غزوة خيبر
الثانية والعشرون غزوة خيبر [37]: لما قدم من الحديبية مكث بالمدينة ذا الحجة وبعض المحرم سنة سبع، ثم خرج فيه إلى خيبر غازيًا وهي بلد بينها وبين المدينة ثلاثة أيام، ذات حصون أعظمها يسمى القموص وهو الذي فتحه علي وخلع بابه فدفع اللواء إلى علي وسار حتى نزل بساحتهم ليلًا فلم يصح لهم تلك الليلة ديك، وكان إذا غزا قومًا لم يغز عليهم حتى يصبح فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار، فبات فلم يسمع أذانًا فركب فخرج عمال خيبر بمساحيهم ومكاتلهم فلما رأوا الجيش قالوا: محمد والخميس، سمي الجيش خميسًا لأنه خمسة أقسام: ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة وقلب، ثم أدبروا هرابًا فقال المصطفى: “الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين” وفرّق الرايات ولم تكن [إلا] يومئذ وإنما كانت الألوية وكانت رايته سوداء من برد لعائشة، وتحصنوا في الحصون فدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتحها حصنًا حصنًا فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقيت عليه منه صخرة، ثم القموص حصن بن أبي الحقيق وأصاب منهم سبايا منهم صفية بنت حيي بن أخطب فاصطفاها لنفسه وكان بلال هو الذي جاء بها وبأخرى معها، فمر بهما على القتلى فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها فقالت لبلال: أنزعت منك الرحمة حين تمر بهما على قتلى رجالهما، وكانت صفية رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع أن قمرًا وقع في حجرها فذكرته لزوجها فقال: ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمد ولطمها، وعرّس المصطفى بها في الطريق في قبة فبات أبو أيوب الأنصاري متوشحًا السيف يحرسه فلما أصبح وراء المصطفى فقال: “ما لك؟” قال: خفت عليك من امرأة قتلت أباها وزوجها وقومها وهي حديثة عهد بكفر، وأتي بكنانة بن الربيع وكان عنده كنز ليهود بني النضير فسأله فجحده فقال للزبير بن العوام: عذبه وكان يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله لمحمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود، وفشت السبايا من خيبر في المسلمين فنهاهم عن أكل الحمر الأهلية وعن إتيان الحبالى وقال: “لا يحل لامرءٍ يؤمن بالله أن يسقي ماءه زرع غيره”.
ثم انتهى إلى حصنهم الوطيح والسلالم وكانا ءاخر الحصون افتتاحًا فحاصرهم بضع عشرة ليلة وخرج مرحب من حصنهم قد جمع سلاحه ونادى: من يبارز، ويرتجز:
قد عَلِمَت خيبر أني مرحب *** شاكي السلاح بطلٌ مجرّب
أطعن أحيانًا وحينًا أضرب *** إذا الليوث أقبلت تلهب
فقال المصطفى: “من لهذا؟”، قال محمد بن مسلمة: أنا، قال: “قم إليه اللهم أعنه عليه” فبرز كل منهما لصاحبه فحمل مرحب على محمد فاتقاه بدرقته فرفع سيفه فيها وضربه محمد فقتله، ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر وقال: من يبارز، فخرج إليه الزبير فقالت أمه: يقتل ابني يا رسول الله قال: “بل ابنك يقتله إن شاء الله” فقتله، ثم اشتد الحصار فقال المصطفى: “لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح على يديه ليس بفرار” فدعا عليًا وهو أرمد فتفل في عينيه ثم قال: “خذ هذه الراية فامض حتى يفتح الله على يديك” فخرج يهرول حتى ركزها تحت الحصن فاطلع يهودي فقال: من أنت؟ قال: علي، قال: علوتم وما أنزل على موسى، فخرج إليه أهله فقاتلهم فضربه يهودي فطرح ترسه من يديه فتناول بابًا عند الحصن فتترس به فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، فاجتمع ثمانية نفر على أن يقلبوا ذلك الباب فما أمكنهم، ثم حاصر أهل الوطيح والسلالم حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم ويحقن لهم دماءهم ففعل، فسمع بذلك أهل فدك فسألوه في ذلم ففعل، فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوه أن يعاملهم في الأموال على النصف فصالحهم عليه على أنّا إذا شئنا إخراجكم أخرجناكم، فكانت خيبر فيئًا للمسلمين وانت فدك خالصة للمصطفى لأنهم [لم] يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.
فلما اطمأن أهدت له زينب امرأة سلام بن مسكم شاةً مصلية وسمتها فلاك منها قطعة ولم يسغها ومعه بشر بن البراء فلاك مضغة فأساغها، ثم قال المصطفى: “إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم” ثم دعا بها فاعترفت وقالت: قلت: إن كان مَلِكًا استرحنا منه وإن كان نبيًا فستخبره فتجاوز عنها، ومات بشر، واحتجم المصطفى يومئذ على كاهله ثم بقي بعدها ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفي فيه قال: “هذا اوان انقطاع أبهري من ذلك السم” فكانوا يرون أنه مات شهيدًا مع ما أكرمه الله من النبوة.
ولما فرغ من خيبر انصرف إلى وادي القرى فحاصر أهله ليالي ثم رجع إلى المدينة.
[37] راجع تفصيل هذه الغزوة في: طبقات ابن سعد [2/81]، والسيرة النبوية [2/328]، وتاريخ ابن جرير [2/135]، والدرر [ص/209]، عيون الأثر [2/172]، الكامل [2/216]، فتح الباري [7/463].