الأحد ديسمبر 22, 2024

غزوة أحد

العاشرة غزوة أحد [22]: بضم الهمزة والحاء المهملة، جبل مشهور بقرب المدينة به قبر هارون، فإن موسى وهارون مرَّا به حاجَّين أو معتمرين فمات به، وكان من حديث أحد أنه لما قتل الله كفار قريش ببدر ورجع أبو سفيان بالعير مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في قوم ممن أصيب ءاباؤهم وأبناؤهم وأهلهم وكلموا أبا سفيان وقالوا: إن محمدًا وترَكَم وقتل خياركم فأعينونا بالمال على حربه لعلنا ندرك ثأرًا، وقال ابن سعد: كانت العير موقوفة بدار الندوة فمشت أشراف قريش إلى أبي سفيان فقالوا: جهزوا بهذه العير –وكانت ألف بعير- جيشًا إلى محمد، فأجاب، واجتمعت قريش ومن أطاعها من القبائل ومن تبعها من كنانة وأهل تهامة، وكتب العباس إلى المصطفى بخبرهم، فخرج أبو سفيان قائد الناس بهند بنت عتبة، وقال جبير بن مطعم لغلامه وحشي الحبشي: إن قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة فأنت عتيق، فكانت هند إذا رأته يقول: ويها أبا دسمه اشف واشتف، فأقبلوا حتى نزلوا بعينين تثنية عين جبل ببطن السبخة مقابل المدينة، فلما سمع بهم المصطفى قال: “إني رأيت والله خيرًا رأيت بقرًا تُذبح ورأيت في ذباب سيفي ثلمًا، فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم فرجل من أهل بيتي يقتل، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بها وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها” وكان المصطفى يكره الخروج وابن أبيّ يرى رأيه فقال رجال من المسلمين: اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبناء وقال ابن أبيّ: لا تخرج فما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخلها عليه إلا أصبنا منه، فلم يزل برسول الله من أحب لقاء العدو حتى دخل فلبس لأمته بعد صلاة الجمعة وقد ندم الناس، فقالوا: استكرهناك ولم يكن ذلك لنا فإن شئت فاقعد فقال: “ما ينبغي للنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل” فخرج في ألف حتى إذا كانوا بين المدينة وأحد تحرك عبد الله بن أبيّ ينكث الناس وقال: أطاعهم وعصاني ما ندري علام نقتل أنفسنا، فرجع بمن تبعه من أهل النفاق ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيفٍ فاستله فقال المصطفى وكان يحب الفأل ولا يعتاف أي لا يتطير: “يا صاحب السيف شِم سيفك فإني أرى السيوف ستسل اليوم”، ثم قال: “من رجل يخرج بنا على القوم من كثب” أي قرب “لا يمر بنا عليهم” فقال أبو خثيمة: أنا فنفذ به في حرة بني حارثة حتى نزل الشعب من أحدٍ فجعل ظهره وعنقه إليه وقال: “لا يقاتل أحد حتى ءامره بالقتال”، وتعبأ للقتال وهو في سبعمائة وأمر على الرماة عبد الله بن جبير وهو معلم بثياب بيض وهم خمسون فقالوا: “انضح الخيل عنا لا يأتوننا من خلف إن كان لنا وعلينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك”، فظاهر المصطفى بين درعين ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير ولم يكن مع المسلمين فرس إلا فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرس أبي بردة، ولواء الخزرج بيد الحباب بن المنذر أو سعد بن عبادة، وخرج السعدان أمامه يعدوان دارعين، وتعبأت قريش وهم ثلاثة ءالاف معهم مائتا فرس قد جنبوها فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وميسرتها عكرمة بن أبي جهل وعلى القلب صفوان بن أمية أو عمرو بن العاص وعلى الرماة عبد الله بن ربيعة، وقال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم: إنكم قد وليتم يوم بدر فأصابنا ما رأيتم وإما يؤتى الناس من قبل راياتهم، فاقتتلوا حتى حمي الحرب وقال المصطفى لسيف عنده: “من يأخذه بحقه” فقام إليه رجال منهم الزبير فأمسكه حتى قام أبو دجانة فقال: ما حقه؟ قال: “أن يضرب به حتى ينحني” قال: أنا، فأعطاه إياه، قال الزبير: وجدت في نفسي حين منعني وأعطاه إياه وأنا ابن عمته ومن قريش، فقلت: لأنظرن ما يصنع فتبعته فأخرج عصابة حمراء فعصب رأسه فقال الأنصار: أخرج عصابة الأنصار فخرج يقول:

أنا الذي عاهدني خليلي *** ونحن بالسفح لذي النخيل

أن لا أقوم الدهر في الكيول *** أضرب بسيف الله والرسول

فجعل لا يلقى أحدًا إلا قتله وكان من المشركين رجل لا يدع جريحًا إلا ذفف عليه، فجعل كل منهما يدنو لصاحبه فالتقيا فاختلفا ضربتين فضربه أبو دجانة فقتله، ثم حمل السيف على مفرق هند بنت عتبة ثم عدل عنها، وقاتل حمزة حتى قتل أحد الذين يحملون اللواء قال وحشي: رأيت حمزة في عرض الناس كالجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدًّا ما يقوم له شيء، فإني لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجر أو حجر ليدنو مني إذ تقدم إليه سباع بن عبد العزى فلما رءاه حمزة قال: هلم إلي يا ابن مقطّعة البظور وكانت أمه ختانة، فضربه فكأنما أخطأت رأسه قال: فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فقلب فتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته ولم يكن لي بغيره حاجة إنما قتلته لأعتق، ثم كان من أمره أن خرج بعد الفتح إلى الطائف ثم وفد على المصطفى بعد أن أعيته المذاهب فلم يشعر به إلا على رأسه يتشهد شهادة الحق، فسأله كيف قتل حمزة ثم قال: “هل تغيب وجهك عني” فكان يتنكبه إذا رءاه، فلما كان وقعة مسيلمة الكذاب رماه بالحربة التي ضرب بها حمزة وضربه رجل من الأنصار بالسيف فربك أعلم أيهما قتله، وكان لا يزال يحد في الخمر حتى خلع من الديون، فقال عمر: قد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة وقاتل مصعب بن عمير حتى قتله ابن قمئة وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلت محمدًا.

وأعطى المصطفى اللواء عليًّا وجلس لما اشتد القتال تحت راية الأنصار، وأرسل إلى علي أن قدم الراية فتقدم فقال: أنا أبو القصم، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة: هل لك يا أبا القصم في البراز قال: نعم، فبرزا به في الصفين فاختلفا ضربتين فضربه علي فصرعه ثم انصرف ولم يجهز عليه لكونه استقبله بسوأته قال: فعطفتني عليه الرحمة فعلمت أن الله قتله، ويقال إنه طلب البراز مرارًا فلم يخرج له أحد فقال: زعمتم يا أصحاب محمد أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار كذبتم واللات، لو تعلمون ذلك حقًّا لخرج إلي بعضكم، فخرج له علي فقتله، وقيل: قتله سعد بن أبي وقاص، وقيل: عاصم بن أبي الأقلح، فتأتي أمه فتضع رأسه في حجرها فتقول: يا بني من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلًا حين رماني يقول: خذها وأنا ابن أبي الأقلح فنذرت إن أمكنها الله من رأسه أن تشرب فيه الخمر، وكان عاصم عاهد الله أن لا يمس مشركًا ولا يمسه فتمم له ذلك حيًّا وميتًا كما يأتي، واستعلى حنظلة الغسيل يومئذ أبا سفيان فضبه شداد بن أوس فقتله، وكان خرج جنبًا حين سمع الهائعة فرأى المصطفى الملائكة تغسله.

