عَوْدٌ إِلَى تَقْسِيمِ الْكُفْرِ بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى لِزِيَادَةِ فَائِدَةٍ
(وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفْرَ ثَلاثَةُ أَبْوَابٍ إِمَّا تَشْبِيهٌ) لِلَّهِ بِخَلْقِهِ (أَوْ تَكْذِيبٌ) لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِشَرِيعَتِهِ (أَوْ تَعْطِيلٌ) أَىْ نَفْىٌ لِوُجُودِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ فَهَذِهِ ثَلاثَةُ أَبْوَابٍ لا تَخْرُجُ الْمُكَفِّرَاتُ عَنْهَا (أَحَدُهَا التَّشْبِيهُ أَىْ تَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ) كَمَا سَبَقَ (كَمَنْ يَصِفُهُ) تَعَالَى (بِالْحُدُوثِ) أَىْ بِحُدُوثِ الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالذَّاتِ وَكَذَا مَنِ ادَّعَى قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ سُبْحَانَهُ أَىِ اتِّصَافَهُ بِصِفَةٍ حَادِثَةٍ (أَوْ) يَزْعُمُ طُرُوءَ (الْفَنَاءِ) عَلَيْهِ (أَوْ) يَصِفُهُ بِالْجِسْمِيَّةِ أَوْ بِصِفَاتِ (الْجِسْمِ) كَالصُّورَةِ (أَوِ اللَّوْنِ أَوِ الشَّكْلِ أَوِ الْكَمِيَّةِ أَىْ مِقْدَارِ الْحَجْمِ) أَوِ الْحَدِّ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ لِلْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ وَتَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الشُّورَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ (أَمَّا مَا وَرَدَ فِى الْحَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ) [رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ] اﻫ (فَلَيْسَ مَعْنَاهُ جَمِيلَ الشَّكْلِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ جَمِيلُ الصِّفَاتِ) أَىْ كَامِلُهَا (أَوْ) مُجْمِلٌ أَىْ (مُحْسِنٌ)[1] وَكَذَا مَا رُوِىَ فِى حَدِيثِ التِّرْمِذِىِّ إِنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ اﻫ فَمَعْنَاهُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ السُّوءِ وَالنَّقْصِ وَيُحِبُّ لِعِبَادِهِ نَظَافَةَ الْخُلُقِ وَالْعَمَلِ وَالثَّوْبِ وَالْبَدَنِ.
(ثَانِيهَا) أَىْ ثَانِى أَبْوَابِ الْكُفْرِ (التَّكْذِيبُ) أَىْ (تَكْذِيبُ مَا وَرَدَ فِى الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ أَوْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهٍ ثَابِتٍ وَكَانَ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ) أَىْ بِحَيْثُ يَعْرِفُ الْجَاهِلُ وَالْعَالِمُ أَنَّهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الدِّينُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى تَفَكُّرٍ وَاسْتِدْلالٍ فَمَنْ رَدَّ أَمْرًا مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الأُمُورِ بَعْدَ مَا كَانَ بَلَغَهُ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَقَدْ كَفَرَ بِخِلافِ مَا لَوْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدِ بِإِسْلامٍ أَوْ نَحْوَهُ فَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ الأَمْرُ لِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَا يَقُولُهُ مُخَالِفٌ لِلدِّينِ فَلا يَكْفُرُ.
وَمِثَالُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكُفْرِ نَفْىُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَ(كَاعْتِقَادِ فَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَتَىِ النِّسَاءِ وَالتَّوْبَةِ ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ وَلِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَوْتَ يُذْبَحُ فِى الآخِرَةِ ثُمَّ يُنَادِى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ اﻫ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ (أَوِ) اعْتِقَادِ (أَنَّ الْجَنَّةَ لَذَّاتٌ غَيْرُ حِسِّيَّةٍ وَأَنَّ النَّارَ ءَالامٌ مَعْنَوِيَّةٌ) إِذْ هَذَا تَكْذِيبٌ لِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْحَاقَّةِ ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ وَلِصَرِيحِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿كُلَمَّا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ (أَوْ إِنْكَارِ بَعْثِ الأَجْسَادِ وَالأَرْوَاحِ مَعًا) لِأَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾ (أَوْ إِنْكَارِ وُجُوبِ الصَّلاةِ) أَىِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ (أَوِ الصِّيَامِ) أَىْ صِيَامِ رَمَضَانَ (أَوِ الزَّكَاةِ) عِنْدَ اكْتِمَالِ شُرُوطِ وُجُوبِهَا (أَوِ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِ الطَّلاقِ) عَلَى الإِطْلاقِ أَوْ تَحْرِيمِهِ بِغَيْرِ رِضَى الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الطَّلاقِ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ (أَوْ تَحْلِيلِ الْخَمْرِ) فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْمَائِدَةِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ فَهَاتَانِ الآيَتَانِ تُفْهِمَانِ التَّحْرِيمَ الشَّدِيدَ وَلِهَذَا قَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ لَمَّا سَمِعَهُمَا انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا اﻫ رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ وَأَرَاقَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَمَا نَزَلَتَا الْخَمْرَ حَتَّى جَرَتْ فِى شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ (وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا) يُكَذِّبُ مَا (ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وَظَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ) كَاعْتِقَادِ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ أَوْ بَعْضَهَا كَانَ صَالِحًا لِلنَّاسِ فِى زَمَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ لا يَصْلُحُ لِلنَّاسِ فِى أَيَّامِنَا فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الإِسْرَاءِ ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ﴾ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ ﴿وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْءانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآىِ وَالأَحَادِيثِ (وَهَذَا بِخِلافِ مَنْ يَعْتَقِدُ بِوُجُوبِ الصَّلاةِ عَلَيْهِ مَثَلًا لَكِنَّهُ لا يُصَلِّى فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاصِيًا لا كَافِرًا كَمَنْ يَعْتَقِدُ عَدَمَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ) وَمِثْلُهُ مَنْ يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ الْخَمْرِ لَكِنَّهُ يَشْرَبُهَا وَالْبِنْتُ الَّتِى تَعْتَقِدُ أَنَّ لَهَا نِصْفُ مَا لِأَخِيهَا مِنْ تَرِكَةِ وَالدِهِمَا لَكِنَّهَا تَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْقَانُونِ الْوَضْعِىِّ وَالْمُطَلَّقَةُ الَّتِى تَعْتَقِدُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ لَهَا أَخْذُ مَا زَادَ عَنْ حَقِّهَا مِنَ الزَّوْجِ لَكِنَّهَا تَفْعَلُ ذَلِكَ فَتُشَاطِرُهُ مَالَهُ بِحُكْمِ الْقَانُونِ الْوَضْعِىِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْتَقِدَ جَوَازَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ الْحَاكِمُ الَّذِى لا يُفَضِّلُ الْحُكْمَ بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ عَلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِىِّ أَىْ لا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَفْضَلُ وَأَحْسَنُ لَكِنَّهُ يَحْكُمُ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ لِرِشْوَةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهَؤُلاءِ كُلُّهُمْ مُسْلِمُونَ عُصَاةٌ لا كُفَّارٌ.
