دخولُهُ) أي الثاني (بها وإصابتُها) بأن يُولِجَ حشفتَهُ أو قدرَها من مقطوعِها ولو بحائلٍ في قُبُلِ المرأةِ لا في دُبُرِها بشرطِ الانتشارِ في الذَّكَرِ وكونِ الْمُولِجِ مِمَّن يُمْكِنُ جماعُهُ لا طفلًا (و)الرابعُ (بينونتُها منه) أي الثاني (و)الخامسُ (انقضاءُ عِدَّتِها منه) قال تعالى في سورةِ البقرةِ (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُۥ ۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ۗ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ) قوله تعالى (وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ) قال أبو جعفر الطبرِيُّ يعني تعالى ذِكْرُهُ بقولِه (وتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) هذه الأمور التي بينَّها لعبادِه في الطلاق والرجعة والفدية والعدة والإيلاء وغير ذلك مما يبينه لهم في هذه الآيات (حُدُودُ اللهِ) معالِمُ فصولِ حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته (يُبَيِّنُها) يفصِّلُها فيميِّزُ بينها ويُعَرِّفُ أحكامها لقوم يعلمونها إذا بيَّنَها الله لهم فيعرفون أنها من عند الله فيصدقون بها ويعملون بما أودعهم الله من علمه دون الذين قد طبع الله على قلوبهم وقضَى عليهم أنهم لا يؤمنون بها ولا يصدقون اهـ

    ووقوعُ الثلاثِ مجموعةً بلفظٍ واحدٍ ثلاثًا إجماعٌ نقله ابنُ الْمنذر وغيرُهُ وبه أفتَى الصحابة كابن عمر وابن عباس وعبد الله بن مسعود وغيرهِم وبه أفتَى التالعون وأتباعُهم كالشافعيِّ ومالكٍ وأبي حنيفة وأحمدَ وتتابع علماء الأمة على ذلك وخالفهم قومٌ منَ المتشبِّهينَ بالعلماءِ في أيامنا وذهبوا إلى عدمِ وقوعِ الثلاثِ وأنَّ عليه كفارة يمين فقط وأنه يجوز له أن يراجع زوجته من غير أن تنكح زوجًا ءَاخَرَ متَّبِعينَ في ذلك ابنَ تيميةَ الحفيدَ الحَرَّانِيَّ ولا عبرةَ بشذوذِهِ وخرقِهِ للإجماعِ الْمستقِرِّ مِن أيام الصحابة ولا في اقتدائهم به في ذلك بحيثُ يُحِلُّونَ الفُرُوجَ التي حرَّمها الله عزَّ وجَلَّ أعاذنا الله من ذلك. وللإمامِ الحافظِ تقِيِّ الدينِ السبكِيِّ عدةُ رسائلَ ردَّ فيها على ابنِ تيميةَ في هذه الْمسئلةِ طُبِعَتْ في ضمنِ مجموعةِ الدُّرَّةِ الْمُضِيَّةِ في الردِّ على ابنِ تيميةَ وللحافظِ ابنِ حجرٍ في الفتحِ تحقيقٌ جيدٌ للمسئلةِ وللشيخِ محمَّد زاهد الكوثرِيِّ مصنَّفٌ ممتعٌ في ذلك سماه الإشفاق على مسائل الطلاق ولشيخنا الهرريِّ بحوثٌ عديدةٌ في الأمرِ منها ما ضمَّنَهُ كتابَهُ صريحَ البيانِ فمن أرادَ زيادةَ اظلاعٍ فليرجعْ إليها.