غزوة حنين
الخامسة والعشرون غزوة حنين [40]: واد بقرب الطائف بينه وبين مكة ثلاث ليال أو غير ذلك، والأغلب عليه التذكير لأنه اسم ماء وربما أنثوه نظرًا إلى أنه اسم للبقعة، سمي بحنين بن قانية بن مهلايل. وسببها أنه لما سمعت هوزان بفتح مكة جمعها مالك بن عوف النصري واجتمع عليه مع هوزان ثقيف كلها واجتمعت مضر وجشم وسعد بن بكر وناس من بني هلال، وفي جشم دريد بن الصمه شيخ كبير لا شيء فيه إلا التيمن برأيه ومعرفته، وجماع الناس إلى مالك بن عوف، فلما أجمع السير إلى المصطفى حط مع الناس مالهم ونساءهم وأطفالهم، فلما نزلوا بأوطاس وفيهم دريد في شجار له تقاد به قال: بأي واد أنتم، قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل لا حزن ضرس ولا سهل دهس ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير، قالوا: ساق مالك مع الناس ذلك، فقال: اين مالك؟ فدعي له فقال: إنك أصبحت رئيس قومك وهذا يوم له ما بعده ما لي أسمع رغاء البعير إلخ، قال: اجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، قال: وهل يرد المنهزم شيء إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه أو عليك، فضحت في أهلك ومالك يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوزان إلى نحور الخيل شيئًا، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعلى قومهم ثم الصق الصبا على متون الخيل فإن كان ذلك لحق بك شيء من وراءك أو عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك، قال: لا أفعل إنك كبرت وخرفت لتطيعني يا معشر هوزان أو لأتكئَنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي فأطاعوه، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده يا ليتني فيها جذع، ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم احملوا حملة رجل واحد.
ثم لما أجمع المصطفى السير إليهم ذكر له أن عند صفوان أدراعًا وسلاحًا وهو يومئذ كافر فقال: “يا أبا أمية أعرنا سلاحك”، فقال: أغصبًا يا محمد؟ قال: “بل عارية مضمونة” فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فسأله المصطفى أن يكفيه حملها ففعل، ثم خرج عامدًا لحنين معه ألفان من أهل مكة وعشرة ءالاف من الذين فتح الله بهم، وذُكر أن المصطفى قال حين رأى كثرة من معه من جنود الله: “لن نغلب اليوم من قلة”، واستعمل المصطفى على مكة عتاب بن أسيد أميرًا على من تخلف من الناس، فلما خرج معه أهل مكة ركبانًا ومشاة حتى النساء على غير دين نظارًا يرجون الغنائم ولا يكرهون أن تكون الصدمة بالمصطفى وصحبه فاستقبلوا وادي حنين في عماية الصبح وكان القوم سبقوهم إليه فكمنوا في شعابه وأجنابه ومضايقه حتى تأهبوا فخرجوا عليه وقد شدوا شدة رجل واحد، فائتمر المسلمون راجعين لا يلوي أحد على أحد، وانحاز المصطفى ذات اليمين ثم قال: “أيها الناس هلموا إلي أنا رسول الله ابن عبد المطلب” فانطلق الناس إلا أنه بقي مع المصطفى نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابن عمه أبو سفيان بن الحارث الذي أسلم قبيل دخول المصطفى للفتح والفضل بن عباس وربيعة بن الحارث وأسامة، فلما انهزم الناس ورأى من كان مع المصطفى من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلموا بما في أنفسهم من الطعن فقال بعضهم: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر وإن الأزلام معه في كنانته، وقال بعضهم: ألا بطل الشحر اليوم، فقال له صفوان وهو يومئذ كافر: اسكت فضَّ الله فاك فلأن يَرُبَّني رجلٌ من قريش أحب إلي من أن يَرُبَّني رجل من هوزان، وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار وكان أبوه قتل يوم أحد: اليوم أدرك ثأري أقتل محمدًا قال: فأردت قتله فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك فعلمت أني ممنوع منه، فقال المصطفى وهو على بغلته البيضاء للعباس وهو ءاخذ بلجامها يسعى في ركابه وكان جسيمًا شديد الصوت: “اصرخ يا معشر الأنصار” فأجابوا لبيك لبيك، قال فيذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر عليه فيأخذه درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله فيؤم الصوت حتى اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس، فاقتتلوا فكانت الدعوى أول ما كانت “يا للأنصار” ثم خلصت أخرى “يا للخزرج” وكانوا صبرًا عند الحرب، فأشرف المصطفى في ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم فقال: “الآن حميَ الوطيس” فما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند المصطفى والتفت إلى أبي سفيان بن الحارث وكان ممن صبر معه يومئذ وهو ءاخذ بثغر بغلته فقال: “من هذا؟” قال: ابن عمك يا رسول الله وقبض قبضة من الحصا فحصب بها وجوه المشركين وقال: “شاهت الوجوه” فهُزموا من كل ناحية وتبعهم المسلمون يقتلونهم وغنموا نساءهم وذراريهم وشاءهم وإبلهم، وفر مالك بن عوف فدخل حصن الطائف في ناس من أشراف قومه، وأسلم عند ذلك ناس كثير من أهل مكة وغيرهم حين رأوا نصر الله رسولَهُ، ورأى المصطفى أم سليم بنت ملحان وكانت مع زوجها أبي طلحة وهي حازمة وسطها ببرد لها وإنها لحامل ومعها خنجر فقال المصطفى: “أم سليم” قالت: نعم [اقتل] هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما نقتل الذين يقاتلونك فإنهم لذلك أهل قال: “أو يكفي الله يا أم سليم” وقال لها زوجها: ما هذا الخنجر؟ قالت: إن دنا مني مشرك بعجته به، واستلب أبو طلحة وحده عشرين رجلًا.
ولما انهزمت هوزان استحر القتل في ثقيف فقتل منهم سبعون تحت رايتهم، وأدرك ربيعة بن رفيع دريد بن الصمة فأخذ بخطام جمله وهو يظنه امرأة فأناخ به فإذا شيخ كبير فقال دريد: ما تريد؟، قال: أقتلك، قال: من أنت؟ قال: ربيعة بن رفيع، ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئًا، قال: بئس ما سلحتك أمك خذ سيفي من مؤخر الرحل ثم اضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كذلك كنت أضرب الرقاب، فإذا أتيت أمك فأخبرها بأنك قتلت ابن الصمة قرب يوم قد منعت فيه نساءك، ثم بعث المصطفى في ءاثار من فرّ منهم أقوامًا. وأنزل الله في يوم حنين {لقدْ نَصَرَكُمُ اللهُ في مواطِنَ كثيرةٍ ويومَ حُنَينٍ} [سورة التوبة/25] الآيات، ثم جمعت سبايا حنين وأموالها فامر بحبسها في الجعرانة حتى ينصرف عن الطائف.
[40] راجع تفصيل هذه الغزوة في: طبقات ابن سعد [2/114]، تاريخ ابن جرير [2/165]، السيرة النبوية [2/437]، الدرر [ص/237]، عيون الأثر [2/237]، الكامل [2/261]، فتح الباري [8/27].