الأحد ديسمبر 22, 2024

فائدة عظيمة النفع في تنزيه الله عن الجهة والمكان

الله تعَالى غَنِيٌّ عن العَالمينَ أي مُسْتَغنٍ عَن كُلّ ما سِوَاهُ أَزَلا وأَبَدًا فَلا يَحْتَاجُ إلى مَكَانٍ يتحيز فيه أو شَىءٍ يَحُلُّ به أو إلى جِهَةٍ لأنه ليس كشىءٍ منَ الأشياء ليس حجمًا كثيفًا ولا حجمًا لطيفًا والتحيزُ من صفاتِ الجسمِ الكثيفِ واللطيفِ فالجسمُ الكثيفُ والجسمُ اللطيفُ متحيزٌ في جهةٍ ومكانٍ قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ *وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ *} [سورة الأنبياء] فأثبتَ الله تعالى لكل من الأربعة التحيز في فلكه وهو المدار.

ويَكفِي في تَنزِيهِ الله عن المَكَانِ والحَيّزِ والجِهَةِ قَولُه تَعالى: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ… *} [سورة الشورى] لأنه لَو كَانَ لَه مَكانٌ لَكَانَ لَهُ أَمثَالٌ وأبعَادٌ طُولٌ وعَرْضٌ وعُمْقٌ، ومَنْ كَانَ كذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا مُحْتَاجًا إلى من حَدَّهُ بِهَذَا الطُّولِ وبِهَذَا العَرْضِ وبِهَذَا العُمْقِ، هذَا الدليلُ منَ القُرءانِ.

أمَّا مِنَ الحَدِيثِ فما رَواه البُخَارِيُّ وابنُ الجارودِ والبَيْهقيُّ بالإسْنادِ الصَّحِيحِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: «كانَ الله ولَم يكن شَىءٌ غَيرُهُ» ، ومَعناهُ أنَّ الله لم يَزَلْ مَوْجُودًا في الأَزَلِ لَيسَ مَعَهُ غيرُه لا مَاءٌ ولا هَواءٌ ولا أَرْضٌ ولا سَماءٌ ولا كُرْسيٌّ ولا عَرْشٌ ولا إنْسٌ ولا جِنٌّ ولا مَلائِكَةٌ ولا زَمَانٌ ولا مَكانٌ ولا جِهاتٌ، فَهُو تَعَالَى مَوجُودٌ قَبْلَ المَكَانِ بِلا مَكَانٍ، وهُو الّذي خَلَقَ المَكَانَ فَلَيسَ بِحَاجَةٍ إلَيهِ، وهَذا ما يُسْتَفادُ منَ الحدِيثِ المَذْكُورِ.

وقالَ البيهقيُّ في كتابِه «الأسماءُ والصّفَاتُ»: «اسْتَدَلَّ بَعْضُ أصْحَابِنا في نَفْي المَكَانِ عَنْهُ بِقَولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيسَ فَوقَكَ شَىءٌ وأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُوْنَكَ شىءٌ» رواه مسلم، وإذَا لَم يَكُن فوقَهُ شَىءٌ وَلا دُونَهُ شَىءٌ لَم يَكُن فِي مَكَانٍ» اهـ.

وهَذَا الحَدِيثُ فِيه الرّدُّ أَيضًا عَلى القَائِلينَ بالجِهَةِ في حَقّهِ تَعَالَى. وقَد قَالَ عليٌّ رضيَ الله عنه: «كانَ الله ولا مكانَ وهوَ الآنَ على ما عليْهِ كَانَ» رواهُ أبو منْصُورٍ البَغْدَادِيُّ.

ولَيْسَ مِحْورُ الاعْتِقَادِ علَى الوَهْمِ بَل عَلَى ما يَقْتَضِيهِ العَقْلُ الصَّحِيحُ السَّلِيمُ الذي هُوَ شَاهِدٌ للشَّرْعِ، وذَلِكَ أن المحدودَ محتاجٌ إلى من حدَّه بذلكَ الحدّ فلا يكُون إلهًا.