(ثَالِثُهَا) أَىْ ثَالِثُ الأَبْوَابِ (التَّعْطِيلُ أَىْ نَفْىُ وُجُودِ اللَّهِ وَهُوَ أَشَدُّ الْكُفْرِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَرَاتِبُ بَعْضُهُ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ وَأَشَدُّهُ عَلَى الإِطْلاقِ التّعْطِيلُ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ جَاءَ فِى الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْهُدَى مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مَا يَكْفِى وَيَشْفِى فِى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَنَصْبِ الأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْك الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ قَالَ الإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِى تَفْسِيرِهِ نَزَلَ عَلَى النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمٰنُ الرَّحِيمُ﴾ فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَيْفَ يَسَعُ النَّاسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَهُ ﴿إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْك الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ فَبِهَذَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ إِلَهُ كُلِّ شَىْءٍ وَخَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ اهـ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِى حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ كَذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ اهـ
وَزَادَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَلامَ بَيَانًا فَقَالَ فِى كِتَابِ الدَّلِيلِ الْقَوِيمِ
فَائِدَةٌ. ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مَعْرِفَةُ الدَّلِيلِ الْعَقْلِىِّ الإِجْمَالِىِّ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى كَأَنْ يَقُولَ الشَّخْصُ فِى نَفْسِهِ الْكِتَابَةُ لا بُدَّ لَهَا مِنْ فَاعِلٍ وَالْبِنَاءُ لا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَالْكِتَابَةُ وَالْبِنَاءُ جُزْءٌ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ فَهَذَا الْعَالَمُ بِالأَوْلَى لا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ خَلَقَهُ لا يُشْبِهُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ أَوْ يَقُولَ فِى نَفْسِهِ أَنَا كُنْتُ بَعْدَ أَنْ لَمْ أَكُنْ وَمَا كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لا بُدَّ لَهُ منِ مُكَوِّنٍ فَإِذًا أَنَا لا بُدَّ لِى مِنْ مُكَوِّنٍ كَوَّنَنِى مَوْجُودٍ لا يُشْبِهُ شَيْئًا وَهَكَذَا سَائِرُ أَفْرَادِ الْعَالَمِ لا بُدَّ لَهَا مِنْ مُكَوِّنٍ كَوَّنَهَا لا يُشْبِهُهَا بِحَالٍ. أَمَّا الدَّلِيلُ الْعَقْلِىُّ التَّفْصِيلِىُّ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ وُجُوبًا كِفَائِيًّا وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ الْعَالَمُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُحْدَثٌ إِذْ هُوَ أَعْيَانٌ أَىْ أَحْجَامٌ وَأَعْرَاضٌ أَىْ صِفَاتُ الأَحْجَامِ فَالأَعْيَانُ جَمْعُ عَيْنٍ وَهُوَ مَا لَهُ قِياَمٌ بِذَاتِهِ[2] وَالْعَرَضُ مَا لا يَقُومُ بِذَاتِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ[3] وَالأَعْيَانُ لا تَخْلُو مِنَ الأَعْرَاضِ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ مُدْرَكٌ بِالْبَدِيهَةِ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ حَادِثَانِ لِأَنَّهُ بِحُدُوثِ أَحَدِهِمَا يَنْعَدِمُ الآخَرُ فَمَا مِنْ سَاكِنٍ إِلَّا وَالْعَقْلُ قَاضٍ[4] بِجَوَازِ حَرَكَتِهِ وَمَا مِنْ مُتَحَرِّكٍ إِلَّا وَالْعَقْلُ قَاضٍ بِجَوَازِ سُكُونِهِ[5] فَالطَّارِئُ مِنْهُمَا حَادِثٌ بِطَرَيَانِهِ[6] وَالسَّابِقُ حَادِثٌ لِعَدَمِهِ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ قِدَمُهُ لَاسْتَحَالَ عَدَمُهُ[7] فَالأَعْرَاضُ حَادِثَةٌ. وَالأَعْيَانُ حَادِثَةٌ لِأَنَّهَا مُلازِمَةٌ لِلأَعْرَاضِ الْحَادِثَةِ[8] وَمَا لا يَخْلُو عَنِ الْحَادِثِ حَادِثٌ[9] لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَادِثًا لَكَانَ قَبْلَ كُلِّ حَادِثٍ حَوَادِثُ لا أَوَّلَ لَهَا[10] وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ وُجُودَ حَوَادِثَ لا أَوَّلَ لَهَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِحَالَةَ وُجُودِ الْحَادِثِ الْحَاضِرِ[11] لِأَنَّ انْقِضَاءَ مَا لا نِهَايَةَ لَهُ مُحَالٌ وَوُجُودُ الْحَادِثِ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ بِالْحِسِّ فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِوُجُودِ حَوَادِثَ لا أَوَّلَ لَهَا. وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ فِى إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِحَوَادِثَ لا أَوَّلَ لَهَا مَا كَفَى وَشَفَى فَمَثَّلُوا ذَلِكَ بِمُلْتَزِمٍ[12] قَالَ لا أُعْطِى فُلانًا فِى الْيَوْمِ الْفُلانِىِّ دِرْهَمًا حَتَّى أُعْطِيَهُ دِرْهَمًا قَبْلَهُ وَلا أُعْطِيهِ دِرْهَمًا قَبْلَهُ حَتَّى أُعْطِيَهُ دِرْهَمًا قَبْلَهُ وَهَكَذَا لا إِلَى أَوَّل فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِعْطَاءَ الدِّرْهَمِ الْمَوْعُودِ بِهِ فِى الْيَوْمِ الْفُلانِىِّ مُحَالٌ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مُحَالٍ وَهُوَ فَـَراغُ مَا لا نِهَايَةَ لَهُ مِنْ إِعْطَائِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَىْءٍ وَلا رَيْبَ أَنَّ ادِّعَاءَ حَوَادِثَ لا أَوَّلَ لَهَا مُطَابِقٌ لِهَذَا الْمِثَالِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الأَعْيَانَ حَادِثَةٌ وَالأَعْـَراضَ حَـادِثَةٌ فَالْعَالَمُ حَادِثٌ لَهُ بِدَايَةٌ. ثُمَّ الْحَادِثُ مُحْتَاجٌ إِلَى مُحْدِثٍ فَاعِلٍ بِالإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ وَلا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْعَالَمِ بِالصِّدْفَةِ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُحِيلُ وُجُودَ شَىْءٍ مَا بِدُونِ فَاعِلٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ مُحَالٌ وَهُوَ تَرَجُّحُ وُجُودِ الْجَائِزِ عَلَى عَدَمِهِ بِدُونِ مُرَجِّحٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ وَعَدَمَهُ مُتَسَاوِيَانِ عَقْلًا فَلا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى مُقَابِلِهِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ[13]. وَكَذَلِكَ لا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَالَمُ خَلَقَ نَفْسَهُ لِأَنَّ فِى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ خَلَقَ زَيْدٌ نَفْسَهُ فَقَدْ جَعَلْتَهُ قَبْلَ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارٍ وَمُتَأَخِّرًا عَنْ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارٍ فَبِاعْتِبَارِ خَالِقِيَّتِهِ جَعَلْتَهُ مُتَقَدِّمًا وَبِاعْتِبَارِ مَخْلُوقِيَّتِهِ جَعَلْتَهُ مُتَأَخِّرًا وَذَلِكَ مُحَالٌ عَقْلًا. وَلا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُحْدِثُ طَبِيعَةً لا اخْتِيَارَ لَهَا وَلا إِرَادَةَ إِذْ لا يَتَأتَّى مِنْهَا تَخْصِيصُ الْمُمْكِنِ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ وَبِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ أَوْ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ. وَلا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثُ الْعَالَمِ أَزَلِيًّا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَزَلِيًّا لَلَزِمَ حُدُوثُهُ فَيَفْتَقِرُ إِلَى مُحْدِثٍ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ أَوِ التَّسَلْسُلُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُحَالٌ فَالتَّسَلْسُلُ هُوَ تَوَقُّفُ وُجُودِ شَىْءٍ عَلَى شَىْءٍ قَبْلَهُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى شَىْءٍ قَبْلَهُ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ وَهَذَا مُحَالٌ كَمَا بَيَّنَّا وَالدَّوْرُ تَوَقُّفُ وُجُودِ الشَّىْءِ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَيْهِ وَهَذَا أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَقَدُّمُ الشَّىْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ تَوَقُّفِ وُجُودِهِ عَلَى سَبْقِ وُجُودِ غَيْرِهِ الْمَسْبُوقِ بِوُجُودِهِ هُوَ فَيَكُونُ سَابِقًا لِنَفْسِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَتَأَخُّرُهُ عَنْهَا بِاعْتِبَارِ تَأَخُّرِ وُجُودِهِ عَنْ وُجُودِ غَيْرِهِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ وُجُودِهِ هُوَ فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْ نَفْسِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَثَبَتَ أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ مُحْدِثًا أَزَلِيًّا فَاعِلًا بِالإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ[14] وَهُوَ اللَّهُ. انْتَهَى كَلامُ شَيْخِنَا رَحِمَهُ اللَّهُ بِبَعْضِ تَصَرُّفٍ.
