ومما يجب الحذَر منه ، ما في كتاب «فتح الباري بشرح صحيح»[(382)]، للحافظ ابن حجر العسقلاني (852هـ)، وهو ما نُبَرِّئ الحافظ ابن حجر من مثله، ففيه يقولون: «ثم أخرج طرفًا من متنه في كتاب التوحيد بصيغة التمريض فقال ويذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يحشر الله العباد فيناديهم بصوت الحديث وهذه الدعوى مردودة والقاعدة بحمد الله غير منتقضة ونظر البخاري أدق من أن يعترض عليه بمثل هذا فإنه حيث ذكر الارتحال فقط جزم به لأن الإسناد حسن وقد اعتضد وحيث ذكر طرقًا من المتن لم يجزم به لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ولو اعتضدت» اهـ.
تنبيه: من قال إن الله يتكلم بصوت، وقال إنه صوت أزلي أبدي ليس فيه تعاقب الحروف فلا يُكفَّر إن كان نيته كما يقول، وإلا فهو كافر كسائر المشبهة. وأما أحاديث الصوت فليس فيها ما يُحتج به في العقائد، وقد ورد حديثٌ مختلفٌ في بعض رواته وهو عبد الله بن محمد بن عقيل، روى حديثه البخاري بصيغة التمريض فقال (ويُذكر)، وفيه (فينادي بصوت يسمعه مَن بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ، أنا الملك أنا الديان)، وإنما ذَكَرَه البخاري بصيغة التمريض من أجل راويه هذا، وإن كان البخاري ذكر أوَّلَه في كتاب العلم بصيغة الجزم، لأنه ليس فيه ذكر الصوت، وإنما فيه ذكر رحيل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أُنَيس من المدينة إلى مصر.
والحديث الآخر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : يقول الله يوم القيامة: يا ءادم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تُخرج من ذريتك بعثًا إلى النار. هذا اللفظ رواه البخاري على وجهين، بعضهم رواه بكسر الدال وبعضهم رواه بفتح الدال.
قال الحافظ ابن حجر: [(383)] «ووقع فينادي مضبوطًا للأكثر بكسر الدال، وفي رواية أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول، ولا محذور في رواية الجمهور، فإن قرينة قوله: إن الله يأمرك، تدل ظاهرًا على أن المنادي ملكٌ يأمرُه الله بأن ينادي بذلك. وهذا الحديث رواه البخاري موصولاً مسندًا، لكنه ليس صريحًا في إثبات الصوت صفة لله فلا حجة فيه لذلك للصوتية» اهـ.
وهناك حديث ءاخر: «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئًا». ورواه أبو داود -في سننه: كتاب السنة: باب في القرءان – بلفظ: «سمع أهل السماء للسماء صلصلة حجر (انا الذي اعرفه وسمعته ووجدته في الكتب كجر وليس حجر) السلسلة على الصفوان». وهذا قد يحتج به المشبهة، وليس لهم فيه حجة لأنه الصوت خارج من السماء، فالحديث فسر الحديث بأن الصوت للسماء، فتبين أن قول الحافظ ابن حجر في موضع من الشرح: إن إسناد الصوت إلى الله بهذه الأحاديث الصحيحة فيه نظر فليُتأمَّل.
فالحاصل أنه ليس في إثبات الصوت لله تعالى حديث مع الصحة المعتبرة في أحاديث الصفات، لأن أمر الصفات يُحتاط فيه ما لا يُحتاط في غيره، يدل على ذلك رواية البخاري القدْرَ الذي ليس فيه ذكر الصوت من حديث جابر هذا بصيغة الجزم، وروايته للقدر الذي فيه ذكر الصوت بصيغة التمريض أي غير الجزم.
( ومن أراد زيادة العلم بحال هذا الحديث وبعض الأحاديث الأخرى التي ورد فيها ذكر الصوت من حيث الإسناد وكيف أنها ضعيفة لا يُحْتَج بها فعليه بجزء الحافظ أبي المكارم الذي ألفه فى هذا الموضوع فإنه بيّن حالها كلها وبيّن أنها كلها ضعيفة من حيث الصناعة الحديثية فلا يُحتجُّ بها).
وفيه[(384)] «فالنبي في العرف هو المنبأ من جهة الله بأمر يقتضي تكليفًا وإن أمر بتبليغه إلى غيره فهو رسول والا فهو نبي غير رسول» اهـ. وهذا غلط شنيع، كيف يقولون عن النبي غير الرسول أنه ليس مأمورًا بالتبليغ؟! إذا كنا نحن مأمورون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، فكيف بالنبي؟! أيكون نبيًّا لنفسه؟! فالنبي الرسول والنبي غير الرسول كلاهما مأمور بالتبليغ، والفرق بينهما أن النبي الرسول جاء بشرع جديد، والنبي غير الرسول جاء باتباع شرع الرسول الذي كان قبله، قال تعالى {…فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} ، فهل بعد هذه الآية كلام؟!
ـ[382] فتح الباري بشرح صحيح (دار الريان للتراث – القاهرة، الطبعة الأولى 1407هـ، الجزء الأول ص/209 – 210).
ـ[383] فتح الباري (ج13/ص393).
ـ[384] فتح الباري (ج11/ص115).