الأحد ديسمبر 22, 2024

غزوة عمرة الحديبية

الحادية والعشرون غزوة عمرة الحديبية [36]: وهي تلي المصطلق عدها بعضهم من الغزوات، خرج إليها في ذي القعدة سنة ست معتمرًا لا يريد حربًا واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من العرب وساق الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه وليعلم الناس أنه خرج زائرًا للبيت معظمًا [له]، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال: قريش سمعت بك فخرجوا معهم العوذ المطافل قد لبسوا جلود النمور ونزلوا بذي طوى وتعاهدوا أن لا تدخلها عليهم أبدًا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قدموها إلى كراع الغميم، فقال المصطفى: “يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين العرب فإن أصابوني كان الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين أو قاتلوا وبهم قوة، فما تطلب قريش فوالله لا زلت أجاهد على ما بعثت به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة” فسار حتى إذا سلك ثنية المراد بركت ناقته فقالت الناس خلأت [فقال: “ما خلأت] وما هو لها بخلق لكن حبسها حابس الفيل عن مكة لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها”، فلما اطمأن أتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة فسألوه ما جاء به، فأخبرهم أنه لن يات لحرب بل زائرًا فرجعوا لقريش فقالوا: إنكم تعجلون على محمد إنه لم يأت لقتال فاتهموهم وجبهوهم وقالوا: وإن كان لا يريد قتالًا لا يدخلها عنوة أبدًا، ثم بعثوا إليه بكرز بن حفص أخي بني عامر فلما رءاه مقبلًا قال: “هذا رجل غادر” فكلمه فقال له نحوًا مما قاله لبديل فرجع إل قريش فأخبرهم، ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان سيد الأحابيش فلما رءاه قال: “هذا من قوم يتباهون فابعثوا الهدي في وجهه ليراه” فلما رءاه في قلائده رجع إلى قريش ولم يصل إلى المصطفى إعظامًا لما رأى فقال لهم ذلك فقالوا له: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك، فغضب فقال: ما على هذا حالفناكم ولا عليه عاهدناكم أيُصدُّ عن بيت الله من جاء معظمًا له والذي نفسي بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء به أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد فقالوا: كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما ترضى به، ثم بعثوا عروة بن مسعود الثقفي فأتاه فقال: يا محمد جمعت أوباش الناس ثم جئت إلى بيضتك لتفضها بهم إنها قريش لبسوا جلود النمور متعاهدين لا تدخلها عنوة أبدًا، وأيم الله كأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك فرد عليه أبو بكر وقال: أنحن ننكشف عنه، ثم جعل عروة يتناول لحية المصطفى وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأسه في الحديد فجعل يقرع يده ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن نصل إليك فيقول عروة: ما أفظك وأغلظك، فتبسم المصطفى فقال: من هذا يا محمد قال: “ابن أخيك المغيرة” قال: أي غدر وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس يريد أن المغيرة كان قد قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلًا من ثقيف فتهايج الحيان من ثقيف رهط المقتولين والأحلاف رهط المغيرة فودى عروةُ المقتولين ثلاث عشرة دية وأصلح الأمر، وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بنحو ما كلم أصحابه فقام من عنده وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ولا يبصق بصاقًا إلا ابتدروه ولا تسقط منه شعرة إلا أخذوها، فرجع فقال: يا معشر قريش جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه فما رأيت ملكًا قط كمحمد في أصحابه، رأيت قومًا لا يسلمونه أبدًا فرَوا رأيكم، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية الخزاعي فحمله على بعير وبعثه لقريش يبلغ أشرافهم ما جاء به، فعقروا بعيره وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش، وبعثت قريش خمسين رجلًا طافوا بالعسكر ليصيبوا منهم أحدًا فأُخذوا فخلى المصطفى سبيلهم، ثم دعا عمر ليبعثه إلى مكة فقال: أخاف قريشًا على نفسي وليس بمكة من بني عدي أحد يمنعني وقد عرفت قريشًا عداوتي إياها وغلظتي عليها، وأدلك على رجل أعز بها مني عثمان، فبعثه فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مة فجعله بين يديه ثم أجاره وقال: أقبل وأدبر ولا تخف، بنو سعيد أعزة الحرم، فأتى عظماء قريش فبلغهم رسول الله، فاحتبسته قريش عندها، فبلغ المصطفى أنه قتل فقال: “لا نبرح حتى نناجز القوم” ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة فبايعهم على الموت، ثم بان أن قتل عثمان باطل، ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو فلما رءاه مقبلًا قال: “قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا” فتكلم فأطال وتراجعا ثم جرى الصلح على أن يرجع عنهم عامهم، فوثب عمر رضي الله عنه حتى أتى أبا بكر رضي الله عنه فقال: أليس برسول الله؟ قال: بلى قال: ألسنا بالمسلمين وهم بالمشركين؟ قال: بلى قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا قال: يا عمر الزم [غرزه] فأنا أشهد أنه رسول الله قال: وأنا، ثم أتى رسول الله وقال له ذلك فقال: “أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره” ثم دعا عليًّا فقال: “اكتب بسم الله الرحمن الرحيم” فقال سهيل: لا أعرف الرحمن اكتب باسمك اللهم فقال المصطفى: “اكتب” فكتبها ثم قال: “اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله” قال: لو شهدنا أنك رسول الله لم نقاتلك اكتب اسمك واسم أبيك قال: “اكتب هذا [ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو]”، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه، ومن أحب أن يدخل في عهد [محمد دخل، ومن أحب أن يدخل في عهد] قريش دخل، فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد، وبنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وإن ترجع عنا عامك فإذا كان عام قابل خرجنا فدخلتها بصحبك فأقمت بها ثلاثًا معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها، وقد كان الصحابة خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رءاها المصطفى فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع دخلهم أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، فقام المصطفى إلى هديه فنحره ثم حلق رأسه وأهدى عامئذٍ في هداياه جملًا لأبي جهل في أنفه برة من فضة ليغيظ المشركين، فلما رءاه الناس نحر وحلق فعلوا كذلك فكان صلح الحديبية فتحًا قريبًا أمن الناس بعضهم بعضًا والتقوا وتفاوضوا الحديث فدخل الإسلام في تلك السنتين مِثلُ ما كان فيه قبل أو أكثر، بدليل أنه خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بعامين في عشرة ءالاف ونزل في شأن ذلك سورة الفتح بين الحرمين، والقصة فيها طولٌ، وفي هذا القدر كفاية.

[36] راجع تفصيل هذه الغزوة في: طبقات ابن سعد [2/72]، السيرة النبوية [2/308]، تاريخ ابن جرير [2/115]، الدرر [ص/204]، عيون الأثر [2/154]، الكامل [2/200]، فتح الباري [7/439].