وَمِنْ أَشَدِّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ كُفْرُ الْحُلُولِ أَىِ اعْتِقَادُ حُلُولِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ فِى الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ فِى بَعْضِهَا وَكُفْرُ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ أَىِ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَالْعَالَمَ وَاحِدٌ وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَالَمُ وَأَفْرَادَهُ أَجْزَاءٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ.
(وَحُكْمُ مَنْ يُشَبِّهِ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ التَّكْفِيرُ قَطْعًا) لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ تَعَالَى وَلَمْ يَعْبُدْهُ بَلْ عَبَدَ صُورَةً تَوَهَّمَهَا وَشَيْئًا تَخَيَّلَهُ بِخَيَالِهِ وَهَذَا مَخْلُوقٌ بِلا شَكٍّ وَلَيْسَ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ (وَالسَّبِيلُ إِلَى صَرْفِ التَّشْبِيهِ) أَىْ إِلَى طَرْدِ خَوَاطِرِ التَّشْبِيهِ وَمَا يُوَسْوِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْهُ (اتِّبَاعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْقَاطِعَةِ) أَىِ الثَّابِتَةِ قَطْعًا وَيَقِينًا (مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَاللَّهُ بِخِلافِ ذَلِكَ وَهِىَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ) ذَكَرَهَا إِمَامُنَا الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَذُو النُّونِ الْمِصْرِىُّ ثَوْبَانُ بنُ إِبْرَاهِيمَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُمْ (وَهِىَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الشُّورَى (﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَمُلاحَظَةُ مَا رُوِىَ عَنْ) أَبِى بَكْرٍ (الصِّدِّيقِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ (شِعْرٌ مِنَ الْبَسِيطِ
الْعَجْزُ عَنْ دَرَكِ الإدْرَاكِ إِدْرَاكُ وَالْبَحْثُ عَنْ ذَاتِهِ كُفْرٌ وَإِشْرَاكُ)
أَىْ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ لا كَالْمَوْجُودَاتِ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ فِى النَّفْسِ وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا وَلَمْ يَبْحَثْ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ لِلْوُصُولِ إِلَى حَقِيقَتِهِ وَلَمْ يَتَخَيَّلْهُ بِخَيَالِهِ شَيْئًا كَالإِنْسَانِ أَوْ كَكُتْلَةٍ نُورَانِيَّةٍ أَوْ حَجْمًا فَوْقَ الْعَرْشِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا يُقَالُ عَنْهُ عَرَفَ اللَّهَ وَأَدْرَكَ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ بِهِ وَسَلِمَ مِنَ التَّشْبِيهِ وَهُوَ بِمَعْنَى مَا رَوَاهُ الْبَغَوِىُّ عَنْ أُبَىِّ بنِ كَعْبٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا فِى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ النَّجْمِ ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ قَالَ لا فِكْرَةَ فِى الرَّبِّ اﻫ أَىْ لا تُدْرِكُهُ تَصَوُّرَاتُ الْعِبَادِ وَأَوْهَامُهُمْ (وَ)كَذَا مُلاحَظَةُ (قَوْلِ بَعْضِهِمْ) كَابْنِ جُزَىٍّ فِى التَّسْهِيلِ (لا يَعْرِفُ اللَّهَ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى) اﻫ (وَمَعْرِفَتُنَا نَحْنُ بِاللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ عَلَى سَبِيلِ الإِحَاطَةِ بَلْ بِمَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى كَوُجُوبِ الْقِدَمِ) أَىِ الأَوَّلِيَّةِ بِلا بِدَايَةٍ وَلا سَبْقِ عَدَمٍ (لَهُ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَعَالَى) أَىْ يَسْتَحِيلُ عَقْلًا فِى حَقِّهِ (كَاسْتِحَالَةِ الشَّرِيكِ لَهُ وَ)مَعْرِفَةِ (مَا يَجُوزُ) عَقْلًا (فِى حَقِّهِ تَعَالَى كَخَلْقِ شَىْءٍ وَتَرْكِهِ) فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُوجِدُ مَا يَشَاءُ بِاخْتِيَارِهِ وَمَا لَمْ يَشَأْ وُجُودَهُ لا يُوجِدُهُ سُبْحَانَهُ وَهَذَا مَا يَقْصِدُهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا قَالُوا فُلانٌ عَرَفَ اللَّهَ. (قَالَ الإِمَامُ) أَحْمَدُ بنُ عَلِىٍّ (الرِّفَاعِىُّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى