فائدة يعرف بها أن أرواح البشر كانت كلُّها مؤمنة وإنما كفر من كفر بعد تلبسها بالجسد وبروزِها من بطون الأمهات
روى الحاكم [(1175)] في المستدرك عن أبيّ بن كعب في قوله تعالى في سورة الأعراف ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ … *﴾ الآية قال: «جمعهم له يومئذ جميعًا ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحًا ثم صوَّرهم واستنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ *﴾ [سورة الأعراف]. قال فإني أُشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأُشهد عليكم أباكم ءادم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم أو تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين فلا تشركوا بي شيئًا فإني أُرسل إليكم رسلي يُذكرونكم عهدي وميثاقي وأُنزل عليكم كتبي فقالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا ربَّ لنا غيرُك ولا إله لنا غيرك، ورُفِعَ لهم أبوهم ءادم فنظر إليهم فرأى فيهم الغنيَّ والفقير وحسن الصورة وغيرَ ذلك فقال يا رب لو سوَّيتَ بين عبادك فقال إني أحب أن أشكر. ورأى فيهم الأنبياء مثل السرُج وخصُّوا بميثاق ءاخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ … *﴾ [سورة الأحزاب] الآية وهو قوله ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ …*﴾ [سورة الروم] وذلك قوله ﴿ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى *﴾ [سورة النجم] وقوله ﴿ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ *﴾ [سورة الأعراف] وهو قوله ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ … *﴾ [سورة يونس] كان في علمه بما أقروا به من يكذب به ومن يصدق به فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق من زمن ءادم فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيًّا *فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا *﴾ إلى قوله ﴿… مَقْضِيًّا *﴾» اهـ[سورة مريم] ولا يخفى أنَّ لهذا الموقوف حكم الرفع.
فإن قيل ما السبب في أن الناس لا يذكرون ذلك؟ أجيب بأنهم كانوا أرواحًا مجردة والذكر إنما هو بحاسة بدنية أو متعلقة بالبدن والبدن وقواه ومتعلقاته إنما حدث بعد ذلك. وهذا السؤال كمن يقول لو كان زيد حضر عند السلطان لكان ثوبه عليه وهو غير لازم لجواز حضوره مجردًا عن لباس ويحتمل أن يكون تجرد النفس شرطًا في ذلك أو تعلقها بالبدن مانعًا منه فإذا تجردت بالموت كشف عنها غطاؤها فأبصرت ما بين يديها ووراءها. فإن قيل كيف قامت عليهم الحجة الآن بذلك الإقرار وهم لا يذكرونه؟ فالجواب أنه ليس المراد إقامة الحجة عليهم الآن بل يوم القيامة بأن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين وهم يومئذ يذكرون ذلك المقام إما بخلق الذكر فيهم أو بإزالة الموجب للنسيان ثم لا يمتنع قيام الحجة عليهم بما لم يذكروا كما لزمهم الإيمان بما لم يدركوا ولأن الصادق أخبرهم بوقوع ذلك المقام فلزمهم تصديقه ثم تقوم الحجة عليهم بذلك والله تعالى أعلم.
ـ[1175] كانت مؤمنةً صالحةً وجاءَ في قصّتِهَا أنّها بينَما كانت تمشطُ رأسَ بنت فرعون سَقَطَ المشطُ من يدِها فقالت بسمِ الله فسألتها بنتُ فرعون أَوَلَكِ ربٌّ إلهٌ غير أبي، فقالت الماشطةُ ربّي وربُّ أبيكِ هو الله، فقالت أأخبر أبي بذلك، قالت أخبريهِ، فأخبرتهُ فطلبَ منها الرُّجوعَ عن دينها فأبت فحمَّى لها ماءً حتّى صارَ متناهيًا في الحرارةِ فألقى فيه أولادَها واحدًا بعد واحدٍ، ثمَّ لما جاءَ الدَّورُ إلى طفلٍ كانت ترضعُهُ تقاعَسَت أي صارَت كأنّها تَتَرَاجَعُ وازداد خوفُها وانزعاجُها وقَلَقُهَا فأَنطَقَ الله تعالى الرَّضيعَ فقالَ «يا أمّاهُ اصبري فإنّ عذابَ الآخرةِ أشدُّ من عذابِ الدّنيا فلا تتقاعسي فإنَّكِ على الحَقّ» فتجالدَت فرمَى الطفلَ، فقالت لفرعون لي عندكَ طلبٌ أن تجمعَ العظامَ وتدفنها، فقالَ لَكِ ذلكَ، ثمَّ ألقاهَا فيه.