(فصلٌ) في أحكامِ الحَضانةِ.
وهيَ لغةً مصدرُ حَضَنَ الصبيَّ جعلَهُ في حِضْنِهِ والحِضْنُ ما دونَ الإبْطِ غلى الكَشْحِ أي الجَنْبِ سُمِّيَ حضنًا لِضَمِّ الحاضنةِ الطفلَ إليه أو هو الصدرُ والعَضُدانِ وما بينهما. وشرعًا تربيةُ مَن لا يستقل بأموره لصغرٍ أو جنونٍ بفعلِ ما يصلحه ودفع ما يضره.
(وإذا فارق الرجلُ زوجتَهُ) بطلاقٍ أو فَسْخٍ أو غيرِهما (وله منها ولدٌ) ذكرٌ أو أنثى غيرُ مُمَيِّز (فهيَ) أي الأمُّ (أحقُّ بحضانتِه) أي تربيَتِهِ وتنميَتِهِ بما يُصلحُه بتعهُّدِهِ بإطعامِه وسَقْيِه وغسلِ بدنِه وثوبِه وتمريضِه وربطِه في الْمَهد وكَحْلِه ودهنِه وغيرِ ذلك مِن مصالحه وذلك لوُفُورِ شفقةِ الأمِّ. ومؤنةُ الحضانةِ على مَن عليه نفقةُ الطفل أو المجنون إن لم يكن له مالٌ وإلا فهيَ في ماله. ويَلي الأمَّ أمهاتُها الوارثاتُ لا مَن أدْلَتْ بذكرٍ كأمِّ ابي الأمِّ ويليهِنَّ الأبُ فأمهاتُه الوارثاتُ فالأقربُ منَ الحواشي ذَكَرًا كان كأخٍ وابنِ أخٍ أو أنثى كأختٍ وبنتِ أخٍ. وإذا امتنعَ مَن له الحضانةُ عنها أو غابَ أو ماتَ أو جُنَّ انتقلَت الحضانةُ لِمَن يَلِيه فلا يُجبر عليها عند الامتناع إلا أن تجبَ النفقةُ على الأمِّ كأن لم يكن للمحضون مالٌ ولا أبٌ فإنها تُجْبَرُ عندئذٍ على الحضانة.
وتستمِرُّ حضانةُ الزوجةِ (إلى) التميِيزِ ويكونُ غالبًا بعد مُضِيِّ (سبعِ سنينَ) ولذا عبَّر به المصنف وإلا فالْمدارُ على التمييز سواءٌ حصل في السبع أم قبلها أم بعدها وهو موكولٌ إلى رأيِ القاضي (ثم) متى ما ميَّزَ الصبيُّ أو الْمجنونُ فإنه (يُخَيَّرُ بين أبويه)سُلصالحَينِ للحضانة ولو كان أحدُهُما أكثرَ ديانةً أو مالًا أو محبةً منَ الآخَرِ (فَمَنِ اختارَ) منهما (سُلِّمَ إليه) لحديث أحمد والأربعة أنَّ امرأةً قالت يا رسولَ الله إنَّ زوجِي يريد أن يذهب بابنِي وقد نفعنِي وسقانِي مِن بئر أي عِنَبَة فجاء زوجُها فقال النبيُّ عليه الصلاة والسلام يا غلام هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيدِ أيِّهما شئتَ فأخذ بيد أمِّه فاطلقت به اهـ وإن لم يختَرْ أحدًا منهما فالأمُّ أولَى. وله بعد اختيارِ أحدِهِما أن يختارَ الآخرَ فيُحَوَّلُ إلى مَنِ اختارَهُ ثانيًا وهَلُمَّ جرًّا. وإذا اختارَ الذَّكَرُ أباه لم يمنعْهُ مِن زيارة أُمِّهِ أو اختارَ أُمَّهُ فيكون عندها ليلًا وعند الأب نهارًا ليعلِّمَهُ الأموَ الدِّينية والدُّنْيوية على ما يناسب حال الأب. وإن اختارَت الأنثى أو الخنثى كما بحثَهُ بعضُهُم أباها لم تُمْنَع الأُمُّ مِن زيارتها على العادة كمرةٍ في الأسبوع فإن كان منزلَهَا قريبًا فلا بأس أن تزورها كل يوم ولا تُطِيلَ الْمُكْثَ وإن اختارَت الأُنثى أمَّها فإنها تكون عندها ليلًا ونهارًا ويزورُها الأبُ على العادة ولا يَطلبُ مَن لم يقع الاختيارُ عليه إحضارَها عنده لتألفَ الصيانةَ وعدمَ الخروجِ. هذا كلُّهُ إن لم يكُن في أحدِ الأبوَينِ نقصٌ فإن كانَ كجنونٍ أو فِسْقٍ أو نَكَحَت الأُمُّ أجنبيًّا فالحقُّ للآخَرِ ما دام النقصُ قائمًا.
وإذا فُقِدَ الأبُ خُيِّرَ الولدُ بين الجَدِّ والأمِّ فإن فُقِدَ الجَدُّ قام مقامه مَنْ على حاشية النسب مِن أخٍ لأبوينِ ثم لأبٍ وابنِ أخٍ لأبوينِ ثم لأبٍ ثم عمٍّ ثم ابنِه. وإذا فُقِدَت الأُمُّ وقع التخييرُ بين الأب والجدَّةِ ثم بينَهُ وبين الأختِ أو الخالةِ والْمرادُ الأختُ الشقيقةُ أو لأُمٍّ لا الأختِ لأبٍ فإن لم يكن أبٌ فالوجهُ التخييرُ بين الأختِ أو الخالةِ وبقيةِ العصبةِ كما يُخَيَّرُ بينهم وبين الأمِّ. وظاهرُ كلامِهم أنَّ التخيِيرَ لا يَجرِي بينَ ذَكرَينِ ولا أُنثَتَينِ.