فَكَمَا صَحَّ وجُودُ الله تَعَالَى بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ قَبْلَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ والجِهَاتِ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ وجُودُهُ بَعْدَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ بِلا مَكَانٍ وجِهَةٍ، وهَذَا لا يكونُ نَفيًا لِوجُودِهِ تَعَالى كما زعمت المشبّهةُ والوهابيّةُ وهم الدُّعاةُ إلى التّجسيمِ في هذا العصرِ.

وحُكْمُ مَن يَقُولُ: «إنَّ الله تَعالى في كُلّ مَكَانٍ أَو في جَمِيع الأَمَاكِنِ» التَّكْفِيْرُ إذا كَانَ يَفهَم من هَذِهِ العِبَارَةِ أنَّ الله بذاتِهِ مُنْبَثٌّ أوْ حَالٌّ في الأَمَاكِنِ، أَمَّا إذا كَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ العِبَارَةِ أَنَّهُ تَعَالى مُسَيطِرٌ عَلَى كُلّ شَىءٍ وعَالِمٌ بكُلّ شَىءٍ فلا يكفُرُ، وهَذَا قَصْدُ كَثِيْرٍ مِمَّن يَلْهَجُ بِهَاتَيْن الكَلِمَتَينِ، ويَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُمَا على كُلّ حَالٍ، لأنهما ليستا صادرتين عن السّلَف بل عن المعتزلة ثم استعملهما جهلَةُ العَوامّ.

ونَرفَعُ الأَيدِيَ في الدُّعاءِ للسَّمَاءِ لأَنَّها مَهْبِطُ الرَّحمَاتِ والبَركاتِ ولَيْسَ لأَنَّ الله مَوجودٌ بِذَاتِهِ في السَّمَاءِ، كَما أنّنَا نَسْتَقْبِلُ الكَعْبَة الشَّرِيْفَة في الصَّلاةِ لأَنَّ الله تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ وَلَيْسَ لأَنَّ لَهَا مِيزَةً وخُصوصِيَّةً بسُكْنى الله فيها.

ويكْفُر من يَعتقدُ التّحيُّزَ لله تَعالى، أوْ يَعتقِدُ أنَّ الله شَىءٌ كالهَواءِ أوْ كالنُّورِ يَملأُ مكَانًا أو غُرفةً أو مَسْجدًا ويُرَدُّ على المعتقدِين أنَّ الله متحيزٌ في جهةِ العلوِ ويقولون لذلك تُرفعُ الأيدي عند الدعاء بما ثَبتَ عن الرسولِ أنه استَسْقَى أي طلَبَ المطَرَ وجعلَ بَطْنَ كفَّيهِ إلى الأرضِ وظاهرَهُمَا إلى السماءِ وبأنه صلى الله عليه وسلم نهَى المصلي أن يرفعَ رأسَهُ إلى السماءِ، ولو كان الله متحيزًا في جهةِ العلوِ كما تظنُّ المشبهةُ ما نهانا عن رفعِ أبصارِنا في الصلاةِ إلى السماءِ، وبأنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع إصبعه المسبحة عند قول «إلا الله» في التحيات ويحنيها قليلا فلو كان الأمرُ كما تقولُ المشبهةُ ما كان يحنيها بل يرفعُها إلى السماءِ وكلُّ هذا ثابتٌ حديثًا عند المحدِّثين. فماذا تفعلُ المشبهةُ والوهابيةُ؟!

ونسمّي المسَاجِدَ بُيوتَ الله لا لأنَّ الله يَسكنُها بل لأنَّها أمَاكنُ مُعَدَّة لذكرِ الله وعبادتِهِ، ويقالُ في العرشِ إنه جرمٌ أعدَّه الله ليَطوفَ به الملائكةُ كما يطوف المؤمنونَ في الأرض بالكعبةِ. وفي البخاري أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، فلو تُرك الحديث على ظاهره لكان الله بزعمهم تحت الأرض أي تحت رجلي المصلي والعياذ بالله.