غزوة ذي قَرَد
التاسعة عشرة غزوة ذي قَرَد [33]: بفتح القاف والراء وحكى السهيلي ضمهما، على بريد من المدينة في طريق الشام، وذلك أن المصطفى لما قدم من بني لحيان لم يقم إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة بن حصن في أربعين فارسًا من غطفان على لقاح المصطفى بالغابة وكانت عشرين وفيها أبو ذر ورجل من غفار وامرأته فقتلوا الرجل وأخذوا المرأة واللقاح، وكان أول من نذر بكسر المعجمة أي علم بهم سلمة بن الأكوع غدا يريد الغابة متوشحًا قوسه وسيفه ونبله ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرس يقوده، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى خيولهم فصرخ: واصباحاه وهي كلمة يقولها المستغيث، ثم خرج يشتد في ءاثار القوم وكان كالسبع حتى لحقهم فجعل يرميهم بالنبل ويقول إذا رمى: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع أي يوم هلاك الرضع وهم اللئام، فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربًا ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمي رمى وقال: خذها وأنا ابن الأكوع إلخ فيقول قائلهم أو يكعنا هو أول النهار، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم صياح ابن الأكوع فصرخ بالمدينة: “الفزع يا خيل الله اركبي” وخرج مقنعًا بالحديد فترامت الخيل إليه فكان أول من انتهى إليه من الفرسان المقداد بن الأسود ثم عباد بن بشر ثم سعد بن زيد الأشهليان وفرسان، فلما اجتمعوا أمّر عليهم سعد بن زيد هذا هو الأصح وقيل: المقداد وقال: اخرج في طلبهم حتى ألحقك بالناس، وقال لأبي عياش الزرقي: لو أعطيت هذا الفرس أفرس منك يلحق، فقال: أنا أفرس الناس فضرب فما جرى سوى خمسين ذراعًا حتى طرحه، فعجب فأعطاه غيره، وكان أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة ويقال له: قمير فقتل ولم يقتل من المسلمين غيره، وقيل: قتل معه وقاص المدلجي، ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة بن حصن وغشاه ببردته، وقال الدمياطي: إنما قتله المقداد، وقتل أبو قتادة مسعدة الفزاري رئيس المسلمين، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين لما رأوا القتيل مغشى بالبردة استرجع الناس وقالوا: قتل أبو قتادة، فقال المصطفى: “ليس به لكنه قتيل له وضع عليه بردته لتعلموا أنه صاحبه”، وأدرك عكاشة بن محصن أوبارًا وسماه ابن سعد أوثارًا بمثلثة وابن عائذ [إيارًا] بكسر الهمزة وابنه عمرو بن أوبار على بعير فانتظمهما بالرمح فقتلهما واستنقذوا بعض اللقاح، وفي صحيح مسلم [34] جميعها، وفيه عن سلمة بن الأكوع أنه طردهم وقال: ما زلت أرميهم فأعقرهم فإذا رجع إلى فارس أتيت شجرة فجلست فيها ثم رميته فعقرت به، حتى إذا تضايق الجبل رميتهم بالحجارة فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، ثم أتبعهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة يستخفون فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله أولهم الأخرم الأسدي على إثره أبو قتادة الأنصاري وعلى إثره المقداد فأخذت بعنان الأخرم فقلت: احذرهم لا يقتطعونك حتى يلحقك الناس، فقال: إن كنت تؤمن بالله وتعلم أن الجنة والنار حق فلا تحل بيني وبين الشهادة، فالتقى هو وعبد الرحمن بن عيينة بن حصن فنفر بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتجول على فرسه فلحق أبو قتادة بعبد الرحمن فطعنه، وسار المصطفى حتى نزل بالجبل من ذي قرد، قال سلمة: فجئته وهو على الماء وإذا بلال قد نحر ناقة ويشوي للمصطفى من كبدها وسنامها، فقلت: يا رسول الله خلني انتخب من القوم مائة فأتبع القوم فلا يبقى منهم مخبرٌ إلا قتلته، فضحك حتى بدت نواجذه في ضوء النهار وقال: “أتراك كنت فاعلًا” قلت: نعم والذي أكرمك [بالنبوة] قال: “إنهم الآن يقرون بأرض غطفان” وأقام يومًا وليلة يتجسس الخبر وصلى بهم صلاة الخوف وقسم في كل مائة من صحبه جزورًا ينحرونها وكانوا خمسمائة وقيل: سبعمائة، واستعمل على المدينة ابن أم متوم وخلَّف سعد بن عبادة في ثلاثمائة يحرسون المدينة وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحمال التمر وعشر جزائر فوافته بذي قرد وقال المصطفى: “خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة”، ورجع قافلًا وأردف سلمة خلفه على العضباء، وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة من إبل المصطفى فأخبرته الخبر وأنها نذرت إن نجاها الله عليها أن تنحرها فتبسم وقال: “بئسما جزيتيها”، وأخبرها بأنه لا نذر في نعصية ولا فيما لا تملك، وأخذ ناقته وقال: “ارجعي إلى أهلك”. وذكر الزبير هنا معجزة وهو أن المصطفى نزل في هذه الغزوة على ماء فسأل عن اسمه فقيل: بيسان وهو مالح، فقال: “بل هو نعمان وهو طيب” فغير رسول الله الاسم وغير الله الماء فاشتراه طلحة بن عبيد الله ثم تصدق به، وقال المصطفى: “ما أنت يا طلحة إلا فياض” فسمي طلحة الفياض.
[33] راجع تفصيل هذه الغزوة في: طبقات ابن سعد [2/62]، السيرة النبوية [2/281]، تاريخ ابن جرير [2/105]، الدرر [ص/198]، عيون الأثر [2/120]، الكامل [188].
[34] صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير: باب غزوة ذي قرد وغيرها.