(وشرائطُ) استحقاقِ (الحضانةِ سبعٌ) وترجع إلى ستٍّ لأن العفة والأمانة يرجعان إلى شىء واحد وهو العدالة كما سيأتي. وزِيدَ عليها شرائطُ أُخَرُ منها أن لا يكونَ الحاضِنُ صغيرًا لأنها ولايةٌ وليس هو مِن أهلها ومنها أن لا يكونَ مُغَفَّلًا بحيث لا يَهتدِي إلى الأمور. فأحدُ السَّبْعِ (العقلُ) فلا حضانة لمجنونٍ أطبَقَ جنونُه أو تقطع نعم إن قلَّ جنونُه كيومٍ في سنةٍ لم يبطل حقُّ الحضانة بذلك. (و)الثاني (الحريةُ) الكاملةُ فلا حضانة لرقيقٍ كُلًّا أو بعضًا ذكرًا أو أنثى وإن أذن له سيدُهُ فيها. (و)الثالثُ (الدِّينُ) فال حضانَةَ لكافرٍ على مسلمٍ لأنه لا ولايةَ له عليه كما قال اللهُ تعالى (وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلً) ولأنه ربما فَتَنَهُ في دِينه فيحضُنُهُ أقاربُهُ الْمسلمون على الترتيب الْمتقدِّمِ فإن لم يُوجَدْ أحدٌ منهم حَضَنَهُ بقيَّةُ الْمسلمينَ. (و)الرابعُ والخامسُ (العفةُ والأمانةُ) وهما متلازمان إذِ العِفَّة الكفُّ عما لا يَحِلُّ ولا يُحْمَدُ والأمانةُ ضِدُّ الخيانة فكلُّ أمينٍ عفيفٌ وعكسُهُ فَيَئُولان إلى شرط واحد وهو العدالةُ ولو عبَّرَ به الْمصنفُ رحمه الله لكان أخصرَ فلا حضانة لفاسقٍ ولا فاسقةٍ ولا يُشترَط تحقُّقُ العدالةِ الباطنةِ أي التي ثبتَت عند القاضي بقول الْمُزَكِّينَ بل يُكتَفَى بالعدالة الظاهرة التي عُرفت بالْمعاملة والْمُخالطة. (و)السادسُ منَ الشروط وهو شرطٌ لاعتبارِ التفصيلِ الْمتقدمِ (الإقامةُ) لكلٍّ منَ الوالدَينِ في بلدِ الْمحضونِ بأن يكونَ أبواه مُقِيمَين في بلدٍ واحدٍ فلو اراد أحدُهُما سفر حاجةٍ كحجٍّ وتجارةٍ طويلًا كان السفرُ أو قصيرًا كان الْمحضونُ مع الْمُقِيم منَ الأبوَينِ حتى يعودَ الْمسافر منهما. ولو أراد أحدُ الأبوين سفرَ نُقْلَةٍ فالأبُ أَولَى مِنَ الأُمِّ بحضانتِهِ وإن كان هو الْمسافرَ فينزِعُهُ منها حفظًا للنَّسَبِ ومثلُ الأب بقيَّةُ العَصَبَةِ إن أُمِنَت الطريقُ والْمقصِدُ وإلا لم يسافر به وأُمُّهُ أَوْلَى به في هذه الحال للخوف عليه. (و)الشرطُ السَّابعُ (الخُلُوُّ) أي خُلُوُّ أمِّ الْمحضونِ (مِن زوجٍ) ليس مِن محارمِ الطفلِ إلا أن يرضَى الأبُ ويرضَى الزوجُ الأجنبيُّ بدخولِ الْمحضونِ بيتَه. فإن نَكَحَت مَن له حقٌّ في الحضانة كعمِّ الْمحضون أو ابنِ عمِّه قال في شرحِ الغزِّيِّ [أو ابن عمه أو ابن أخيه] وهذا خطأٌ لأنَّ ابنَ أخيه إما حفيدُها وإما ابنُ زوجِها ربيبُها وهو في الحالَينِ محرمٌ لا يجوزُ لها نكاحُهُ ورضِيَ الناكحُ بالمحضون لم تسقط حضانتُها بذلك بل تبقَى مع تَزَوُّجِها به ليتعاونا على كَفَالته.
(فإن اختلَّ شرطٌ منها) أي السبعةِ (سقطَت) الحضانةُ فيمن وُجِدَ الخللُ فيه وانتقلَت إلى مَنْ بعدَهُ. فإن زال الْمانعُ كأن أفاقَت الْمجنونةُ أو عَتَقَت الرقيقةُ أو أسلمَت الكافرةُ أو تابَت الفاسقةُ أو أقامَ الْمسافرُ أو طلقَت الْمنكوحةُ ولو طلاقًا رجعيًّا عادَت الحضانةُ ولو مِن غير تَوْلِيَةٍ جديدةٍ لزوال الْمانع وتستحق الْمطلَّقَةُ الحضانةَ في الحال ولو قبل انقضاء العِدَّة. واللهُ أعلم.
هذه ءَاخِرُ رُبعِ الأنكحةِ ويليهِ رُبعُ الدَّعاوَى والجناياتِ.