ثم أنزل الله نصره على المسلمين فحسوهم بالسيف حتى كشفوهم، وكانت خيل المشركين قد حملت ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلولة، وكانت الهزيمة لا شك فيها، فلما أبصر الرماة ذلك قالوا: ما نجلس هنا لشيء وقد أهلك الله العدو فتركوا منازلهم التي عهد إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول، قال الزبير: لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها منكشفات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير إلى أن مالت الرماة على العسكر وخلوا ظهورنا للخيل، فأوتينا من خلفنا وصرخ صارخ: ألا إن محمدًا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء فانكشف المسلمون وكان يوم بلاءٍ وتمحيص أكرم الله من أكرم فيه بالشهادة، حتى خلص العدو إلى رسول الله فقذف بالحجارة حتى وقع لشقه فأثيبت رباعيته وكملت شفته وشج في وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسحه ويقول: “كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم” فأنزل الله: {ليسَ لكَ مِنَ الأمرِ شيءٌ} [سورة ءال عمران/128] والذي كسر رباعيته وشج وجهه عتبة بن أبي وقاص وشجه عبد الله بن شهاب الزهري في جبهته وجرح ابن قمئة وجنته فدخلت حلقتان من المغفر فيها، ووقع في حفر القوم التي عملها أبو عامر ليقع فيها المسلمون، فأخذ علي بيده ورفعه طلحة حتى استوى قائمًا، ومص مالك والد أبي سعيد الخدري الدم من وجهه ثم ازدرده فقال المصطفى: “من مس دمه دمي لم تصبه النار، ومن أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي فلينظر إلى طلحة” ونزع أبو عبيدة إحدى الحلقتين من وجهه فسقطت ثنيته ثم نزع الأخرى فسقطت الأخرى، وكان سعد بن أبي وقاص يقول: ما حرصت على قتل رجل كحرصي على قتل عتبة أخي، وقال المصطفى: “اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله”، وقال حين غشيه القوم: “من رجل يشتري لنا نفسه” فقام زياد أو عمارة بن السكن في خمسة من الأنصار فقاتلوا دونه حتى قُتلوا رجلًا رجلًا ءاخرهم زياد أو عمارة فقاتل حتى أثبتته الجراح، فجاءت فئة من المسلمين فأزالوهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أدنوه مني” فادنوه فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلت أم عمارة يومئذ عنه هي ومصعب بن عمير حتى بلغت منها الجراح، وتترس دون رسول الله أبو دجانة بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحنٍ عليه، ورمى سعد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يناوله النبل وهو يقول: “ارم فداك أبي وأمي”، وأصيبت عين قتادة بن النعمان فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت أحسن عينيه، ورمى [أبو] رهم الغفاري كلثوم بن الحصين بسهم فوقع في نحره فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق عليه فبرأ، وانتهى أنس بن النضر إلى عمر بن الخطاب وطلحة في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم فقالوا: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل محمد، قال: فما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل، فوجدوا به بضعًا وثمانين جراحة وكان غاب عن بدر فقال: إن أشهدني الله قتالًا ليرين الله كيف أصنع، فلما انكشف المسلمون قال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، يعني المشركين، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء [يعني] المسلمين، فلقيه سعد بن معاذ فقال: أي سعد والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة واهًا لريحها، وكان أول من عرف رسلو الله بعد الهزيمة، والحديث عن قتله كعب بن مالك قال: عرفت عينيه تزهوان تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله، فأشار إليه أن انصت، فلما عرفه المسلمون نهضوا به ونهض بهم نحو الشعب معه أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير والحارث بن الصمة ورهط من المسلمين، فلما اشتد في الشعب أدركه أبيُّ بن خلف وهو يقول: أين محمد لا نجوت إن نجا، فقال القوم: أيعطف عليه رجل منا، فقال: “دعوه” فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث وانتقض بها انتفاضة تطايرنا من حوله تطاير الشعر من ظهر البعير إذا انتقض، ثم طعنه في عنقه طعنة تدلى منها عن فرسه مرارًا، فرجع وقد احتقن الدم وقال: قتلني محمد، قالوا: ذهب والله فؤادك إنه ليس بك بأس، قال: قد كان قال لي بمكة: “أنا أقتلك” فلو بصق علي لقتلني، وذلك أنه كان إذا لقي النبي بمكة يقول: عندي فرس أعلفه أقتلك عليه فيقول: “أنا أقتلك إن شاء الله” فمات بسرف وهم قافلون، وقال المصطفى: “اشتد غضب الله على رجل قتل نبيًّا أو قتله نبي فسحقًا لأصحاب السعير” ثم ملأ عليّ درقته من المهراس فجاء بها إلى المصطفى ليشرب منه فوجد له ريحًا فعافه فلم يشرب وغسل عن وجهه الدم وهو يقول: “اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله”. فبينا رسول الله بالشعب في أولئك النفر علت عالية من قريش الجبل فقال: “اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا” فقاتل عمر ورهط معه حتى أهبطوهم من الجبل ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة فلم يستطع أن يعلوها وكان قد بَدن بفتح الموحدة والمهملة وشدها أي أسن وظاهر بين درعين فجلس تحته طلحة حتى نهض به واستوى عليها فقال: “أوجب طلحة” وصلى الظهر قاعدًا من الجراح والمسلمون خلفه قعودًا.

