فائدة مهمة في تنزيه الله تعالى عن المكان والحد
قال بدر الدين بن جماعة ما نصه [(368)]: «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ينزل ربنا كلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر» الحديث ورواه أبو سعيد «إن الله يمهل حتى إذا كان ثلث الليل ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من تائب يتوب». اعلم أن النزول الذي هو الانتقال من علو إلى سفل لا يجوز حمل الحديث عليه لوجوه:
الأول النزول من صفات الأجسام والمحدثات ويحتاج إلى ثلاثة أجسام منتقِل ومنتَقَل عنه ومنتَقَل إليه، وذلك على الله تعالى محال.
الثاني لو كان النزول لذاته حقيقة لتجدَّدت له في كل يوم وليلة حركات عديدة تستوعب الليل كله وتنقلات كثيرة لأن ثلث الليل يتجدد على أهل الأرض مع اللحظات شيئًا فشيئًا، فيلزم انتقاله في السماء الدنيا ليلًا ونهارًا من قوم إلى قوم وعوده إلى العرش في كلّ لحظة على قولهم ونزوله فيها إلى سماء الدنيا، ولا يقول ذلك ذو لُبّ وتحصيل.
الثالث أن القائل بأنه فوق العرش وأنه ملأه كيف تسعه سماء الدنيا وهي بالنسبة إلى العرش كحَلْقَة في فلاة فيلزم عليه أحد أمرين إما اتساع السماء الدنيا كل ساعة حتى تسعه أو تضاؤل الذات المقدس حتى تسعه ونحن نقطع بانتفاء الأمرين.
الرابع إن كان المراد بالنزول استماع الخلق إليه فذلك لم يحصل باتفاق وإن كان المراد به النداء من غير إسماع فلا فائدة فيه ويتعالى الله عن ذلك.
إذا ثبت ذلك فقد ذهب جماعة من السلف إلى السكوت عن المراد بذلك النزول مع قطعهم بأن ما لا يليق بجلاله تعالى غير مراد وتنزيهه عن الحركة والانتقال.
قال الأوزاعي وقد سئل عن ذلك فقال يفعل الله ما يشاء» اهـ. وحكى ابن فورك [(369)] أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوَّله على حذف المفعول أي ينزل ملكًا، ويقوّيه حديث النسائي [(370)] عن أبي هريرة وأبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديًا ينادي يقول: هل من داع فيستجاب له» الحديث. وصححه عبد الحقّ [(371)].
وقال الإمام أبو القاسم الأنصاري النيسابوري شارح كتاب الإرشاد لإمام الحرمين [(372)] بعد كلام في الاستدلال على نفي التحيز في الجهة عن الله تعالى ما نصه: «ثم نقول سبيل التوصل إلى دَركِ المعلومات الأدلة دون الأوهام، ورُب أمر يتوصل العقل إلى ثبوته مع تقاعد الوهم عنه، وكيف يدرِك العقل موجودًا يحاذي العرش مع استحالة أن يكون مثل العرش في القدر أو دونه أو أكبر منه، وهذا حكمُ كلّ مختص بجهة. ثم نقول الجوهر الفرد [(373)] لا يتصور في الوهم وهو معقول بالدليل، وكذلك الوقت الواحد والأزل والأبد، وكذلك الروح عند من يقول إنه جسم، ومن أراد تصوير الأرض والسماء مثلًا في نفسه فلا يتصور له إلا بعضها، وكذلك تصوير ما لا نهاية له من معلومات الله تعالى ومقدوراته، فإذا زالت الأوهام عن كثير من الموجودات فكيف يُطْلَبُ بها القديم سبحانه الذي لا تشبهه المخلوقات فهو سبحانه لا يُتصور في الوهم فإنه لا يُتصور إلا صورةٌ ولا يُتَقَدَّرُ إلا مُقَدَّرٌ قال الله تعالى ﴿ … لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … *﴾ ومن لا مثل له لا يتمثل في الوهم، فمن عرفه عرفه بنعت جلاله بأدلة العقول وهي الأفعال الدالة عليه وعلى صفاته، وقد قيل في قوله تعالى ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى *﴾ إليه انتهى فكر من تفكَّر هذا قول أبيّ بن كعب وعبد الرحمن بن أنْعُم، وروى أُبيّ ابن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا فِكْرَةَ في الرب» وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا ذكر الله تعالى فانتهوا»، وقال «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق».