مَا رُوِىَ عَنْهُ بِالإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ فِى كِتَابِ الْحِكَمِ لَهُ وَفِى غَيْرِهِ (غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ) أَىْ أَقْصَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ (الإِيقَانُ) أَىِ الإِيمَانُ وَالْجَزْمُ بِالْقَلْبِ بِلا شَكٍّ (بِوُجُودِهِ تَعَالَى بِلا كَيْفٍ) أَىْ مِنْ غَيْرِ اتِّصَافٍ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ (وَلا مَكَانٍ) اﻫ أَىْ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى حَجْمًا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ إِذِ الْمَكَانُ هُوَ الْحَيِّزُ الَّذِى يَشْغَلُهُ الْحَجْمُ مِنَ الْفَرَاغِ فَمَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى غَايَةِ مَا يَبْلُغُهُ الإِنْسَانُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
(فَائِدَةٌ. قَالَ الْغَزَالِىُّ فِى إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ إِنَّهُ أَىِ اللَّهَ أَزَلِىٌّ لَيْسَ لِوُجُودِهِ أَوَّلٌ وَ)أَبَدِىٌّ (لَيْسَ لِوُجُودِهِ ءَاخِرٌ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ يَتَحَيَّزُ) وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِى لا يَتَجَزَّأُ مِنْ تَنَاهِيهِ فِى الْقِلَّةِ وَلا بِعَرَضٍ لا قِيَامَ لَهُ بِذَاتِهِ إِنَّمَا يَقُومُ بِالْجَوْهَرِ (بَلْ يَتَعَالَى وَيَتَقَدَّسُ عَنْ مُنَاسَبَةِ الْحَوَادِثِ[15] وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ) لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ (مُؤَلَّفٍ مِنْ جَوَاهِرَ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ) أَىْ خَالِقَهُ (جِسْمٌ لَجَازَ أَنْ تُعْتَقَدَ الأُلُوهِيَّةُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَوْ لِشَىْءٍ ءَاخَرَ مِنْ أَقْسَامِ الأَجْسَامِ) وَلِذَلِكَ قَالُوا إِنَّ الْمُجَسِّمَ الَّذِى يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ مَوْجُودٌ فَوْقَ الْعَرْشِ وَمَعَ ذَلِكَ يَدَّعِى الإِسْلامَ عَاجِزٌ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى عَابِدِ الشَّمْسِ كَمَا سَيَأْتِى بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (فَإِذًا لا يُشْبِهُ) اللَّهُ (شَيْئًا وَلا يُشْبِهُهُ شَىْءٌ بَلْ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ الَّذِى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَأَنَّى يُشْبِهُ الْمَخْلُوقُ خَالِقَهُ وَالْمُقَدَّرُ) أَىْ ذُو الْكَمِّيَّةِ (مُقَدِّرَهُ وَالْمُصَوَّرُ مُصَوِّرَهُ) اﻫ (فَلَيْسَ هَذَا) الَّذِى ذَكَرَهُ الْغَزَالِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ (الْكَلامَ الَّذِى عَابَهُ الْعُلَمَاءُ) فِى بَعْضِ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ نَحْوِ مَا رُوِىَ عَنِ الشَّافِعِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَأَنْ يُبْتَلَى الْمَرْءُ بِكُلِّ ذَنْبٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكَلامِ (وَإِنَّمَا عَابَ السَّلَفُ كَلامَ الْمُبْتَدِعَةِ فِى الِاعْتِقَادِ) وَهُوَ الَّذِى أَرَادَهُ الشَّافِعِىُّ عَلَيْهِ رِضْوَانُ اللَّهِ فِى مَا نُقِلَ عَنْهُ ءَانِفًا وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الرِّوَايَةُ الأُخْرَى لِكَلامِهِ الَّتِى رَوَاهَا الْبَيْهَقِىُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُمَا وَهِىَ الرِّوَايَةُ الْمُعْتَمَدَةُ لَأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلا الشِّرْكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَىْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَهْوَاءِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلامِ فِى الرِّوَايَةِ الأُخْرَى هُوَ كَلامُ أَهْلِ الأَهْوَاءِ. وَقَدْ أَفَاضَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِى شَرْحِ هَذَا الأَمْرِ وَإِيضَاحِهِ وَتَقْرِيرِهِ فِى تَبْيِينِ كَذِبِ الْمُفْتَرِى لَهُ فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ. وَمَا أَحْسَنَ مَا رَوَاهُ فِيهِ عَنْ أَبِى الْمَعَالِى الْجُوَيْنِىِّ أَنَّهُ قَالَ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ نَهَوْا عَنْ مَعْرِفَةِ الأُصُولِ وَتَجَنَّبُوهَا أَوْ تَغَافَلُوا عَنْهَا وَأَهْمَلُوهَا فَقَدِ اعْتَقَدَ فِيهِمْ عَجْزًا وَأَسَاءَ بِهِمْ ظَنًّا لِأَنَّهُ لا يُقْبَلُ عِنْدَ كُلِّ مَنْ أَنْصَفَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ فِى مَسْئَلَةِ الْعَوْلِ وَقَضَايَا الْجَدِّ وَكَمِّيَّةِ الْحُدُودِ وَكَيْفِيَّةِ الْقِصَاصِ بِفُصُولٍ وَيُبَاهِلُ عَلَيْهَا وَيُبَالِغُ وَيَذْكُرُ فِى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عِشْرِينَ دَلِيلًا لِنَفْسِهِ وَلِلْمُخَالِفِ وَيُشَقِّقُ الشِّعْرَ فِى النَّظَرِ فِيهَا ثُمَّ لا يَعْرِفُ رَبَّهُ الآمِرَ خَلْقِهِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْمُكَلِّفَ عِبَادِهِ بِالتَّرْكِ وَالتَّعْظِيمِ فَهَيْهَاتَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اﻫ وَالْمَقْصُودُ بِالْمُبْتَدِعَةِ فِرَقٌ كَثِيرَةٌ (كَالْمُشَبّـِهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَسَائِرِ الْفِرَقِ الَّتِى شَذَّتْ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ افْتَرَقُوا إِلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِذَلِكَ فِى حَدِيثِهِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ الَّذِى رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِى هُرَيْرَةَ) وَرَوَاهُ غَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ) عَلَى (إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِى إِلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِى النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِىَ الْجَمَاعَةُ) اﻫ (أَىِ السَّوَادُ الأَعْظَمُ) كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِى رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ.
(وَأَمَّا عِلْمُ الْكَلامِ الَّذِى يَشْتَغِلُ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ فَقَدْ عُمِلَ بِهِ مِنْ قَبْلِ الأَشْعَرِىِّ وَالْمَاتُرِيدِىِّ) فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ لِأَصْحَابِهِ وَعَلَّمَهُ الصَّحَابَةُ لِلتَّابِعِينَ وَالتَّابِعُونَ لِأَتْبَاعِهِمْ وَهَلُمَّ جَرًّا فَصَنَّفَ فِيهِ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ التَّابِعِينَ وَالإِمَامُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ (كَأَبِى حَنِيفَةَ فَإِنَّ لَهُ خَمْسَ رَسَائِلَ فِى ذَلِكَ وَ)سَمَّاهُ الْفِقْهَ الأَكْبَرَ إِيذَانًا وَإِعْلامًا بِأَنَّهُ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ وَأَفْضَلُ وَصَنَّفَ فِيهِ (الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ) كِتَابَ الْقِيَاسِ وَغَيْرَهُ وَ(كَانَ يُتْقِنُهُ حَتَّى إِنَّهُ قَالَ أَتْقَنَّا ذَاكَ قَبْلَ هَذَا) اﻫ (أَىْ أَتْقَنَّا عِلْمَ الْكَلامِ قَبْلَ) فُرُوعِ (الْفِقْهِ) ثُمَّ ظَهَرَ فِى الْقَرْنِ الثَّالِثِ الْهِجْرِىِّ إِمَامَانِ جَلِيلانِ أَحَدُهُمَا حَنَفِىُّ الْمَذْهَبِ كَانَ فِى بِلادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ يُدْعَى أَبَا مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِىَّ وَثَانِيهِمَا شَافِعِىُّ الْمَذْهَبِ كَانَ فِى بَغْدَادَ يُدْعَى أَبَا الْحَسَنِ الأَشْعَرِىَّ قَامَا بِنُصْرَةِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَشَرَحَا مَا جَاءَ فِى الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ وَكَلامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْضَحَا عَقِيدَةَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ وَنَصَرَاهَا بِالأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ رَدًّا عَلَى الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَعَلا شَأْنُهُمَا وَانْتَشَرَ كَلامُهُمَا وَفَرِحَ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَتَنَاقَلُوهُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ فَصَارَ لا يُقَالُ سُنِّىٌّ إِلَّا لِمَنْ كَانَ مَاتُرِيدِيًّا أَوْ أَشْعَرِيًّا وَالْكُلُّ مُتَّفِقُونَ فِى أُصُولِ الِاعْتِقَادِ وَلا خِلافَ بَيْنَهُمْ إِلَّا فِى بَعْضِ الْفُرُوعِ الَّتِى لا يُوجِبُ الْخِلافُ فِيهَا تَبْدِيعًا وَلا تَفْسِيقًا.
