الدَّرْسُ الأَوَّلُ
عِلْمُ الدِّينِ الضَّرُورِىُّ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِهِ وَسَلَّمَ. أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِى كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِى سُورَةِ التَّحْرِيمِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ هَذِهِ الآيَةُ تَأْمُرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَحْفَظُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ. فَسَّرَ هَذِهِ الآيَةَ عَلِىُّ بنُ أَبِى طَالِبٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَالتَّابِعِىُّ الْجَلِيلُ عَطَاءُ بنُ أَبِى رَبَاحٍ أَمَّا عَلِىُّ بنُ أَبِى طَالِبٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ عَلِّمُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمُ الْخَيْرَ اهـ [رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عَلِىِّ بنِ أَبِى طَالِبٍ وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِىُّ] أَىْ عِلْمَ الدِّينِ وَأَمَّا عَطَاءٌ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ أَنَّ تَتَعَلَّمُ كَيْفَ تُصَلِّى وَكَيْفَ تَصُومُ وَكَيْفَ تَحُجُّ وَكَيْفَ تَبِيعُ وَتَشْتَرِى وَكَيْفَ تَنْكِحُ وَكَيْفَ تُطَلِّقُ اهـ [أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِىُّ فِى الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ].
الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ تَفْسِيرِ سَيِّدِنَا عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَفْسِيرِ عَطَاءِ بنِ أَبِى رَبَاحٍ لِهَذِهِ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا تَعَلَّمَ لِنَفْسِهِ وَعَلَّمَ أَهْلَهُ أُمُورَ الدِّينِ فَقَدْ حَفِظَ نَفْسَهُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ تِلْكَ النَّارُ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، فَفِى هَذِهِ الآيَةِ تَهْدِيدٌ وَتَوَعُّدٌ لِمَنْ أَهْمَلَ مَا يَلْزَمُهُ تَعَلُّمُهُ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ الضَّرُورِىِّ الَّذِى هُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ.
فَفَرْضٌ عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَعْرِفَ تَصْحِيحَ الْعَقِيدَةِ وَتَصْحِيحَ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَتَصْحِيحَ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَمَعْرِفَةُ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَمَعْرِفَةُ مَا يَحِلُّ مِنَ النِّكَاحِ وَمَا يَحْرُمُ وَمَا يَصِحُّ مِنَ الطَّلاقِ وَمَا لا يَصِحُّ فَمَنْ أَقْدَمَ عَلَى هَذِهِ الأَشْيَاءِ تَارِكًا تَعَلُّمَ الْعِلْمِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ مَعَ وُجُودِ مَنْ يُعَلِّمُ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِنَارِ اللَّهِ النَّارِ الْعَظِيمَةِ فَإِنْ كَانَ الشَّخْصُ لا يَجِدُ فِى بَلَدِهِ مَنْ يَعْلَمُ هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ وَعَلِمَ أَنَّهُ يُوجَدُ بِأَرْضِ كَذَا مَنْ يَعْرِفُ أُمُورَ الدِّينِ فَلا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْقَى فِى مَكَانِهِ وَيَرْضَى بِجَهْلِهِ بِأُمُورِ الدِّينِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْحَلَ [قَالَ أَحْمَدُ بنُ رَسْلانَ فِى الزُّبَدِ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ ذَا فَلْيَسْأَلِ….مَنْ لَمْ يَجِدْ مُعَلِّمًا فَلْيَرْحَلِ]، هَذِهِ عُلُومُ الدُّنْيَا النَّاسُ يَرْحَلُونَ إِلَيْهَا وَيَتَكَلَّفُونَ أَمْوَالًا عَظِيمَةً فِى سَبِيلِ تَعَلُّمِهَا وَتَحْصِيلِهَا مَعَ أَنَّ الْغَايَةَ مِنْهَا بُحْبُوحَةُ الْعَيْشِ فِى الدُّنْيَا الزَّائِلَةِ، قَدْ يَتْعَبُ الشَّخْصُ سِنِينَ عَدِيدَةً فِى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْعُلُومِ ثُمَّ يَأْتِيهِ أَجَلُهُ قَبْلَ أَنْ يَمْكُثَ زَمَانًا كَانَ يَأْمُلُ هُوَ أَنْ يَعِيشَ فِيهِ بِبُحْبُوحَةٍ، يُفَاجِئُهُ الْمَوْتُ. كَمْ أُنَاسٍ رَجَعُوا مِنْ دِرَاسَاتِهِمْ فِى الْخَارِجِ فَبَاغَتَهُمُ الْمَوْتُ.