فإن قيل كيف يعقل موجود قائم بالنفس ليس بداخل العالم ولا خارج منه؟
قلنا: عرفتم استحالة ذلك ضرورة أم دلالة، وقد أوضحنا معنى مباينته بالنفس وهكذا الجواب عن قولهم خلق الله العالم في نفسه أم مباينًا عنه.
قلنا – أي على زعمكم ـ: خلقه على مقدار نفسه أو أكبر منه أو أصغر أو فوق نفسه أو تحته.
ثم نقول: حروف الظروف [(374)] إنما تستعمل في الأجرام المحدودة [(375)] وكذلك الدخول والخروج من هذا القبيل وكذلك المماسة والمباينة وقد أجبنا عن المباينة.
فإن قالوا: كيف يُرى بالأبصار من لا يتحيز ولا يقوم بالمتحيز. قلنا: الرؤية عندنا لا تقتضي جهة ولا مقابلة وإنما تقتضي تعيين المرئي وبهذا تتميز عن العلم فإن العلم يتعلق بالمعدوم وبالمعلوم على الجملة تقديرًا، وكذلك لا تقتضي اتصال شعاع بالمرئي فهي كالعلم أو في معناه.
فإن قيل: ألستم تقولون الإدراك يقتضي نفس المدرَك.
قلنا: لا يقتضي تعينه ولا تحديده.
فإن قالوا: كيف يُدرك وجود الإله سبحانه.
قلنا: لا كيفية للأزلي ولا حيث لهُ وكذلك لا كيفية لصفاته، ولا سبيل لنا اليوم إلى الإخبار عن كيفية إدراكه ولا إلى العلم بكيفية إدراكه، وكما أن الأكمه الذي لا يُبصر الألوان إذا سئل عن الميْز بين السواد والبياض والإخبار عن كيفيتهما فلا جواب له، كذلك نعلم أن من لا جهة له لا يشار إليه بالجهة. فإن قالوا: من أبصر شيئًا يمكنه التمييز بين رؤيته لنفسه وبين رؤيته ما يراه، فإذا رأيتم الإله سبحانه كيف تميزون بين المرئيين، قلنا: من لا جهة له لا يشار إليه بالجهة ومن لا مثل له لا إيضاح له بالمثال، ومن لا أَشْكَالَ له فلا إشْكَال فيه.
ثم نقول لهم: أنتم إذا رأيتم الإله كيف تميّزون بينه وبين العرش وهو دونه سبحانه بالرؤية، أتميّزون بينهما بالشكل والصورة أم باللون والهيئة، ومن أصلكم أن المرئي شرطُه أن يكون في مقابلة الرائي، وكيف يَرى القديم سبحانه نفسَه، وكيف يَرى الكائنات مع استتار بعضها ببعض فلا يَرى على هذا الأصل بطون الأشياء، وهذا خلاف ما عليه المسلمون، وإذا كان العرش دونه فلا يَحجبه عنَّا حالةَ الرؤية [(376)]، قال الأستاذ أبو إسحق: من رأى الله تعالى فلا يَرى معه غيرَه – أي في حال رؤيته للحق – فاندفع السؤال على هذا الجواب اهـ.
[368] الجوهر الفرد هو الجزء الذي لا يتجزأ لتناهيه في القلة وسمي جوهرًا لأن الجسم يتركب من جوهرين فردين فأكثر.
ـ[369] هي حروف الجر التي تدل على الظرفية كفي وعلى.
ـ[370] أي على وجه الحقيقة أي للدلالة على الظرفية الحقيقية التي هي احتواء حيز للجسم أو جسم لجسم ءاخر ولكنها تستعمل أيضًا على وجه المجاز كقوله تعالى: { … أَفِي اللَّهِ شَكٌّ … *} [سورة إبراهيم]، أو يكون مراد المؤلف أن حروف الظروف لا تستعمل على معنى الظرفية في حق الله تعالى إنما تستعمل على هذا المعنى في حق الأجرام.
ـ[371] أي على زعمكم العرش دونه بالجهة فكيف لا يحجبه عنا؟!
ـ[372] شرح الإرشاد (ق/60).ـ[373] أي من المجسمة من منع إطلاق لفظ الحد على الله لكنه أثبت الحد لله من حيث المعنى.
ـ[374] أصول الدين (ص/77).
ـ[375] تفسير الأسماء والصفات (ق/188).
ـ[376] تقدم تخريجه.