وكان من خبر مخيريق يومئذ وكان من أحبار يهود أنه قال لهم: علمتم أن نصر محمد عليكم لحق فتعللوا عليه بأنه يوم السبت فقال لهم: لا سبت لكم وأخذ سيفه وعدته فلحق به وقاتل حتى قتل بعد أن قال: إن أصبت فأموالي لمحمد يصنع فيها ما شاء، وفيها قال المصطفى: “مخيريق خير يهود”، وغدر الحارث بن سويد وكان منافقًا لما التقى المسلمون والكفار بالمجذر لأنه قتل أباه في الجاهلية وبقيس بن زيد وفر إلى الكفار ثم رجع إلى قومه بالمدينة، فنزل جبريل على المصطفى فأخبره بقدومه وأمره أن ينهض إليه ويقتص منه لمن قتله، فنهض المصطفى إلى قباء فخرج إليه أهلها في جماعتهم وفيهم الحارث وعليه ثوب مورس وأمر عويم بن ساعدة بضرب عنقه ففعل، وعاد ولم ينزل عندهم. ومثلت هند بالقتلى فاتخذت من أنوفهم وءاذانهم قلائد.

ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف صعد صخرة ثم صرخ بأعلى صوته انعمت فقال: إن الحرب سجال يوم بيوم بدر بأحد، أعلى هبل فقال المصطفى: “قل له يا عمر: الله أعلى وأجل لا سواء فقتلانا في الجنة وقتلاكم في النار”. وفي الصحيح [23] أن أبا سفيان قال: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي: “قولوا الله مولانا ولا مولى لكم”، فقال: أفي القوم محمد، فقال: “لا تجيبوه”، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن الخطاب فلما لم يجبه أحد قال: إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله قد أبقى الله لك ما يخزيك، قال: هلم يا عمر فقال المصطفى: “ائته فانظر ما شأنه” فجاءه فقال: أنشدك الله أقتلنا محمدًا قال: اللهم لا والله إنه ليسمع كلامك قال: أنت أصدق من ابن قمئة، ثم نادى أبو سفيان أنه كان في قتلاكم مثل والله ما رضيت وما سخطت وما أمرت وما نهيت وموعدكم بدر العام القابل، فقال المصطفى لرجل: “قل: نعم”، ثم بعث عليًّا فقال: “اخرج في ءاثارهم فانظر ما يصنعون فإن كانوا جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، ولئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنّهم” فرءاهم جنبوا الخيل ووجهوا إلى مكة، وفزع الناس لقتلاهم فلم يجدوا قتيلًا إلا ومثَّلوا به غير حنظلة فإن أباه كان مع الكفار فقال المصطفى: “من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع في الأحياء أم في الاموات”، فقال رجل أنصاري: انظر، فوجده جريحًا في القتلى به رمق، فقال: أبلغ رسول الله مني السلام وقل له: يقول لك سعد جزاك الله عنا خيرًا، وأبلغ قومك السلام وقل لهم يقول لك سعد لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف ثم مات، وخرج المصطفى يلتمس حمزة رضي الله عنه فوجده بقر بطنه عن كبده وكانت هند أكلتها فلم تسغها، ومثّل به فجدع أنفه وأذناه فقال عليه الصلاة والسلام: “لولا أن تحزن صفية وتكون سنة من بعدي تركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش لأمثلن بسبعين منهم” فلما رأى المسلمون حزنه وغيظه على ما فعل بعمه [قالوا:] لنمثلن بهم إن أظهرنا الله عليهم مثلة ما مثل بها أحد فأنزل الله: {وإنْ عاقَبْتُم فعاقِبوا بمثلِ ما عُوقِبتُم بهِ} [سورة النحل/ 126] الآية فعفى وصبر وكفّر عن يمينه ونهى عن المثلة وقال حين وقف عليه: “لن أصاب بمثلك أبدًا ما وقفت موقفًا قط أغيظ إليّ من هذا رحمة الله عليك قد كنت علمتك فعولا للخير وصولا للرحم” ثم أمر فسجي ببرده، ثم صلى عليه فكبر سبعًا، ثم أتي بالقتلى يوضعون إلى حمزة فصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى على اثنتين وسبعين صلاة ودفن، ويقال إنه دفن معه في قبره عبد الله بن جحش وكان قد مثّل به، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من يومه ءاخر النهار.

وذكر مالك في الموطإ [24] أن السيل حفر قبر عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام وكان المصطفى دفنهما بقبرٍ واحد لمصافاة بينهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالامس، وكان أحدهما وضع يده على جرحه فدفن كذلك فأميطت عنه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان ذلك بعد الوقعة بست وأربعين سنة.

وحين سمع المصطفى البكاء على القتلى بكى وقال: “لكن حمزة لا بواكي له” فأمر سعد بن معاذ وأسيد بن حضير نساءهما أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين عليه فلما سمع بكاءهن عليه قال: “رحم الله الانصار فإن المواساة منهم ما علمت لقديمة مروهن فلينصرفن”، ومر بامرأة أصيب زوجها وأخوها وابنها معه بأحد فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله، قالوا خيرًا هو كما تحبين قال كل مصيبة بعده جللٌ، ونادى مناد بين السماء والأرض لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي، وهو سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة أن تغسل ذلك الدم وقال: لقد صدقني اليوم وقال لعلي: “لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا”. وكان يوم أحد يوم بلاء أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة، ونزل من القرءان في شأن أحد ستون ءاية من ءال عمران.

واستشهد يومئذ خمسة وستون رجلًا أربعة من المهاجرين وباقيهم من الأنصار، وقتل من الكفار اثنان وعشرون رجلًا، وقال ابن كثير: أكثر، فإن حمزة لم يُقتل حتى قتل أحدًا وثلاثين، و[قاتل] أبو دجانة وعلي وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة، ورمى طلحة وسعد بين يديه فما سقط لهما سهم إلا أصاب كافرًا، وأنس بن النضر وسعد بن الربيع لم يُقتلا حتى قتلا خلقًا، فربك أعلم بعددهم. انتهى.

[22] راجع تفصيل هذه الغزوة في: طبقات ابن سعد [2/28]، السيرة النبوية [2/60]، تاريخ ابن جرير [2/58]، الدرر [ص/153]، عيون الأثر [2/5]، الكامل [2/148]، فتح الباري [7/345].

[23] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المغازي: باب غزوة أحد.

[24] موطأ الإمام مالك: كتاب الجهاد: باب الدفن في قبر واحد من ضرورة.