وَأَمَّا عِلْمُ الدِّينِ فَنَتِيجَتُهُ السَّعَادَةُ الأَبَدِيَّةُ لِلنَّجَاةِ مِنْ تِلْكَ النَّارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ مَنْ سَلِمَ مِنْ تِلْكَ النَّارِ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ بِلا عَذَابٍ فَهَذَا هُوَ الْفَائِزُ، هُوَ الإِنْسَانُ الرَّابِحُ.
أَمَّا عُلُومُ الدُّنْيَا الَّتِى يَفْتَخِرُ النَّاسُ بِهَا وَيَكْدَحُونَ وَيَتْعَبُونَ لِتَحْصِيلِهَا سِنِينَ عَدِيدَةً وَقَصْدُهُمْ مِنْهَا بُحْبُوحَةُ الْعِيشَةِ فِى الدُّنْيَا فَإِنَّ الدُّنْيَا الَّتِى هُمْ يَعِيشُونَهَا زَائِلَةٌ هَذَا يَمُوتُ بِأَجَلٍ وَالآخَرُ يَمُوتُ بِأَجَلٍ أَقْصَرَ مِنْهُ أَوْ أَطْوَلَ مِنْهُ وَأَمَّا الآخِرَةُ فَهِىَ دَارُ الْقَرَارِ هِىَ دَارُ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ، فَمَنْ تَزَوَّدَ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا أَىْ تَعَلَّمَ عِلْمَ الدِّينِ الْقَدْرَ الَّذِى لا يَسْتَغْنِى عَنْهُ ثُمَّ عَمِلَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنَ الْفَائِزِينَ الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لا فِى قُبُورِهِمْ وَلا فِى ءَاخِرَتِهِمْ أَمْنٌ بِلا خَوْفٍ رَاحَةٌ بِلا تَعَبٍ حَيَاةٌ بِلا مَوْتٍ صِحَّةٌ بِلا مَرَضٍ يَحْيَوْنَ حَيَاةً دَائِمَةً لا مَوْتَ بَعْدَهَا وَلا مَرَضَ فِيهَا وَلا بُؤْسَ وَلا فَاقَةَ وَلا فَقْرَ فِيهَا.
وَأَمَّا الَّذِى يَتْعَبُ يُحَاوِلُ أَنْ يَتَعَبَّدَ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَتْرُكُ تَعَلُّمَ عِلْمِ الدِّينِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَهُوَ كَحَاطِبِ لَيْلٍ كَالَّذِى يَحْطِبُ الْحَطَبَ أَىْ يَجْمَعُهُ لِيَحْمِلَهُ إِلَى بَيْتِهِ فِى لَيْلٍ مُظْلِمٍ يَجْمَعُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَبَصَّرَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَحْمِلُهُ مِنَ الْحَطَبِ مَا يَعْطِبُهُ مِنْ حَيَّةٍ أَوْ عَقْرَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ هَوَامِّ الأَرْضِ الْمُؤْذِيَةِ، مَثَلُهُ كَمَثَلِ حَاطِبِ اللَّيْلِ. وَالرَّسُولُ ﷺ وَعَلَى ءَالِهِ حَذَّرَنَا مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى صُوَرِ الأَعْمَالِ بِدُونِ تَصْحِيحِهَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ رُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ وَرُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ اهـ [رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ فِى السُّنَنِ الْكُبْرَى] الرَّسُولُ ﷺ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ هَذَيْنِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ وَقَصْدُهُ إِيرَادُ الْمِثَالِ وَإِلَّا فَكَمْ مِنْ حَاجٍّ لَيْسَ لَهُ مِنْ حَجِّهِ إِلَّا التَّعَبُ وَإِنْفَاقُ الْمَالِ وَكَمْ مِمَّنْ يُحَاوِلُ أَدَاءَ الزَّكَاةِ زَكَاتُهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ أَحْكَامَ الشَّرْعِ الَّتِى تَتَعَلَّقُ بِالزَّكَاةِ.