غزوة الطائف
السادسة والعشرون غزوة الطائف [41]: فلما فرّ ثقيف إلى الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها وصنعوا الصنائع للقتال، فتوجه إليهم المصطفى في شوال سنة ثمان فحاصرهم بضعًا وعشرين ليلة وتراموا بالنبل وقالتلهم قتالًا شديدًا وقاتل فيها بنفسه ورماهم بالمنجنيق وقطع أعناقهم ولم يقدر منهم على شيء، وقال المصطفى لأبي بكر وهو محاصرهم: “رأيت أني أهديت إلي قصعة مملوءة ثريدًا فنقرها ديك فأهراق ما فيها” فقال: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد؟ فقال المصطفى: “وأنا لا أرى ذلك” فأذن بالرحيل واستشهد من الصحابة اثنا عشر رجلًا، ثم انصرف عن الطائف حتى نزل الجعرانة وفيها كان قدم سبي هوزان وأموالهم، وقال له رجل يوم ظعن عن ثقيف: ادع عليهم، قال: “اللهم اهد ثقيفًا وائت بهم”، ثم أتاه وفد هوزان بالجعرانة وقد أسلموا وكان معهم من سبيهم ستة ءالاف من الذراري والنساء ومن الإبل والشاء ما لا يدري ما عدته إلا الله تعالى، فقالوا: يا رسول الله إنا أهلٌ وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فآمنن عليك، وقال رجل من سعد بن بكر: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك ولو أنّا منحنا للحارث بن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ثم نزل منا بمثل ما نزلت به رجونا عطفه علينا وأنت خير المكفولين، فقال المصطفى: “أحب الحديث إلي أصدقه، ومعي من ترون أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم” قالوا: خيَّرتنا بين أموالنا وأحسابنا بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا فهو أحب إلينا فقال: “أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صليتُ الظهر بالناس فقوموا فقولوا: إنا نتشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا فسأعطيكم عند ذلك” ففعلوا فقال المصطفى: “أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فلكم” [42] فقال المهاجرون: ما لنا فهو لرسول الله، وقالت الأنصار: ما لنا فهو لرسول الله، فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وفزارة فلا، وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليمة فلا، فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال العباس: وهنتموني، فقال المصطفى: “أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم” وسألهم المصطفى: “ما فعل عوف بن مالك”، قالوا: بالطائف، قال: “أخبروه أنه إن أتاني مسلمًا رددت إليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل” فأخبروه فأدركه بالجعرانة أو بمكة فرد عليه ماله وأهله وأعطاه مائة من الإبل وأسلم فحسن إسلامه، واستعمله على من أسلم من قومه فكان يقاتل بهم ثقيفًا لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم.
ولما رد السبايا إلى أهلها ركب واتبعه الناس يقولون: اقسم علينا فيئنا حتى ألجئوه إلى شجرة فاختطفت عنه رداءه فقال: “ردوا علي ردائي أيها الناس لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعمٌ لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيلًا ولا جبانًا ولا كذوبًا” ثم قام فأخذ وبرة من سنام بعير فقال: “أيها الناس ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخُمس [والخمس] مردود عليكم فأدوا الخياط والمخيط فإن الغلول على أهله عارٌ وشنار يوم القيامة”، ثم أعطى المؤلفة وكانوا أشرافًا يتألف بهم قومهم فأعطى أبا سفيان بن حرب وابنه معاوية وحكيم بن حزام والحارث بن كلدة والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وصفوان بن أمية كل هؤلاء من أشراف قريش، والأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري ومالك بن عوف كل واحد مائة بعير، وأعطى رجالًا دون المائة، وأعطى العباس بن مرداس أباعر فسخطها وعاتبه بقصيدة فقال: “اقطعوا عني لسانه” فأعطوه حتى رضي، ويقال: أتي به إلى الغنائم فقيل له: خذ منها ما شئت فقال: إنما أراد رسول الله أن يقطع لساني بالعطاء بعد أن تكلمت فتكرم أن يأخذ منها شيئًا فبعث إليه المصطفى بحلةٍ فقبلها، وقيل له: أعطيتَ هيينة والأقرع مائة مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري فقال: “أما والله لجعيل خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع لكني تألفتهما ليسلما ووكلته إلى إسلامه”، وجاءه ذو الخويصرة التميمي وهو يعطي الناس فقال: يا محمد قد رأيتُ ما صنعتَ لم أرك عدلتَ، فغضب وقال: “ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون”؟ فقال عمر: ألا أقتلنه؟ قال: “لا”.
ولما أعطى قبائل العرب ولم يعط الأنصار شيئًا وجدوا في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة وحتى قال قائلهم: لقي والله قومه، فدخل سعد بن عبادة عليه فقال: إن الأنصار قد وجدوا عليك أعطيت عطايا عظامًا ولم تعطهم فقال: “أين أنت من ذلك؟” قال: ما أنا إلا من قومي، قال: “فاجمعهم لي” فجمعهم في حظيرة فأتاهم المصطفى فحمد الله ثم قال: “يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها عليَّ في أنفسكم، ألم تكونوا ضلالًا فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف بين قلوبكم؟” قالوا: بلى، لله ولرسوله المنّ والفضل، ثم قال: “ألا تجيبوني؟” قالوا: بماذا نجيب؟ قال: “أما والله لو شئتم لقلتم ولصدقتم أتيتنا مكذبًا فصدقناك ومخذولًا فنصرناك وطريدًا فآويناك وعائلًا فواسيناك، أوجدتم في أنفسكم في لعاعةٍ من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم أما ترضون أن تذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفسي بيده لو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكتُ شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الانصار”، فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم قالوا: رضينا بك قسمًا وحظًّا، ثم خرجوا فاعتمر ثم انصرف راجعًا إلى المدينة وخلف عتاب بن أسيد على مكة ورزقه في كل يوم درهمًا فقام خطيبًا فقال: أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهمًا كل يوم فلا حاجة بي إلى أحد.
[41] راجع تفصيل هذه الغزوة في: طبقات ابن سعد [2/120]، السيرة النبوية [2/478]، تاريخ ابن جرير [2/171]، عيون الأثر [2/270]، الكامل [2/266]، فتح الباري [8/43].
[42] تاريخ ابن جرير [2/173].