غزوة بني القريظة
السابعة عشرة غزوة بني القريظة [31]: بضم القاف وفتح الراء وبعد التحتية الساكنة ظاء معجمة، وكان من خبرهم أن المصطفى لما انصرف من الخندق إلى بيته وأصحابه وقد غمهم الحصار فوضعوا السلام فأتاه جبريل فقال: غفر الله لك إن الملائكة لم تضع السلاح بعد، وإن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم، فأذّن بلال في الناس: “من كان سامعًا مطيعًا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة”، وسار إليهم في ثلاثة ءالاف يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة، وقدم عليًّا برايته إليهم فابتدرها الناس [فسار] حتى دنا من الحصون فقال: يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته، قالوا: يا أبا القاسم فما كنت جهولًا، وتلاحق الناس وحاصرهم خمسًا وعشرين ليلة حتى عاهد عليه كعب بن أسد، فلما أيقنوا بأن المصطفى مناجزهم أشار عليهم باتباعه لأنه النبي الذي يجدونه في كتابهم فيأمنون على دمائهم وأموالهم فأبوا وقالوا: لا نفارق حكم التوراة، فقال: [فإذا أبيتم على هذه فهلم] نقتل أبناءنا ونساءنا ونخرج إليهم ليلًا يكون وراءنا ما نخاف عليه فأبوا وقالوا: لا خير في العيش بعدهم، فقال: الليلة ليلة السبت وهم ءامنون نخرج إليهم لنصيب منهم غرّة فأبوا وقالوا: لا نحدث في سبتنا ما لم يحدث فيه من قبلنا، ثم طلبوا من المصطفى أبا لبابة ليستشيروه فأرسله فلما رأوه قام إليه الرجال وجمعوا إليه النساء والاطفال يبكون في وجهه فرقَّ لهم، فقالوا: أترى أن ننزل على حكم محمد قال: نعم وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح، فقال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى عرفت أني خنت الله ورسوله، ثم انطلق حتى ربط نفسه بسارية في المسجد وقال: لا أبرح حتى يتوب الله علي، وأقام كذلك تأتيه امرأته فتحله للصلاة ثم تربطه وأقام ست ليال لا يأكل ولا يشرب حتى نزلت توبته، ولما بلغ المصطفى قال: “لو جاءني استغفرت له لكن حيث فعل يصبر حتى يتوب الله عليه” فلما نزلت توبته ببيت أم سلمة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر يضحك قلت: مم تضحك، قال: “تاب الله على بي لبابة” فقامت على باب حجرتها فقالت: أبشر يا أبا لبابة فقد تاب الله عليك فثار الناس يبشرونه وأرادوا إطلاقه فأبى إلا أن يحله المصطفى فحله لما خرج للصبح.
ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوائب الأوس فقالوا: [يا رسول الله إنهم] موالينا دون الخزرج وقد فعلت قريش في موالي إخواننا بالأمس ما علمت يعنون بني قينقاع حيث وهبهم لعبد الله بن أبيّ لما سأله فيهم فقال المصطفى: “ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم سعد بن معاذ” وكان جعله في خيمة بالمسجد ليعوده من قرب فأتاه قومه فحملوه على حمار ووطئوا له بوسادة من أدم وكان جسيمًا ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: أحسن في مواليك فإن رسول الله إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا قال: لقد ءان لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض ومن معه إلى بني عبد الأشهل يبتغي رجال قريظة قبل أن يصل إليه سعد لما سمع ذلك، فلما انتهى سعد إليهم قال المصطفى: “قوموا إلى سيدكم” فقاموا إليه وقالوا: قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيكم ما حكمت، قالوا: نعم، قال: وعلى من هنا في الناحية التي فيها المصطفى وهو معرض عنه إجلالًا له فقال المصطفى: “نعم”، قال: فإني أحكم فيكم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى النساء والأطفال، وفي بعض الطرق أنه حكم بالديار للمهاجرين، فقال الأنصار: إخواننا كنا معهم، قال: أردت أن يكتفوا عنكم فقال المصطفى: “حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعةٍ”.
وقيل: إن عليًّا لما حمل على الحصن والزبير وقال: والله لاذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن الحصن، فقالوا: ننزل على حكم سعد فخندق لهم موضعًا هو سوق المدينة اليوم وخرج بهم أرسالًا فضربت أعناقهم في تلك الخنادق، وأتي بحيي بن أخطب فضربت عنقه، وكانت ستمائة أو ثمانمائة، ووجدوا فيها ألفين وخمسمائة [سيف و] ثلاثمائة درع وألفي رمح وخمسمائة ترس، ثم خمست الغنائم [ثم قسمت] للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم وهو أول فيءٍ وقعت فيه السهمان وخمس، وعلى سنته مضت قسمة الغنائم، وأسلم تلك الليلة ثعلبة بن سعية بالتحتية وقيل: بالنون، وأسيد بفتح الهمزة بن سعية وأسيد بن عبيد وهم من هدل لا من قريظة [ولا من النضير فأحرزوا دماءهم وأموالهم، وضربت رقبة امرأة من قريظة] وهي التي طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته، فلما انقضى شأنهم انفجر لسعد بن معاذ جرحه فمات واهتز العرش فرحًا بصعود روحه، وفيه قيل:
وما اهتز عرش الرحمن من موت هالك *** سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو
ونزلت سورة الأحزاب في شأن الخندق وبني قريظة، وكان الزبير بفتح الزاي بن باطا قد منَّ على ثابت بن قيس في الجاهلية فجاءه ثابت فقال: أتعرفني، قال: وهل يجهل مثلي مثلك، قال: أردت أن أجازيك بيدك عندي، قال: إن الكريم يجزي الكريم، ثم ذكر ذلك ثابت للمصطفى فوهبه له فأتاه فأخره فقال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة، فاستوهب ثابت من المصطفى امرأته فوهبه فأخبره فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم، فوهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت ماله فأخبره فقال: ما فعل الذي كان وجهه مرءاة مضيئة تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد قال: قتل، قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب، قال: قتل، قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا عزال بن سموال قال: قتل، قال: فما فعل المجلسان يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة، قال: قتلوا، قال: فإني أسألك بيدي عنك إلا ألحقتني بالقوم فما في العيش بعدهم من خير فقدمه فضرب عنقه، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الانصاري بسبايا من بني قريظة إلى نجد فابتاع بهم خيلًا وسلاحًا، واصطفى المصطفى لنفسه من نسائهم ريحانه بنت زيد وكانت في ملكه حتى مات عنها اختارت بقاءها في ملكه على العتق والنكاح وقالت: هو أخف علي وعليك وقد توقفت في الإسلام، فوجد في نفسه من ذلك وعزلها فبينا هو مع صحبه إذ سمع صوت نعلين خلفه فقال: “إن هذا لثعلبة يبشرني بإسلام ريحانة” فكان كذلك، فلما أسلمت سُرَّ بذلك.
[31] راجع تفصيل هذه الغزوة في: طبقات ابن سعد [2/57]، السيرة النبوية [2/233]، تاريخ ابن جرير [2/98]، الدرر [ص/189]، عيون الأثر [2/100]، الكامل [2/185]، فتح الباري [7/407].