(27) كَمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِىُّ فِى الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ الْخَطَّابِىِّ.
(28) أَىْ لا يَقُومُ بِغَيْرِهِ بَلْ يَشْغَلُ حَيِّزًا فَلا يَقُومُ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ.
(29) كَالْحَرَكَةِ تَقُومُ بِجِسْمٍ مُتَحَرِّكٍ وَلا تَقُومُ بِذَاتِهَا فَلا تُوجَدُ الْحَرَكَةُ إِلَّا قَائِمَةً بِحَجْمٍ مُتَحَرِّكٍ.
(31) أَىْ لَمَّا كَانَ الْجِسْمُ فِى الشَّاهِدِ إِمَّا مُتَحَرِّكًا وَإِمَّا سَاكِنًا عُلِمَ جَوَازُ الأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ وَالأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فِى صِفَاتِ الْجِسْمِيَّةِ فَمَا جَازَ عَلَى أَحَدِهَا جَازَ عَلَى بَاقِى الأَجْسَامِ لِتَمَاثُلِهَا.
(32) أَىْ بِوُجُودِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ.
(33) لِأَنَّ مَا جَازَ عَدَمُهُ مُمْكِنٌ أَىْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مُرَجِّحٍ رَجَّحَ وُجُودَهُ عَلَى عَدَمِهِ فَهُوَ حَادِثٌ وَالْحَادِثُ لا يَكُونُ قَدِيمًا.
(34) كَالْجِرْمِ لا يَكُونُ إِلَّا مُتَحَرِّكًا أَوْ سَاكِنًا فَلا يَنْفَكُّ عَنِ الِاتِّصَافِ بِأَحَدِهِمَا فِى وَقْتٍ وَلا يَسْبِقُ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ كِلَيْهِمَا بِالْوُجُودِ.
(35) لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْبِقَهُ لِعَدَمِ جَوَازِ خُلُوِّهِ عَنْهُ.
(36) أَىْ لَوْ كَانَ الَّذِى تَطْرَأُ عَلَيْهِ الْحَوَادِثُ وَتَتَعَاقَبُ فِيهِ قَدِيمًا لَاسْتَلْزَمَ ذَلِكَ وُجُودُ حَوَادِثَ لا أَوَّلَ لَهَا.
(37) أَىْ لِأَنَّ وُجُودَ الْحَادِثِ الْحَاضِرِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى انْقِضَاءِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْحَادِثَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ.
(38) أَىْ بِمَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ.
(39) وَإِلَّا لَتَسَاوَى التَّسَاوِى وَالرُّجْحَان.
(40) أَىْ فَيُخَصِّصُ الْمُمْكِنَ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ وَبِصِفَةٍ دُونَ أُخْرَى وَبِوَقْتٍ دُونَ ءَاخَرَ.
(41) أَىْ يَتَقَدَّسُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْحَوَادِثِ وَعَنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا نِسْبَةٌ أَوْ قِيَاسٌ.